منذ تعيين محمد زين العابدين وزيرا للشؤون الثقافية في 27 أوت 2016 بعد منح الثقة لحكومة يوسف الشاهد، وهو يحصد الفشل تلو الفشل نتيجة عجزه عن استيعاب فكرة أن الثقافة لا تُدار داخل المكاتب والاجتماعات المُغلقة ولا تُحدّد سياساتها بمعزل عن الشارع والحراك الثقافي الحاصل فيه والوليد عنه. لم يقدر وزير الثقافة الحاليّ على توجيه بوصلة الثقافة في تونس، وإحداث تغيير حقيقيّ يتجاوز حالة الفراغ ويُحقّق قطيعة جادّة مع ما سبقه، فكلّ وزير/وزيرة يأتي إلى وزارة الثقافة لا يمثّل إلاّ نفسه ولا يشتغل إلاّ ضمن أجندة وسياسة محدّدة تتغيّر بتغيّر المرحلة أو الشخص. مثّل مهرجان قرطاج الدولي منفذ محمد زين العابدين إلى وزارة الثقافة (وقبله سنيا مبارك ومراد الصقلي) حتى أن العديد من معارضيه قالوا “إن أردت أن تكون وزيرا للثقافة فعليك أوّلا أن تدير مهرجان قرطاج”، غير أنّ مؤيّديه صدّعوا رؤوسنا في تلك الفترة بحديثهم عن الشهادات العلمية التي يحملها الوزير الجديد، دكتورا في تاريخ وعلوم الموسيقى ودكتورا في علم الاجتماع السياسي والثقافي ودكتورا في الجماليّات والجغرافيا السياسية. لا تهمّنا شهادات الوزير العلميّة بقدر ما تهمّنا سياسته الثقافيّة التي أنتجت أفشل المشاريع على الإطلاق “تونس مدن الفنون” “وتونس مدن الحضارات”، التي لا تخرج عن سياق البروباغندا والدعاية السياسية الفجّة.
تسلط على من يكسر الصمت أو يخالفه الرأي
انطلقت مشاكل محمد زين العابدين مع المحيطين به منذ أن أعلنت آمال موسى استقالتها من منصب مديرة الدورة 53 لمهرجان قرطاج بسبب وصايته المطلقة على المهرجان والتدخّل في توجّهاته، حيث قالت في بيان لها “لن أنخرط في أجواء لا تعترف بالمشروع الثقافي الفنيّ ولا تؤمن باستقلالية التصوّر”، معتبرة أن “الوزارة الحالية بلا مشروع ثقافي تأسيسي حقيقي”. تواصلت حرب الوزير ضدّ المختلفين عنه وعن سياسته ليُقيل هالة وردي المديرة السابقة للإدارة العامّة للكتاب ومعز مرابط مدير مهرجان الحمامات الدولي رغم النجاحات التي حقّقها من خلال ادماج تعبيرات فنية حديثة ومواطنية عادة ما أستبعدت وتعويضه بشاكر الشيخي المندوب الثقافي السابق والذي كان يرسل تقارير بوليسية ضدّ المعارضين لسياسة بن علي. علاوة عن الإعلان عن ميزانية 2018 التي عزلت الثقافة عن الشارع وضربت العديد من المؤسسات بتعلّة “التمييز الإيجابي” و”اللامركزية الثقافية”، شعارات رنّانة يسوّق لها الوزير الحاليّ بشتّى الطرق والوسائل.
هالة وردي وأزمة الإدارة العامّة للكتاب
أقال محمد زيد العابدين، منذ حوالي أسبوعين، هالة الوردي من الإدارة العامّة للكتاب التي تعيش على وقع أزمة حادّة بسبب شبهات الفساد والخلاف مع اتحاد الناشرين التونسيّين. وتأتي إقالة الوردي بعد مرور أكثر من عام على تسميتها استنادا إلى القرار الوزاري الصادر بالرائد الرسمي عدد 88 بتاريخ 28 أكتوبر 2016. كان الوزير الحاليّ للشؤون الثقافية راضيا عن أداء هالة وردي، رغم المشاحنات مع اتحاد الناشرين، الذي يقود ضدّها حملة ممنهجة بسبب “تهميشها لهم”، إلى أن أتى اليوم الذي نبّهت فيه إلى وجود شبهات فساد بالإدارة، وقد تجاهلها الوزير دون فتح تحقيق في الغرض. أعلنت الوردي في ندوة صحفية عن أسباب إقالتها التي تعود، حسب تصريحاتها، إلى تقديمها ملفا لوكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بتونس حول شبهة فساد وتزوير وتلاعب بأختام الدولة في بلدية قرمبالية بتاريخ 20 نوفمبر 2017 في عقدين قدّمهما محمد صالح معالج صاحب دار النشر “كنوز”، وتبيّن أن الإمضاء مزوّر رغم أنه مختوم في بلدية قرمبالية بطابع رسميّ. وأكدّت هالة الوردي أنها اقترحت على الوزير عقد اجتماع لإطلاع المصالح ذات العلاقة (إدارة الشؤون القانونية ومؤسسة حقوق المؤلّف والحقوق المجاورة وخلية الحوكمة بالوزارة) على الوثائق المُشتبه فيها، لكنها فوجئت بمكالمة منه يأمرها بإلغاء الاجتماع وهو ما دفعها إلى القول أثناء الندوة “مافيا النشر والمتمعّشون من المال العامّ وراء إقالتي بعد أن استجاب الوزير إلى ضغوطاتهم”. ساهمت هذه الإقالة إلى جانب الخلافات بين اتحاد الناشرين والإدارة العامة للكتاب من جهة والاتحاد ومجموعة من دور النشر مثل “الجنوب” و”سراس” وإيليزاد” من جهة أخرى، في تعميق أزمة قطاع النشر في تونس.
إستمع لمداخلة هالة وردي في الندوة الصحفية المنعقدة في 21 نوفمبر
تحيلنا هذه الأزمة إلى أزمة “معهد تونس للترجمة”، الذي يعاني بدوره من مشاكل في نشر إصداراته القليلة جدّا وهو ما يضطّره إلى إبرام عقود مع مؤسسات ودور نشر أجنبية وعربية تفرض عليه القبول بعدد محدود من النسخ وبتخفيضات قليلة. ظلّ المعهد حبيس البيروقراطية، عاجزا عن تطوير سياسته الداخلية بسبب تهميش وزارة الثقافة رغم إقدامه على مشاريع ضخمة أبرزها ترجمة دائرة المعارف الإسلامية وهي من أهم الموسوعات الأكاديمية التي تُعنى بدراسة الحضارة الإسلامية بمعيّة دار بريل للنشر في هولاندا. يتجاهل محمد زين العابدين كل هذه المشاكل الحقيقيّة والمهمّة ليطلق حملته الدعائية “للتحسيس بقيمة الكتاب” ضمن ما عُرف بـ “مدن الكتاب” و”ساحات الكتاب” والتي تعدّ اجترارا لفشل تجربتي “مدن الفنون” و”مدن الحضارات” المُخصّص لها 10 ملايين دينار في ميزانية 2018.
“مدن الفنون”، “مدن الحضارات”، الدعاية الفجّة
يعتبر محمد زين العابدين أن مشروعي “تونس مدن الفنون” و”تونس مدن الحضارات” من أهمّ مشاريعه التي تستند إلى حق المواطنين والمواطنات في الثقافة التي لا يجب أن تظلّ حبيسة العاصمة. ويعلّل الوزير إطلاقه لهذين المشروعين بمبدأ “الديمقراطية التشاركية” الذي نصّ عليه الدستور في فصله السابع وبوجوب “تفعيل لامركزية حقيقية تمكّن كل جهة من تقديم برامج ثقافية تعكس خصوصياتها”. يظلّ هذا الكلام الجميل حبرا على ورق ولا يعبّر بشكل أو بآخر عمّا تحتاجه حقيقة تلك المدن والقرى والأرياف المعزولة التي لا نجد في مكتباتها العموميّة، إن وُجدت، سوى النزر القليل من كتب أكل عليها الدهر وشرب، ولا في دور الشباب والثقافة أنشطة تخرج عن سياق المعتاد والمستهلك. أصبحت كلّ المدن التونسية مدنا للفنون والحضارات بين ليلة وضحاها، مدن تُحارب الإرهاب بالفن والرقص والغناء في الساحات العموميّة، تصالحنا مع موروثنا الثقافيّ المحظور والمهمش وتحرّرت أجسادنا الخاضعة، والتي كانت ولم تعد بفضل هذين المشروعين، الموضوع الأوّل للمحرّمات. يمكن أن نتساءل: ماذا فعل الوزير لإنجاح سياسته الثقافية؟ بخلاف زياراته الميدانيّة إلى هذه المدينة أو تلك وإعلانها شفويّا مدينة للفنون ثمّ يعود إلى مكتبه غير مبال بمشاغل الشباب وبالحركات الفنية الجديدة، عن أي ثقافة يتكلّم الوزير؟ لأن الثقافة التي نعرفها محكومة بهواجس التحديث وغير محايدة ولا رسمية ولا امتثالية. للإجابة عن هذا السؤال يمكن أن نلقي نظرة على البرنامج الثقافيّ لشهر ديسمبر 2017 في بعض الولايات، ونأخذ ولاية منوبة فقط كمثال (على اعتبار قربها من العاصمة)، سنجد أن برامج الولاية الثقافية والتي تروّج لها الوزارة بفخر في صفحاتها الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعيّ لا تعدو أن تكون مهزلة حقيقيّة، نحن نتحدّث عن الأيام الثقافية الريفية والأيام التشكيلية ببرج العامري وتظاهرة “سينما.. شباب ورؤى”، وتتكلّم الوزارة عن “أجواء غير عادية سيعيشها عشّاق الفن السابع والفنون التشكيلية” خلال هذه التظاهرات المهمّة. هذه الأجواء “غير العادية” لن تتجاوز بعض الورشات للرسم على جدران المدارس أو لمشاهدة المهرّج ذي الأنف الكبير الأحمر والشعر الملوّن المجعّد وهو يلعب مع الأطفال أو للتفرّج على الساحر الذي يُمسك دينارا بين يديه ثم يختفي بقدرة قادر.
هذه هي الثقافة التي يُدافع عنها الوزير الحاليّ، ثقافة غير قادرة على تدبير المشترك والخاصّ واستيعاب الراب والفنون الشعبيّة التي جاءت من الشارع وظلّت وفيّة له، ثقافة شكلية تهتم بالواجهة لتسويق مشاريع محمد زين العابدين وتلميع صورته، ثقافة عاجزة عن تعديل وتغيير الصورة المشوّهة لتمثلات الفرد لذاته وللآخر.
بعيدا عن المقاصد أرى المقال سطحيّا لأنه حام فوق أطلال الشهد الثقافي الوطني ثمّ سقط فيما حاول التركيز عليه من مركزية وتهميش. فكان تركيزه على شخص الوزير ووظيفته وعلى أمثلة لا تتجاوز حدود
العاصمة متجاهلا-ربما عن دون قصد- جنود الوزارة في مختلف الجهات والذين يعانون العديد من المشاكل ويواجهون كمّا من العوائق ما دفع بهم إلى الدّخول منذ أمد في حراك احتجاجي يصبو إلى التغيير والتجديد
فعلا هذا الوزير لا يهتم بغير نشر الدعايات السياسية الباهتة في محاولة منه لإخفاء حقيقة شبكات الفساد التي تعبث في الوزارة وهياكلها. فبدل الإنكباب على معالجة التجاوزات داخل وزارته وإعادة هيكلة مختلف الإدارات والمؤسسات الراجعة لها بالنظر بعد تقييمها تقييما موضوعيا والعمل على منح الحقوق المهنية والإجتماعية لموظفي القطاعات الثقافية، ها هو يتلهّى بالحديث عن ساحات يعوي فيها الخراب