حسب ما راج من تعريفات مُتداولة في مواقع التواصل الاجتماعي، وأغلبها يصب في اتجاه واحد، فإن ”فرار“ تشير إلى نوعية من الناس لهم مظهر عادي لكن مع بعض المميزات التفصيلية، مثل حلاقة الشعر التي تكون عادة على شكل حلاقة لاعب كرة القدم الألماني ماركو رويس بقطع النظر عن طبيعة شعره إن كانت تتلاءم مع نوعية الحلاقة أم لا. ويلبس الـ”فرار“ بشكل عام مَلابسا بألوان ليست متناسقة وله طريقة مشي خاصة كما يراها البعض. ويُشاع عن الـ”فرار“ أيضا أنه مشاهد وفيّ لبرامج تلفزيون الواقع، مثل برنامج ”عندي ما نقلك“ أو ”أمور جدية“، أو مسلسل ”أولاد مفيدة“.

”فرار“: ترميز عنصري ضد سلوك اجتماعي

السلوك الذي يُوصم به ”الفرار“ أنه شديد التدين بشكل مفاجئ، وخاصة في حالات السكر. إن السمة التي وُصم بها هي ”النقاق الديني“ أثناء السكر يتذكر الحديث في مسائل دينية بحماس. ويقال عن ”الفرارات“ أن لهم نظرة سطحية وساذجة عن الحياة ولا يجيدون أي مناقشة أو حديث في السياسة أو الفلسفة أو الفكر. وللـ”فرار“ ميولات موسيقية معروفة بشكل عام وهي أغاني الراب التي فرضها التيار السائد ويضع سماعات في أذنيه، وغالبا ما يظهر في صوره المنشورة على صفحته الخاصة بالفايسبوك جالسا على دراجة نارية (فيسبا) من نوع ”بوستر“.

هذه التداولية التي ارتكزت بالأساس على مقاربة السلوك الظاهر لتمييز ”الفرار“، يعد أحد العمليات التي يتقنها الذهن الإنساني في تحويل صورة تواترت بكثافة لدى الشخص حتى استطاع ـ بعد تنميطها ـ أن يحولها إلى كلمة وبالتالي رمز. وتَحدث هذه العملية المفاهيمية أثناء اختراع المصطلحات العلمية والاجتماعية والفنية وغيرها، لكنها أيضا تؤدي إلى ابتكار كلمات تنمّط الشكل الإنساني وتحيل إلى الحكم عليه بشكل مسبق من خلال مظهره، ومن هنا ينشأ الفعل المشين القائم على العنصرية والتفريق بين الناس على أساس المظهر.

تمايز اجتماعي بواسطة اللغة أو الحڨرة

”فرار“، مصطلح تم إدماجه في التداولية التواصلية من قبل مجموعة من الأشخاص التي تعتبر نفسها ذات حظوة اجتماعية وطبقية، وذلك لوصم أشخاص معينين لهم ملامح سلوكية خاصة هي تلك التي سبق عرضها. وقد انبثق المعنى الذي تحمله كلمة ”فرار“ من احتكاك اجتماعي بين القائل (وهم أصحاب الحظوة الاجتماعية من اللذين يمتلكون صورة اجتماعية معينة، في الغالب تكون صورة المثقف الرصين أو الشباب المتمكنين من نواميس وأعراف السهر والعلب الليلية) وبين موضوع القول (الفرار). وقد يكون هذا الاحتكاك مكانيا (فضاءات السهر الليلي كالشواطئ والعلب الليلة ومهرجانات الموسيقى الإلكترونية) أواشتراكا في الفضاء العام كالشارع والإدارات أوالجامعة وغيرها…

الاشتراك في الفضاء ـ مهما كان نوعه ـ بين عدد متنوع من الناس أدى بالصنف الاجتماعي -الذي يعتبر نفسه ذي حظوة- إلى خلق تصور خاص عن صنف آخر من الناس، يُنظر إليه على أنه ”متخلف“ أو ”ذي سلوك متأخر ورجعي“ مقارنة به. وقد أدى هذا التصور إلى تقييم الأشخاص عبر مظهرهم وتصنيفهم بشكل آلي من خلال كلامهم أو لباسهم أو حلاقة الشعر أو أفكارهم، ووضعهم جميعا في سلة واحدة وهي ”الفرار“، الكلمة التي باتت تعبر عن مدلول عنصري، أوهي نوع من ”الحڨرة“.

ويجد هذا التفسير تأصيله في نظرية “التواصلية الرمزية” (L’interactionnisme symbolique) التي ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1930 عبر جورج هربرت ميد أستاذ علم النفس الاجتماعي بجامعة شيكاغو. وترتكز هذه النظرية على اعتبار التفاعل بين الأفراد داخل المجتمع قائما على إنتاج الرمز والمعنى عبر اللغة. أي بمعنى أن الفرد ينظر إلى الآخر من خلال مظهره وسلوكه ويقيمهما من خلال مرجعية سلوكية معينة، ثم يقع وصم الآخر بسمة لغوية تختزل ذلك التقييم. وينقد ”جورج هربرت ميد“ المجتمع من خلال نظريته، مؤكدا أن التفاعلية الرمزية مدخل للتأكد من أن الناس ”تفكر من داخل نسق معياري واحد“ وأنه لجماهير الأفراد في مجملهم سلم قيمي واحد ومشترك يقيسون به درجة قرب الآخر من ابتعاده عنهم، ومن هنا تظهر التصنيفات العنصرية المشاعة بين الناس في ما يتعلق بلون البشرة مثلا أو اللغة أو العرق أو الفكر أو ”الفراريزم“.

فيسبوك يؤسس لمنظومة لغوية أخرى

لو لم تكن وسائل التواصل الاجتماعية أو الميديا الجديدة لما كان لمصطلح ”فرار“ أي قيمة تداولية بين المستعملين. فقد استقى المصطلح الهجين قيمته السيميائية (أي أصبح له معنى داخل الخطاب) من خلال منشورات فيسبوك التي يقوم بها القائلون.

ويمكن رصد العديد من المنشورات والصفحات على موقع فايسبوك التي أججت تداول مصطلح ”فرار“ وأعطته المعنى الذي هو عليه الآن، وجعلت من القائل الافتراضي في مرتبة الحظوة الاجتماعية ”النخبوية والراقية“ من دون إشارة واضحة إلى موضوع القول (الفرار). بل اكتفى القائل على فيسبوك بذكر السمات والعلامات المميزة لل”فرار“ ونشر صور عن نماذج سلوكية وأفعال، بما يخلق ارتباكا بين المستعملين: هل عندما أحلق شعري بهذه الكيفية (بينما أنا مهتم بفلسفة الفارابي مثلا) أكون ”فرار“ أو ”جبري“ أو ”قعر“؟ وهل عندما ألبس لباسا معينا أصنّف آليا ضمن تلك الفئة؟ هل عندما أتشارك نمطا موسيقيا معينا مثل أغنية بلطي ”ولّا لالا“ أصبح متخلفا؟ ماذا عن القائل في ذاته؟ ألا يمكن أن يكون هو ذاته ”فرارا“ ويتخفى وراء شاشة وموقع تفاعلي خدّاع؟ وماذا عن حرية الناس وقناعاتهم وميولاتهم؟ ألا يمكن أن يكون وصم ”فرار“ انتاجا لغويا لذهنية عنصرية عدائية تمس من حرية الناس؟

أصبحت مواقع الميديا الجديدة مَحملا إعلاميا لترميز اجتماعي ينزع نحو التعميم. ولئن كانت هذه المواقع نماذج حية لتحول الميديا الكلاسيكية إلى نوافذ فردية للإخبار عن النفس واستقاء أخبار العالم والآخرين، إلا أنها أصبحت في ذاتها محملا لإعادة إنتاج تصورات جمعية مشتركة حول مسائل مستحدثة (تماما كتأثير التلفزيون أو الراديو سابقا) لفرض اتجاه تفكير معمم على الجميع بالرغم من كون الفكرة أو النظرة مرتبطة بمجموعة صغيرة لا وزن لها من حيث العدد، لكنها تمتلك سلاح اللغة والتمكن من التقنية. وليست ظاهرة ”الفرار“ فقط هي التي تثبت ذلك، بل سلوكات أخرى عديدة قد فرضها فيسبوك من منطلق الاعتقاد بأن ذلك السلوك هو ما يجب أن يكون“، مثل تصوير الأكل ونشر الصورة على إنستاغرام أو فيسبوك، أو التعليق على كل الأحداث والمناسبات دون استثناء، إلخ…

ليس ”الفرار“ هو ذلك الشخص المتخلف ذو الحلاقة الخاصة واللباس المميز والسلوك الاستثنائي، بل إن المسألة وما فيها أن البعض يريد فرض نظرته ورؤيته على الجميع من خلال منظومته القيمية والسلوكية الخاصة بدعم من التقنية التواصلية الافتراضية.