تغلغلت الذكورية السامة في طيّات المجتمع التونسي بشكل مرئي ولا مرئي. فالنظرة الذكورية المسيطرة والمقزّمة للمرأة ولحرياتها ولآرائها أخضعت الفضاء الخاص والعام لديناميكية عنيفة وسامة في علاقة الرجل التونسي بالمرأة. متى كانت آخر مرة استمعت فيها لزميل عمل يتحدث عما سيفعله جنسيا بزميلة أخرى؟ متى كانت آخر مرة استمعت إلى أحدهم ينعت فتاة تلبس سروالا ضيقا أو تنورة قصيرة ب”القحبة “؟ دعنا من هذا، متى كانت آخر مرة تركت تعليقا نابيا على صورة فنانة تونسية خلال حفلة افتتاح مهرجان ما؟ إن لم تكن أنت فاعلا أو شاهدا، فأنت بالتأكيد تعرف أو سمعت عن شيء من هذا القبيل وكانت إجابتك ابتسامة بلهاء.
تفشي التحرش الجنسي في تونس له عنوان: الدرجات الست من التباعد. فلكل واحد حكاية أو اثنان أو عشرة عن أخت أو صديقة أو زميلة عمل تعرضت إلى حادثة تحرش جنسي لفظي أو جسدي. أمام اللامبالاة العامة، أصبح المشهد عاديا: نظرات مُلحة ثم دعوات متكررة ثم شتائم كريهة. وقائع كثيرة عن تلمّس جسدي في الحافلة أو الميترو، عن منتج تلفزي معروف يقدم فرص عمل مقابل خدمات جنسية. لكن هناك ما هو أفظع، إذ تكثر على صفحات الفايسبوك سرديات لحوادث يومية تعرضن لها نساء تونسيات من مختلف الأعمار والطبقات الاجتماعية من عنف جسدي ومحاولة تحويل وجهة.
لكن هناك ما هو أفظع، أتذكر جيدا ما حصل لإحداهن داخل إحدى عربات المترو. كانت جالسة لوحدها حين اقترب منها وبشكل مريب رجل في منتصف العمر. لم تعر له اهتماما فقد اعتادت هذا النوع من الرجال لذلك كانت تبحث دائما عن مقعد لتتجنب الاحتكاك بهم. غير أن ما حدث لها ذلك اليوم غيَّر أشياء كثيرة: بينما كانت شاردة الذهن تحدق للخارج، أحست بشيء لزج في طرف يديها اليمنى ولما استطلعت السبب رأت الشخص الذي كان بجنبها وهو يغلق سوستة الجينز بعد أن أكمل إستمناءه. ذلك هو قبح الذكورية السامة.
وراء مادية ومرئية الذكورية السامة تكمن ثقافة لا مرئية أسست لها بشكل لا مباشر. هل قرأتم رواية ‘الطلياني’ للأديب التونسي شكري المبخوت؟ لاحظوا كيف جعل المبخوت من “زِينة” شخصية مضطربة مهزوزة تكمن أهميتها في قدرتها على إشباع النهم الجنسي للبطل عبد الناصر الطلياني، بشكل تحولت فيه إلى ‘نبتة شيطانية مذهلة قلَب لا تستقر على هيئة واحدة’. هل شاهدتم فيلم ‘تونس الليل’ لإلياس بكار؟ ركزوا كيف اقترنت شخصية “عزيزة” بثنائية التحرر وسوء المآل التي مازالت نزعة سردية رئيسية لدى مخرجين تونسيين تجمعهم صفة الذكورية. هناك برامج تلفزية تُذاع يوميا من قنوات وطنية وخليجية ترسّخ لهذه الذكورية السامة كبرنامج ‘عندي ما نقلك’ وغيرها.
طبعا هذه الذكورية السلبية ليست حكرا على الذكورية التونسية فقط فقد أصبحت القاهرة العاصمة الأكثر خطرا على المرأة في العالم في حين إهتز الرأي العام في المغرب بعد ظهور شريط فيديو حادثة اعتداء جنسي قام بها ستة شبان على فتاة في حافلة ركاب عمومية. ليس بعيدا عنا، شمالا مازالت حادثة انتحار تيزيانا كانتوني بعد تسرب مقاطع فيديو جنسية لها على شبكة الإنترنت تثير جدلا عاما حول الثقافة الذكورية والخصوصية الرقمية. كذلك مازالت شهادات وتهم التحرش الجنسي بعدد كبير من نجمات هوليود كميرا سارفينو وأشلاي جود تلاحق المنتج السينمائي الأمريكي هارفي وينستين، في حين تصدرت عناوين الصحف في مونتريال تهم التحرش الجنسي ضد جلبار روزان رئيس مجموعة فقط للضحك (التي تنتج مهرجانا للضحك في تونس). درجات الست من التباعد مجددا.
غير أن ما يختلف بين هنا وهناك هي طريقة التفاعل والمواجهة مع هذه الثقافة الذكورية السامة والعنيفة. مهم جدا هنا أن ننزلق نحو قراءات سخيفة متسرعة بين عالمهم “المتحضر” وعالمنا “المتخلف” فالتحرش الجنسي لا يحتكم للجغرافيا أو الطبقية. غير أنه تنعدم أي محاولة جدية للتطرق لهذا الموضوع ضمن حوار اجتماعي يشترك فيه الجميع بدون استثناء. هناك، يحتدم الجدل الاجتماعي وتتعالى دعوات المساندة والحماية لمن عاشوا تجارب تحرش وعنف جنسي ورغبة ملحة لتغيير الثقافة الذكورية العامة بشكل فعلي، وليس من خلال قوانين بالية أو غير برغماتية، الحرية والأمن بشكل كامل. هنا، يغلب قانون الصمت على الأشياء ويكثر استعمال عبارات “العيب” و “الحشمة” و “الستر” كحل أبوي وحيد لمشكلة التحرش الجنسي. هل يمكن لفنانة تونسية اليوم أن تعلن بشكل صريح وعلى الملأ عن واقعة تحرش جنسي تعرضت لها؟ ماذا عن المرأة التونسية في واقعها المليء بتجارب العنف الجنسي؟ في ظل أي رغبة إجتماعية وسياسية فعلية، أصبحت الذكورية السامة في تونس، كجاراتها مصر والمغرب، مرضا متفشيا تعانيه المرأة في تونس بشكل يومي بغض الظن عن انتمائها والطبقي والجغرافي والديني.
أرى أن العائق الأكبر أمام تفكيك هذه الهيمنة الذكورية هو الاحتفاء الزائف بفرادة التجربة التونسية في مجال حقوق المرأة. استُعملت المرأة التونسية كعملة سياسية خلال تجارب سياسية متعاقبة في تونس من بورقيبة مرورا ببن علي ووصولا إلى السبسي لتحسين صورة النظام في الخارج مقابل بعض الدعم للحريات الشخصية للمرأة من خلال مجلة الأحوال الشخصية ومؤخرا قانون الزواج بغير المسلم والدعوة للمساواة في الإرث. غير أن هذه الإصلاحات على أهميتها لم يرادفها اهتمام سياسي لتغيير الثقافة الذكورية المهيمنة. لاحظوا غياب الحضور الفعلي للمرأة التونسية داخل التركيبة السياسية للحكومة أو للحزب الحاكم. إذا كان هناك حرص فعلي على الحريات الشخصية للمرأة لما لا تدعم برامج عملية وواضحة لمقاومة العنف الجنسي في الفضاء العام. محاولة تغيير مجتمع ذكوري عن طريق قوانين علوية ولغو شعارات تحرير المرأة هو ذر للرماد على العيون. النشاط النسوي في تونس شيء مهم، لكن غياب الدعم السياسي الفعلي جعل تأثيره ثانويا أمام هيمنة أبوية دينية ذكورية وعنيفة. مازالت أدوات وطرق الحركة النسوية في تونس مُستغلة بشكل كبير من طبقة سياسية ذكورية بدل أن تكون بأيدي المرأة التونسية بشكل كامل.
ماذا يمكن للرجل التونسي أن يفعل أمام تغلغل الذكورية السامة؟ أن يغير أي سمة من سمات الهيمنة الذكورية فيه، أن يتدخل عندما يرى حادثة تحرش أو عنف جنسي، أوأن يصمت عندما تتكلم المرأة في هذا الشأن؟
iThere are no comments
Add yours