مكناسي، احتجاجات 14 جانفي 2017

بعد انتفاضة 2011، انتشرت الحركات الاجتماعية على امتداد الجغرافيا الوطنية، مُحرّكة وراءها العديد من القطاعات والجهات والفئات، ليختلط فيها الطابع الخصوصي بالهدف العام في الكثير من الأحيان. هذا الواقع الجديد الذي انفتحت عليه حركة المجتمع بشكل عام، شهد تُخمة كمية في الاحتجاج دون أن يترك تأثيرا كيفيا في السياسات الاقتصادية والاجتماعية الرسمية. من هذا المنطلق انبثق شعور قوي لدى الفاعلين الاجتماعيين بقصور دينامية الاحتجاج الدوري على فرض التغيير، مُنتجا معه العديد من الأسئلة حول بنية الحركات الاحتجاجية وأهدافها وأشكال تنظمها، وهذه الأسئلة يجري تداولها في الأوساط المتابعة للحركات الاجتماعية ولدى المنظمات والأحزاب الحاملة لتوجهات متقاطعة مع المطالب التي يرفعها الحراك الاجتماعي.

السياسة الحكومية بين الضبط والاستمالة

يلوح شتاء 2018 فصلا آخر، سيتجدد فيه الاحتجاج الاجتماعي ضد التهميش والبطالة والتفاوت الجهوي وغلاء المعيشة. هذا الجدول الدوري من المطالب ستُعيد إنتاجه حكومة يوسف الشاهد عبر سياساتها الاقتصادية والاجتماعية التي تتجه نحو فرض إجراءات تقشفية ورفع العبء الجبائي على الفئات المتوسطة والفقيرة، والضغط على كتلة الأجور عبر إيقاف الانتدابات في الوظيفة العمومية. رغم أن هذه الخيارات تسلّح النضال الاجتماعي بمشروعية الاستمرار، فإن الحكومة دأبت على مواجهة الحركات الاحتجاجية –المُستيقظة هنا وهناك- باستخدام الحل الأمني والتتبّعات القضائية وبتنشيط دعاية مُكثفة في الإعلام السائد، قائمة على استراتيجية التشكيك في أهداف الاحتجاجات من خلال إيجاد روابط بينها وبين ظاهرات أخرى مثل الإرهاب والتهريب.

هذه المواجهة النمطية التي بدأت تفقد فاعليتها في احتواء الأزمات الاجتماعية، سعت حكومة الشاهد إلى تطعيمها بسياستي التفاوض المَطلبي والإضعاف من الداخل. يجري التفاوض في معظم الأحيان حول المطالب الجزئية والخصوصية دون التفاوض حول الهدف السياسي العام الذي عادة ما يطرح إشكالات بنيوية مثل العدالة الاجتماعية والسيادة الوطنية وإعادة توزيع الثروة. هذه السياسة تُساهم في تصريف الأزمة الاجتماعية لأنها توفر حلولا آنية ذات طابع ”إخمادي“، علاوة على أنها تشكل منفذا لتجزئة الحركات الاحتجاجية وإضعافها من الداخل باستمالة جزء مُهم من قاعدتها الاجتماعية، الذي تحكمه عموما نزعة مطلبية. وفي بعض الأحيان تراهن الحكومة على قادة الاحتجاجات –نظرا لدورهم التعبوي- من خلال محاولة تقريبهم واستخدامهم في تعزيز موقفها التفاوضي.

سعت حكومة الشاهد أيضا إلى المراهنة على تغيير تركيبتها التفاوضية من خلال الدفع بوزرائها، القادمين من تجارب نقابية على غرار وزير الشؤون الاجتماعية محمد الطرابلسي أو محسوبين على تيارات ذات توجهات اجتماعية على غرار إياد الدهماني الناطق الرسمي باسم الحكومة، معولة في ذلك على دورهم في إقناع المحتجين واستمالتهم عبر التفاوض. وقد جُرِّبت هذه السياسة في بعض المحطات على غرار أزمة شركة بتروفاك بقرقنة.

الأزمة الهيكلية للحركات الاجتماعية

بالتوازي مع استراتيجيات منظومة الحكم المسرودة سابقا، يلوح واقع الحركات الاجتماعية نفسها موضوعا يستدعي المساءلة والنقد. رغم إمكاناتها الكفاحية والتعبوية ظلت هذه الحركات بعيدة عن إنجاز التغيير السياسي والاجتماعي الذي ينسجم مع تطلعاتها ومطالبها. هذه المفارقة الموضوعية بين قوة الحضور الاحتجاجي وضعف التأثير السياسي يكشف عن معضلات هيكلية تعيشها منظومة الاحتجاج الاجتماعي، على مستوى تنظيمي يبرز أساسا من خلال حضورها المتشتت وتحركّها كجماعات وكيانات غير متجانسة في تركيبتها وفي أهدافها وفي سقفها المطلبي، هذه المعضلة فَرَضها واقع التعدد والتنوع ولكنها تنتصب عائقا أمام انتقال الحركات الاجتماعية من وضع الاحتجاج الدوري إلى وضع القوة المُنظمة القادرة على التغيير. أما على المستوى السياسي فإن المعضلة الهيكلية الأخرى تتمثل في هيمنة الطابع المطلبي والخصوصي الذي أعاق إمكانية اندماج منظومة الاحتجاج الاجتماعي ضمن برنامج سياسي شامل، وفي بعض الأحيان توفر النزعات ”الشعبوية“ و”الجهوية“ التي تظهر في الخطاب الاحتجاجي فرصة للحكومات لتفعيل دعاية ضد الحركات الاحتجاجية، حتى تجردها من صبغتها الوطنية.

هذه المعضلات تسعى بعض القوى الحزبية الاجتماعية -التي تمثلها أساسا المعارضة البرلمانية- إلى حلّها عبر تبني هواجس هذه الحركات ومشاركتها نفس المطالب، ولكنها لا تملك مشاريع لهيكلتها أو تصورات سياسية –من خارج التصور الاجتماعي الكلاسيكي- تدل على فهم جديد للتحولات البنيوية التي تعيشها منظومة الاحتجاج الاجتماعي. أما الاتحاد العام التونسي للشغل فعادة ما يبرز كمتعاطف مع هذه الحركات كلما تقاطع حضورها المركزي أو الجهوي مع تجذره القطاعي والفئوي، ولعل التركيبة الاجتماعية لمعظم الحركات الاجتماعية التي تضم المعطلين والمهمّشين غير المؤطرين نقابيا، تبعده عن التفكير في إدماجها ضمن تركيبته، طالما أنها لا تغطي المجال الاجتماعي المعني بتأطيره (الأجراء).

من داخل المجتمع المدني، تبرز بعض المحاولات للتفاعل مع الأزمة الهيكلية لمنظومة الاحتجاج الاجتماعي، من بينها التنسيقية الوطنية للحركات الاجتماعية التي تأسست في سبتمبر 2016 بمبادرة من المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والإجتماعية. ورغم محاولاتها التنسيقية بين الحركات الاحتجاجية فإن هذا الهيكل يواجه العديد من الأسئلة المتعلقة بدوره التنظيمي والسياسي. ولعل هذه الهواجس يعبر عنها ناشطون في التنسيقية من ضمنهم رمضان بن عمر، عضو المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، الذي صرح لموقع نواة أنه ”من ضمن المشاكل الكبرى التي جعلت التنسيقية تلوح للبعض كإطار افتراضي إلى حد الآن أنها تمر بإشكال تنظيمي يواجه كل التنظيمات الأفقية على مستوى توسيع دائرة النقاش واتخاذ الأشكال النضالية وحسم القرارات“ مضيفا أن التنسيقية ”لاتطرح نفسها كقائد للحركات الاجتماعية بقدر ما تهدف إلى تعميق التضامن بينها والحفاظ على وحدتها الحركية“.

في ظل هذه التصورات الحزبية والجمعياتية يظل الرهان قائما حول استيعاب المشكلات الهيكلية التي تشق الحركات الاجتماعية، وبناء تصورات عمل جديدة متفاعلة مع نتائج الفهم. وبالتوازي مع ذلك يظل المنظور السلطوي قائما على تجديد استراتيجيات الاحتواء والتطويق، طالما أن الخيارات الاقتصادية والاجتماعية للحكم محافظة على خصائصها البنيوية.


تم دعم هذه الفيديو من قبل مؤسسة روزا لكسمبورغ من خلال الدعم المقدم لها من وزارة التعاون الاقتصادي و التنمية الألمانية.
إن محتوى هذه المطبوعة هو مسؤولية جمعية نواة ولا يعبر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.