شكّل الأصل التونسي لهذا الكوميدي ذريعة لطمس انتمائه الثقافي والسياسي للمشروع الصهيوني الكولونيالي، الذي تصادم منذ نشأته مع مطالب التحرر العربي. وما تفعله منظومة الاستيطان الإسرائيلية كل ساعة على الأرض الفلسطينية دليل قوي على استمرار المواجهة التاريخية بين إرادتين تسيران على طرفي نقيض: الاحتلال الصهيوني/التحرر العربي.

هذه المعادلة التاريخية والحضارية لم تكن خيارا عربيا خاصا وإنما فرضها الغزاة بأسلحتهم وأساطيرهم القديمة وبوعود القوى الدولية. من خارج هذه المعادلة –التي يثبتها الواقع كل يوم- يرفع جزء من النخبة التونسية مطلبي “التعايش” و”الحوار” مع الغزاة، ضمن مقاربة حقوقية تدعو إلى الانفتاح والقبول بالآخر. وهكذا يذيعون تصورا عن الشخصية التونسية، التي يمتزج فيها الذكاء الاجتماعي بالواقعية والرصانة وحب التعايش مع الآخر من أجل مصلحة البلد (حتى وإن كان عدوا قوميا).

التّونَسة وتعميم الاستلاب والهزيمة

باستثناء الأعمال الجادة التي درست مفهوم التّونَسة ضمن المقاربات المعرفية لعلوم التاريخ والاجتماع والانتروبولوجيا، ظل هذا المفهوم أسيرا للاستخدام الإيديولوجي من طرف النخب والسلطة على حد السواء. وتظهر ملامح هذا الاستخدام كلما تعلق الأمر بتحديد موقف من القضايا العربية والإسلامية ومن ضمنها أساسا “القضية الفلسطينية”، لتعلو الأصوات النخبوية المنادية بتحكيم المصلحة الداخلية في اتخاذ المواقف إزاء هذه القضية التي تأخذ طابعا دوليا، وتنهل هذه الدعوى مبرراتها من معجمية “السلم” و”الحوار” و”التعايش” و”الانفتاح”. من هذا المنظور يغدو العدو “خصما”، وتصبح أسلحة القتل والاستيطان جزءا من ميزان القوة.

يبحث الخطاب التبريري للغزو عن الشرعية داخل تصوره الخاص للشخصية التونسية، تلك التي تجيد التموقع على قاعدة المصلحة الاقتصادية والتي تربت على دبلوماسية “الحياد البراغماتي”، والتي علمها التاريخ الطويل درسا كبيرا في الانفتاح على “أعدائها” و”أصدقائها”. هذا التصور المُلتحف بالتاريخ و”الاندماج الكوني” يهدف في الحقيقة إلى اجتثاث الذاتية التونسية من أعمق جذورها، لأنه يلغي ارتباطها الوثيق مع محيطها العربي بمصير مشترك، هذا المصير الذي ساهمت في نَحته الحملة الكولونيالية الغربية على عالمنا، وكان التحرر من “سادة البيض” الباحثين عن أسواق ومستعمرات جديدة عاملا مشتركا زوّد شعوب المنطقة بإرادة واحدة. ومازالت فلسطين المحتلة علامة دائمة على استمرار الكولونيالية الحديثة.

صحيح أن الشخصية التونسية هي محصلة تجربة تاريخية فريدة للإنسان التونسي منذ فجر التاريخ، وهو ما يزودها بطابع خصوصي مختلف، يجب الحفاظ عليه كسردية مُنتجة للمعنى التاريخي والثقافي. ولكنها ارتبطت أيضا في الأزمنة الحديثة بمصير حضاري وقومي جديد منسجم مع انتماءها الوسيط لحضارة الإسلام الظافرة في تلك الحقبة. وقد قاسمت العرب والمسلمين انحطاطهم الحضاري الحديث مثلما قاسمتهم الاستعمار الأجنبي، وحلمت مثلهم بالتحرر والتقدم والاستقلال والديمقراطية وغيرها من الأحلام التي سقط الكثير منها في مسالك التاريخ المتعرجة…

التعالي “الإرادوي” على هذا الواقع الحضاري من قبل بعض النخب السياسية والفكرية تحت يافطة “الخصوصية التونسية”، يكشف عن استراتيجيا عاكفة على تثبيت الشعور الجَمعي بالاستلاب القومي. وعلى هذا الأساس يتم تضخيم الانتماء المحلي على حساب الانتماء القومي والحضاري من خلال فك الارتباط بالمصير العربي، وتصبح الهزيمة العربية –التي تعد فلسطين إحدى تمظهراتها الكبرى- واقعا يجب التسليم به، ولما لا التعايش معه في ظل ممكنات التسوية المُتناسبة مع حجم الهزيمة ومع عتاد العدو. إنتاج القبول بواقع الانتكاسة يستحق “إيديولوجيا” تبرره وتجعله إنسانيا وعادلا رغم بشاعته، وهنا يجري الاستنجاد بمنظومة الحقوق الكونية لنثر مبادئ “السلام” و”القبول بالآخر” و”حقوق الأقليات”، ومن هذا المنظور يصبح الغزاة المدججين بأحدث أسلحة الاجتثاث والقتل رجالا طيبين، ينتمون إلى كونية العدل والسلام. ولكن بنادق الاحتلال أصدق من إيديولوجيا التعايش لأنها تعطي للعدو “هويته القاتلة”.

النخب المُطبّعة وأزمة الانفصام

اللاجئون إلى الاستثمار الأيديولوجي لمفهوم “التونسة”، يرفعون اعتراضا شهيرا على مشروع “الأسلمة” المندفع بالعنف والإلغائية التدميرية لكل مختلف ومُغاير ويريد تأسيس دولة لاهوتية على أنقاض الجثث الآدمية. نفس هذا الاعتراض لا يُرفع أمام “الثيوقراطية الصهيونية” التي وظفت الأسطورة اليهودية في بناء سردية الاحتلال وإقامة دولة دينية وعنصرية. ربما أفلح المشروع الصهيوني في التسويق لديمقراطية داخلية شكلانية –تحتفي بها النخب التونسية المُطبعة- ولكنه لا يستطيع هدم الأصول اللاهوتية لدولته المُؤسسة على اجتثاث الآخر واقتلاعه من جذوره، ولعل استمراره التاريخي في الهيمنة مربوط بالاتحاد الجمعي حول الأسطورة المقدسة.

إعدام المقارنة الفكرية بين مشاريع الأسلَمة المُدمّرة والمشروع الصهيوني -اللذان يشتركان في ربط المقدس بالعنف وبإرادة تأسيس دولة ثيوقراطية- يزود وعي النخب المُطبعة بانفصامية عجيبة، لأنها تتحمس إلى إدانة الأول من داخل منظومة الحقوق الكونية، بينما تسعى إلى إيجاد مبررات الالتقاء مع الثاني من داخل نفس المنظومة. وعادة ما يتم تبرير هذا الانفصام بإجراء مقارنة بين الواقع العربي المتخلف والأوضاع الداخلية لدولة الاحتلال التي تحمل مظاهر التقدم الغربي، وتخلص هذه المقارنة إلى الإقرار بأن المشكلة في العرب وليس في الغزاة.

هذه الاختزالية التبريرية تلغي من حساباتها التأثير السياسي والحضاري للمشروع الصهيوني على العرب والانسانية بشكل عام، هذا المشروع الذي عطل ممكنات قيام ديمقراطية عربية بعد موجة الاستقلالات وزود المنطقة بنموذج واقعي لبناء دولة دينية استيطانية، مُلهما بذلك الحركات الإسلاموية الجهادية التي انتشرت في أماكن كثيرة من العالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، ساعية إلى بناء “الدولة الإسلامية” في وجه “دولة اليهود” الحديثة.

بقيت المشكلة أن دعاة “التعايش” يسحبون على العدو صفات لا تتلاءم مع اتجهاته وطبائعه، لقد تعبوا من الإشارات السخية إلى “الانفتاح” رغم أن الاحتلال ينتج كل يوم انغلاقيته التاريخية بخطابه العنصري وأسلحته المدمرة وجداره العازل.