في طريق الذهاب إلى سيدي بوزيد والعودة إلى اريانة، رحلة عجت بأسئلة حول ما ينتظرنا في منتدى المواطنين: كم سيكون عدد الحضور وكيف ستسير العمليّة التشاركية؟ كيف سيتفاعل المواطنون مع هذا الحدث وهل سيتقدّمون بمقترحات مشاريع؟ والأهمّ، كيف ستكون ردّة فعل المصالح البلدية إزاء هذه المقترحات؟ من جهة أخرى، مُثقلين بالسياق السياسي العامّ، خامرتنا عدّة أسئلة حول ارتدادات تأجيل الانتخابات البلدية على مشاركة المواطنين في اجتماعات الميزانية التشاركية، كأحد آليات الحكم المحلّي. وهل سيلعب غياب الإرادة السياسية نحو تركيز السلطة المحلية دورا في تنفير المواطنين؟ البحث عن إجابات عن هذه الأسئلة، إضافة إلى الرغبة في تسليط الضوء على منتديات المواطنين وكيفيّة تداول الميزانية التشاركية، كانت الدوافع الرئيسيّة لمتابعة الحدث في مدينتي سيدي بوزيد وأريانة.
استئناف بعد القطيعة
أشرفت بلدية أريانة يوم الأحد 23 سبتمبر 2017 على منتدى المناطق الثاني الخاصّ بمنطقة أريانة العليا مع حضور فريق من منظّمة الحركة الجمعياتية والمسيّرين التابعين لها ضمن مشروع الميزانية التشاركية بالبلديات. هناك التقينا رئيس الجمعيّة قريش جاوحدو الذي صرّح لنواة: “من الجيّد أننا تمكّنا من متابعة العمل على الميزانية التشاركية، فمن الصعب إقناع البلديات بالخروج عن توصيات الإدارة المركزية” ليواصل موضّحا، “عندما اتّصلنا بالبلديات لاستئناف العمل على الآلية، وجدنا تعاونا في كلّ من بلدية أريانة وسيدي بوزيد اللتين انطلقتا فعليّا في العمل على المخطط الاستثماري البلدي التشاركي مقترحين التأليف بين المنهجيتين”.
هذا وسبق أن عبّرت الجمعيّة عن استيائها من التضييق على آلية الميزانية التشاركية حين اعترضت هيئة الاستشراف والمصادقة على اللامركزية وصندوق القروض والمساعدات للجماعات المحليّة على اعتماد البلديات آلية الميزانية التشاركية في مراسلة وُجّهت للولاّة ولرؤساء النيابات الخصوصية بتاريخ 9 جوان 2017. وأشارت المُراسلة إلى أنّ “اعتماد الميزانية التشاركية لا يُمكّن البلديات من الانتفاع بالمساعدات التي تندرج ضمن برنامج التنمية الحضرية والحوكمة المحلية والذي يضمّ عديد الشروط والمراحل التي يجب استيفاؤها”، هذا وشدّد البلاغ على ضرورة التزام البلديات بمنهجية إعداد برنامج الاستثمار السنوي التشاركي -دون سواه- ” للتمكن من الانتفاع بالمساعدات الموظّفة وغير الموظّفة”.
بلدية أريانة وسيدي بوزيد اختارتا حلاّ وسطا لإرضاء جميع الأطراف من خلال الاعتماد المزدوج للمنهجيتين. هذا الخيار برّره كلّ من محمد صالح الخصخوصي رئيس المصلحة الفنية ببلدية سيدي بوزيد ومحمد بن محمود مدير الأشغال ببلدية أريانة اللذان أشارا إلى أنّ دور المخطّط التشاركي لا يقتصر على كونه جزء من عملية التخطيط للميزانية العامّة للبلدية، بل هو ضمان للحصول على المساعدات من صندوق القروض والمساعدات. الإدارة العامّة من جهتها، لم تُراجع قرارها بما يخالف المراسلة السابقة، وإنّما آثرت غضّ الطرف عن الاعتماد المزدوج للآليتين بعد البلبلة التي أعقبت مراسلة الولاّة ورؤساء النيابات الخصوصية، والتي أظهرتها من جديد في ثوب سلطة الإشراف المسيّرة للقرارات البلدية.
كيف سارت العملية؟
جنوبا وعلى بعد أكثر من 300 كلم على العاصمة، احتضنت المكتبة العمومية ابن خلدون بسيدي بوزيد، يوم السبت 23 سبتمبر 2017، منتدى المناطق الثالث بالحي الفلاحي وحي أولاد بالهادي وحي الفرايجية وحي الياسمين. تلك القاعة الشاسعة بدت خاوية مع حضور لم يتجاوز العشرين نفرا من الكهول. عزوف الشباب أثار استنكار رئيس المصلحة الفنية البلدية محمد صالح الخصخوصي الذي لم يجد إجابة عن سبب هذه المقاطعة رغم الجهود التي سبقت إعداد المنتديات. مشهد لم يقتصر على سيدي بوزيد، حيث لم يكن الحال أفضل في بلدية أريانة فيما يتعلّق بالتركيبة العمرية والجنسية للحضور. إذ اقتصرت مشاركة المواطنين في كلتا البلديتين على المعنيين بالنشاط البلدي عن قرب والموظّفين في الإدارات الجهوية في مركز الولاية والمشرفين على المكان الذي يحتضن الجلسة. هذا وقد لعب تغيير مكان الاجتماع في اللحظة الأخيرة ببلدية سيدي بوزيد دورا في التأثير على عدد الحضور.
مع تقدّم النقاشات خلال الجلستين في كلّ من سيدي بوزيد وأريانة استطعنا أن نفهم سبب اكتفاء النساء بالصمت طيلة المنتدى ومراقبة سير الاجتماعات من الصفوف الخلفية بعد أن تمحورت جلّ المشاريع المقترحة حول تعبيد الطرقات والتنوير العمومي والترصيف وتجميل المدينة دون التطرّق إلى خدمات أخرى أكثر تأثيرا في حياة المواطنين على غرار الصحّة أو التعليم.
مبدأ التشاركيّة الذي ازدانت به اليافطة المعلّقة في قاعة الاجتماعات، لم يعكس حقيقة ما دار خلال تلك الجلسة. حيث كان الأمر أشبه باجتماع دوري للمجلس البلدي. فمن منبرها في مقدّمة القاعة، أدارت المصالح البلدية المنتدى، لتقبل مقترحات مشاريع وترفض أخرى، متعلّلة بالميزانية المحدودة المخصّصة للغرض والتي لا تتجاوز 1.900 مليون دينار ببلدية سيدي بوزيد على سبيل المثال. أمّا مُقترحات المواطنين المتعلّقة بالنظافة والتي يعتبرونها ” ذات أولية كبرى” فتمّ تجاهلها باعتبارها من الأعمال الاعتيادية ضمن النشاط البلدي اليومي ولا تشملها الآلية التشاركية. في بلدية أريانة لم يختلف الوضع كثيرا حيث تمّ رفض العديد من المقترحات بتبريرات مختلفة. إذ تمّ إسقاط مقترحات خاصّة بتعبيد الطرقات على غرار عدد من الطرقات الوطنية كونها تدخل ضمن مشمولات وزارة التجهيز، كما استُثنيت المشاريع التي تمّ التصويت عليها سابقا، أو تلك التي لا تتبع المناطق المعنية في المنتدى، وغيرها من الأسباب التي استمرّت في التقليص من عدد المشاريع ومن قدرة المواطنين على الاقتراح والمبادرة.
مع إنهاء الاستماع إلى مقترحات المشاريع وقبل غلق المداولات والمرور إلى التصويت في ختام الجلسة، تطرّق المواطنون الحاضرون بمنتزه بئر بلحسن ببلدية أريانة إلى حقّهم في إنجاز مشاريع البنية التحتية وتجميل المدينة، ولآليات متابعتها خلال مختلف مراحل الإنجاز، وهو ما يضمنه المنهج التشاركي من خلال التصويت على ممثّلين عن الأحياء للعب هذا الدور. الجلسة لم تخل من التوتّر، حيث شبّ خلاف بين المواطنين وممثّلي المصالح البلدية حول جدول العمل الزمني المناسب. فالخلافات بدأت حين اقترح بعض الأهالي التفرّغ آخر الأسبوع وأيّام العطل لمتابعة المشاريع وهو ما أثار حفيظة أعوان البلدية المكلّفين بالأشغال والإطارات الإدارية البلدية الذين اعتبروا تنفيذ ومتابعة المشاريع جزء من العمل البلدي الذي يزاولونه خلال التوقيت الإداري. في المقابل لم يعرف الاجتماع في سيدي بوزيد مثل هذه الأجواء، نظرا لأن الطابع التوعوي طغى على المنتدى، عكس بلدية أريانة التي تخوض للسنة الثالثة على التوالي المنهج التشاركي في اعتماد المخطط الاستثماري.
اختتم منتدى المواطنين بعملية التصويت وفرز النتائج التي استمرّت إلى حدود منتصف نهار يوم السبت بسيدي بوزيد. ولئن كانت النتائج متوقّعة بالنسبة لمآلات المشاريع المقترحة إلاّ أنّ عملية الاقتراع شهدت إخلالات خلال التصويت على ممثّلي الأحياء. الملاحظة الأبرز تمثّلت في إقصاء العنصر النسائي إذ لم تحض الشابّة الوحيدة المُترشّحة عن حيّها سوى بصوت واحد مقابل تعادل الأصوات بين ثلاث مترشّحين عن صنف الرجال. ونحن نغادر سيدي بوزيد باتجاه العاصمة مرّة أخرى، وعلى امتداد الطريق الذي يشق عشرات البلديات، تأكدّنا من حجم النقائص التي تعاني منها بلديات البلاد شمالا وجنوبا. ولكن الاجتماعين في كلّ من سيدي بوزيد وأريانة عكسا هواجس المواطنين المرتبطة أساسا بحاجتهم للتنمية والخدمات الأساسية بمعزل عن المعارك السياسية التي اتخذت من الرهان الانتخابي البلدي ساحة جديدة لها. ومن بين عشرات الأسباب التي تفسّر عزوف الشباب عن هذه الجلسات، فإنّ أبرزها هو انعدام الثقة في الهياكل العمومية وجديّة الخطاب الداعي إلى التشريك الفعلي والأفقي للمواطن في عملية أخذ القرار.
iThere are no comments
Add yours