صورة مقتطفة من فيديو كليب “شعبي” لبنديرمان و أسماء عثماني

ارتبط مصطلح الموسيقى البديلة أساسا بالمزاج العام وبالتحولات السياسية الكبرى في المنطقة العربية، حيث صرنا نتحدّث عن الأغنية البديلة عوض الحديث عن الأغنية الملتزمة التي يمكن أن تكون بديلة هي الأخرى. سنهتمّ بعلاقة الموسيقى البديلة بالموسيقى السائدة التي لها جماليّاتها الخاصّة، ويبدو أن العديد من الفنانين غير قادرين على التنظير لمشاريعهم الموسيقية أو طرح نفسهم كبديل حقيقيّ للتيار السائد ويتضّح لنا هذا عند دراستنا لمختلف الإصدارات خلال السنوات الأخيرة بعد الثورة والتي ساهمت في تفجير طاقات فنّانين كانوا مغمورين في السابق كما ساهمت في ظهور فرق شبابية تحاول رسم ملامح جديدة للموسيقى في تونس.

تتميّز أغنية “شعبي” وهي آخر إصدارات أسماء عثماني وبندير مان بإيقاع سريع ولحن ينهل من معين الأغنية التراثيّة، حيث نسمع في مقاطع منها صوت البندير والقصبة، ولا تختصّ هذه الأغنية بمقوّمات جماليّة تختلف عن الأغنية السائدة وما نسمعه كلّ يوم حتى صارت الألحان متشابهة إلى حدّ بعيد ويمكن أن تذكّرنا آليّا بأغنيات أخرى. يختلف بندير مان في مدوّنته الغنائيّة الثريّة بأغنيات ساخرة ضدّ النظام عن أسماء عثماني التي لم تجد بعد خطّها الفنيّ والذي يمكن أن نقول أنّها بدأت نسبيّا تهتمّ بكل ما هو فلكلوريّ بعد تأديتها لأغنية “تمر الهندي” ثم أغنية “يمّة لسمر دوني” بتوزيع جديد. والواضح أن تأثير أسماء عثماني على الأغنية كان واضحا ولم يقدّم بندير مان الإضافة بأسلوبه الخاصّ الذي اعتدنا عليه، فقد تماهى هو الآخر منذ فترة مع الأغنية المنوّعاتيّة المُطعّمة بلمسات من التراث في محاولة لاكتشاف أوجه أخرى في شخصيّته الفنيّة. ولإعطاء بعد أعمق للأغنية التي تبدو كلماتها عاديّة إن لم نقل مُستهلكة تمّ حشو الفيديو كليب بمشاهد أقل ما يُقال عنها أنها تنضوي تحت لواء الكليشيهات ولم تنتج جماليّات جديدة. لا تهمّنا أغنية “شعبي” بقدر ما يهمّنا أنها منطلق للتفكير في الموسيقى البديلة في علاقتها بالموسيقى السائدة.

التغيرات السياسية تفرض المواجهة

أصبح مصطلح الموسيقى البديلة متداولا ومُشاعا بين الناس منذ سنوات قليلة جدّا، عندما تغيّر المشهد السياسي في عدد من الدول العربية وصار بالإمكان الحديث بأكثر حريّة. تظلّ هذه الحرية نسبية ومتفاوتة من دولة إلى أخرى ولكنّها سمحت بانتشار أوسع لأنماط موسيقية مختلفة ومتباينة كانت، تسبح ضدّ تياّر التجاريّ وتسعى جاهدة إلى الاستلهام من الموسيقى التقليدية.

لم ينتظر فنّانو الموسيقى البديلة أخذ “صكوك الغفران” من أجهزة الدولة ومن شركات الإنتاج الكبرى التي تحتكر السوق لاقتحام عالم الموسيقى وإبداع جمل وألحان مستوحاة من المخزون التراثي ومن صخب الحاضر. كان هدفهم وربّما مازال مقاومة التسليع وإنتاج أغنيات تتحدّث عن اليوميّ بعمق وسخرية. ما بين “البديل” و”السائد” أسئلة كثيرة يمكن أن نطرحها ولكنّنا سنكتفي بسؤال واحد: ماذا قدّمت الموسيقى البديلة أو بالأحرى هل نجحت الموسيقى البديلة في طرح نفسها كبديل موسيقيّ حقيقيّ يتعارض مع ما سبقه أو يُلغي ما سبقه؟

تعدّ الموسيقى التجارية جزءًا من “السائد”، حيث ساهمت بمحتواها في خلق وعي مشوّه عن الواقع، فهذه الموسيقى إذا ما اعتمدنا على تحليل ماركسي للذائقة السماعية يمكن اعتبارها أداة هيمنة إيديولوجية لنظام رأسمالي هدفه خلق متلق سلبي غير قادر على التفكير والنقد والمساءلة. وقد تحدّث الفيلسوف الألماني ثيودور أدورنو عن عملية إنتاج الموسيقى الجماهرية التي تقيّد المتلقّي وتفرض عليه نمطا موسيقيا واحدا، فبالنسبة له فإنّ الوظيفة الأساسية للموسيقى تتجسّد في تذكير الفرد الدائم بوضعه لتساعده على التطوّر الفكري ولتمكنّه من رفض الواقع القمعي وهو ما يتنافى مع منطق صناعة الثقافة تحت حكم أنظمة استبدادية: الثقافة في هذه المجتمعات تضطلع بدور “تخديريّ”.

الإجابة تكمن في المقوّمات الجماليّة

رغم ميل الكثيرين إلى هذا التحليل الذي لا يخلو من استدلالات منطقية وشواهد تاريخية فإنّ موسيقى الروك الثائرة والمتمرّدة على “السائد” لم تفقد عند البعض بريقها ورسالتها رغم خضوعها لآليّات الإنتاج الرأسمالي مع العلم أن كثيرين يقولون عكس ذلك. وهو ما يضع تحليل ثيودور تحت مجهر النقد خاصّة وأنّه من أنصار الموسيقى الكلاسيكية التي يعتقد أنّ بعدها الإستيتيقي عُلوي ويطغى على موسيقى العوام أو الموسيقى الفلكلورية. أصبحت شركات الإنتاج تهتمّ أكثر بالموسيقى البديلة نظرا إلى توسّع دائرة محبّيها والمقبلين عليها، وهذا الاهتمام غير نابع عن وعي بالقيمة الفنيّة والجمالية لهذه الموسيقى وإنّما هو اهتمام “نفعيّ” بالأساس وفق ما تضبطه الفلسفة السياسية الليبيرالية: يمكن للشباب التصعيد والتعبير بموسيقاهم عن أفكارهم دون المسّ بموازين القوى الاقتصادية، حق التعبير دون حق التغيير.

لم تقدّم الموسيقى البديلة بديلا حقيقيّا ولم تقم بانقلاب جذريّ على ما سبقها ولا يمكن لها ذلك لأن المعضلة الإبداعيّة تقوم دائما على استقراء وفهم الإنتاجات الفنية السابقة، الأخذ منها ومحاولة تجديدها دون إلغائها كليّا وهو ما يفعله العديد من الفنّانين غير المنمّطين أو ما تفعله الفرق الموسيقية الشبابية المستقلّة وذلك بتوزيع جديد ومختلف لبعض الأغاني التراثية أو تطعيمها بألحان حديثة. وحتى أولئك الذّين يبتدعون أغان جديدة بآلات غربية فإنها تظلّ دائما تدور في فلك الموسيقى الكلاسيكية. مصطلح الموسيقى البديلة إذن هو مصطلح هلامي وفضفاض ويفتقد لأسس نظريّة لأنّنا لو اعتمدناه كمقياس تفاضليّ فكيف يمكن بالتالي تصنيف موسيقى الزين الصافي والشيخ إمام وزياد الرحباني والسيد المكاوي ورضا الشمك والسيد درويش وجاهدة وهبي وميادة بسيليس وسميح شقير وناس الغيوان والشاب حسني وحتى حميد الشاعري الذي أحدث ثورة في عالم الموسيقى في التسعينات رغم اتهامه بإفساد الذوق العام.

ما الفرق بين ما تغنّيه إليسا، ونتحدّث هنا عن المحتوى، في أغنيتها “يا مرايتي” والتي تقول في كلماتها “مقهورة من غدر البشر، مهمومة قاتلني الضجر، في جروح عم تترك أثر ترسم طريق نهايتي يا مرايتي يلي بتعرفي حكايتي”، وبين ما تغنّيه مجموعة مسار إجباري في “لسّة الدنيا” والتي تقول “لسّه الدنيا فيها حاجات هنقابل كتير حكايات، هنفرح هنتألّم قصاد الدنيا بنسلّم تسيب جوّانا علامات”، يعني كيف يمكن أن نفصل “البديل” عن “السائد” أو التجاري. الإجابة تكمن في المقوّمات الجماليّة والتقنيّة والمنظومة الفكريّة التي يخضع لها الإنتاج الفنّي وهو ما تفتقده نسبيّا الموسيقى البديلة رغم أنّها تسبح ضدّ التيّار.