فيضانات وادي زليطن ووادي الجير بمطماطة الجديدة – قابس

ترتبط الكوارث الطبيعية كالحرائق أو الفيضانات، ارتباطا وثيقا بسياسات التعمير وبقدرة الدولة على التحكّم في المجال من خلال أدوات التهيئة العمرانية والترابية. وفي انتظار عرض مشروع مجلّة التعمير الجديدة على مجلس نوّاب الشعب والمصادقة عليه، لم تنجح جميع النصوص القانونية والأطر المنظّمة للغرض في التأسيس لسياسة عمرانية شاملة، واقتصرت في مجملها على إدماج المجال الحضري والتجمعات السكانية الكبرى ضمن أمثلة توجيهية وترابية.

وتتمثّل هذه السياسات في التخطيط المسبق واستشراف عمليات التهيئة عبر أدوات تحمي المتساكنين ضمن تواجدهم في مجالهم الترابي وخصوصيات هذا المجال، غير أنّ التجارب المتعاقبة أثبتت أنّ الأدوات المتوفّرة لا تُغطّي كافّة المجال وتفتقد للبعد الاستراتيجي في عمليّة التخطيط، ليتحوّل هاجسها ومهمّتها الرئيسيّة الإدماج بشكل لاحق وغير مسبق لعمليّة الإسكان. سياسات فشلت منذ الاستقلال إلى اليوم في خلق تصوّر تنموي مُستديم -أو بالأحرى على المدى البعيد والمتوسّط- ليقتصر دورها على تنظيم تراكمات التعمير العشوائي داخل المدن والتجمّعات السكانية الكبرى.

مناطق معزولة خارج مخططات التهيئة الترابية

تُعرّف التهيئة الترابية وفق مجلّة التهيئة الترابية والتعمير الصادرة في نوفمبر 1994 “بجملة الاختيارات والتوجهات والإجراءات التي يتمّ ضبطها على المستوى الوطني أو الجهوي لتنظيم استعمال المجال الترابي” وتأتي هذه المجلّة إثر عدّة محاولات لضبط إطار قانوني منظّم لمسألة التعمير في تونس، أوّلها في غرّة أفريل 1885 عبر سنّ رخصة البناء لأوّل مرّة كوسيلة للتحكّم في عمليات الإسكان والتعمير. لحقتها مجموعة من النصوص والأطر القانونية، بدءًا بالأمر المؤرّخ في 2 جانفي 1925 والمتعلّق بالأمثلة العامّة للتهيئة والتقسيمات، ثمّ الأمر المؤرّخ في 10 ديسمبر 1943 المتعلّق بالهندسة المعمارية والعمران، ثمّ المجلّة العمرانية في 15 أوت 1979، تلتها الإستراتيجية الوطنية للتهيئة والتعمير في جوان 1988. وأفضت هذه الإستراتيجية إلى سنّ مجلّة التهيئة الترابية والتعمير، وهي النصّ الجاري به العمل والذّي شملته العديد من التنقيحات.

يمثّل إحداث أمثلة التهيئة الترابية بشكل لاحق لتواجد التجمعات السكّانية وتضخّمها أحد السمات الرئيسيّة لمسألة التعمير في تونس، والتي تتجلّى ارتداداتها عند كلّ كارثة حضرية أو طبيعية. فتواجد المدرسة بمنطقة معزولة ليس إلاّ مثالا على ضعف سياسات التحكم في المجال. في هذا السياق، أشارت الجمعية التونسية لمخطّطي المدن في بيان “مناصرة من أجل سياسة للمدينة والمجال”، في 8 جويلية 2017 إلى أزمة “برنامج تحسين جودة نظام التعليم الوطني“، الذّي انخرطت فيه الدولة بتمويل من البنك الدولي في مارس 2007 لتُخالف من خلاله أمثلة التهيئة الترابية الموجودة، ويتمّ بناء وتهيئة عدد من المؤسسات التربوية خارج مجال أمثلة التهيئة وفي مناطق معزولة بتعلّة ارتفاع سعر الأراضي، وذلك رغم توفّر مساحات مخصّصة. وهو ما يعكس عدم رغبة أو قدرة الدولة على الضغط على المانحين الدوليين للالتزام بضوابط التحكّم في المجال، والتي تلتزم بها في سياقات أخرى، حسب ذات البيان.

كما أشار البيان المذكور إلى الصعوبات التي تواجه لجان التسيير بالنيابات الخصوصية المحليّة خلال مراجعة أمثلة التهيئة العمرانية، والتي تضطرّ إلى تحيين الأمثلة القديمة وإلحاق تعديلات طفيفة عليها لتغطية توسّع المجال العمراني. وتعليقا على هذه المراجعة الترقيعية، يضيف البيان أنّها لا تسمح بتثمين الرصيد العقاري المتوفّر في عدد من المجالات الحضرية، كما لا تسمح بتجاوز الإخلالات الحاصلة.

جزء هامّ من التعمير مخالف للتهيئة

إعادة توزيع الاختصاصات المتعلّقة بالتهيئة العمرانية لصالح الجماعات المحليّة تبدو غير كافية لتجاوز الفوارق الاجتماعية التي سبق وأنتجتها سياسات التعمير. في هذا السياق، أشار سامي ياسين التركي الرئيس السابق وعضو الجمعية التونسية لمخطّطي المدن، إلى مشكلة تحيين مخطّطات التهيئة العمرانية على ضوء التقسيم الحضري الجديد وتعميم البلديات بكامل تراب البلاد، حيث لا تتوفّر أمثلة تهيئة لـ86 بلدية جديدة تمّ إحداثها في 2016.

وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ عملية التقسيم الترابي الأخيرة خلقت ضرورة مراجعة مختلف أمثلة التهيئة الترابية في كلّ البلديات. هذا وتعرف عمليّة المراجعة العديد من الصعوبات، فإضافة إلى طول المداولات التي يتجاوز بعضها عقدا من الزمن على غرار مثال التهيئة الترابية لبلدية أريانة والذي تطلّب 17 سنة من المداولات، ما تزال أغلب الأمثلة المنجزة غير مصادق عليها. معضلة أكّدتها رحمة بوحالي، مخططة مدن وناشطة جمعياتية، لنواة موضّحة أنّ “أغلب أمثلة التهيئة الترابية التي يتمّ العمل بها حاليا هي غير مصادق عليها من طرف وزارة التجهيز”. كما شدّدت محدّثتنا أن الوزارة المعنيّة تقتصر على التعامل مع مكاتب الدراسات، التي لا تلتزم بالضرورة بالمعاينة الميدانية أو تستند للمعطيات غير المباشرة، وتتعمّد إقصاء الفاعلين المحليين.

تفيد مختلف الدراسات والبحوث في هذا المجال أنّ حجم الأضرار في تصاعد مستمرّ نظرا لأنّ جزء كبير من التعمير يحصل خارج أدوات التخطيط والتهيئة العمرانية المسبقة. حسب رحمة بوحالي فإنّ “الدولة تتحمّل جزء هامّ من المسؤولية، فهي تخلق المشكل ثمّ تغرق عبر سياسات ترقيعية في محاولات الإصلاح”، وأشارت بوحالي إلى دور الوكالات الوطنية، كالوكالة الوطنية لتهذيب الأحياء الشعبية، والتي ينحصر دورها في إدماج وتأطير التجمعات السكنية الكبرى العشوائية بالأساس.

في نفس السياق، أشار الرئيس السابق وعضو الجمعية التونسية لمخطّطي المدن سامي ياسين التركي أنّ “عدد المساكن المبنية والشاغرة في تونس يناهز 620 ألفا”، مستدلاّ من خلال هذا الرقم على أنه لا وجود لمشكل إسكان هيكلي وإنّما “يتمثّل الخلل في عدم الربط بين الاحتياجات وتوزيعها بين الفئات والجهات”، مضيفا أنّ ثلث السكّان الذّين يتمتّعون بحرية اختيار المسكن هم المُدمجين بالمجال العمراني الحضري، أمّا البقية فيقطنون بشكل عشوائي لتتدخّل الدولة لاحقا لربطهم بالمرافق الصحيّة الأساسية كالصرف والمياه والتنوير والكهرباء وغيرها. ويواصل “عملية الإدماج ضمن مخططات التهيئة العمرانية تتمّ بطريقة غير منظّمة وغير مُخطّط لها، بل إنّ جزءا هامّا من التعمير مخالف للتهيئة”.

المناطق الريفية والأراضي الفلاحية خارج المخطّطات

خارج الحواضر، لا تتلاءم أمثلة التهيئة الترابية مع خصوصيات الوسط غير البلدي والذي يغطّي 70،94 بالمائة من المجال. لتقتصر أمثلة التهيئة على المدن ممّا يجعلها غير قادرة حتى الآن أن تكون أداة تخطيط شاملة. في هذا السياق، يستدلّ رئيس الجمعية التونسية لمخططي المدن بالمدّة الزمنيّة التي يتطلّبها إنجاز مثال التهيئة العمرانية الذّي يتجاوز حسب احصائيات الجمعيّة 66 شهرا، مشيرا إلى أن”السياسة الاجتماعية للدولة قائمة على التفرقة بين الفئات الاجتماعية، وهي أحد الأسباب الرئيسية في تفاقم مشكلة التعمير في تونس”.

كما أوضح سامي ياسين التركي أنّ عملية الإسكان ترتبط بعملية إنجاز الطرقات، وتشتمل أمثلة التهيئة العمرانية للمجال الحضري على شبكة طرقات تلائم بالضرورة بين السكن وتهيئة المدن. غير أنّ الإشكال مطروح بالنسبة للأراضي ذات الصبغة الفلاحية، حيث يتمّ إحداث مساكن ومن ثمّ يأتي الربط بشبكة الطرقات بشكل ارتجالي. وهو ما تمّ في عدد من أحياء ضواحي المدن الكبرى كالمروج بالضاحية الجنوبية لتونس العاصمة.

ختاما، أشار الرئيس السابق للجمعية التونسية لمخطّطي المدن إلى الترابط الوثيق بين التغيّرات المناخية التي “لا مفرّ منها” على حدّ تعبيره ومشاكل التعمير التّي سبق ذكرها، ليؤكّد أنّ سياسات الدولة في التحكّم في المجال تمثّل الأداة الرئيسيّة لحماية الأهالي، وضمان ديمومة المجال الحضري.