أشارت نتائج الدراسة التي أنجزتها شبكة مراقبون بين 28 جوان و28 أوت 2017 حول نظرة المواطن للتمثيلية السياسية والانتخابات المحلية والتي تُغطّي 10032 مواطن بـ749 عمادة، إلى أن نسبة 64،3% من التونسيين يعتقدون أنّ تونس تسلك الاتجاه غير الصحيح، وكثيرا ما يتمّ الاستعانة بمثل هذا المعطى كمؤشّر يُحيل على عزوف المواطنين عن المشاركة السياسية ونفورهم من الانتخابات البلدية. نفس الدراسة، أسفرت في المقابل، عن أرقام أخرى منها أنّ أكثر من 60% سيصوّتون في الانتخابات البلدية القادمة، و57،4% يعتقدون أنّ الانتخابات البلدية كفيلة بإحداث تغيير إيجابي على مستوى البلدية. وهذه مؤشّرات إضافية من شأنها أن تُقوّض الاستنتاج المتداول والسائد عن حقيقة المشاركة أو العزوف.

المواطن غير راض عن السياسات المركزية

انطلقت يوم 19 ديسمبر الفارط وإلى غاية 6 جانفي الجاري، الفترة الاستكمالية لتسجيل الناخبين وفق الروزنامة الرسمية الأخيرة للانتخابات البلدية. واستنادا لعملية التسجيل الأخيرة بين 19 جوان و10 أوت الماضي، فقد بلغ عدد المسجّلين للانتخابات البلدية 5 ملايين و373.845 ناخب. ويدلّ هذا المؤشر على إقبال نسبي للمواطنين على الانتخابات البلدية القادمة، باعتبارها الأولى من نوعها في مرحلة الانتقال الديمقراطي، حيث شهدت نسبة المسجّلين تطوّرا طفيفا بلغ 1،25% مقارنة بسنة 2014. أمّا مؤشّر العزوف فيتكثّف في الفئة الشبابية (بين 18 و21 سنة)، الذين لا تتجاوز نسبتهم 3.27% من مجموع الناخبين المسجّلين.

بالعودة إلى السياقات السياسية، تتجلّى كلّ مظاهر الأزمة الهيكلية التي تعيشها السياسات العامّة للحكومات المتعاقبة منذ انتخابات 2014. فقد اتّسمت هذه الفترة بالتباعد الشديد بين الوعود الانتخابية الفضفاضة والممارسة السياسية الهشّة، حيث توالت الانقسامات الحزبية وانهَار نظام التوافق وبرز التهافت على المصالح السياسية الضيّقة. في المقابل، تواصلت السياسات الترقيعية فيما يتعلّق بالقضايا الشبابية والتي بلغت ذروة تذبذبها في النقاشات الأخيرة حول قانون المالية والميزانية العامّة. هذا ولا تنتظر السلطة، مع فشل سياساتها العامّة، من المواطن سوى أن يكون متقبّلا سلبيا غافلا عن تبعات الأزمة التي تنعكس على مستوى عيشه بشكل مباشر. فما تقرأه السلطة عزوفا عن صناديق الاقتراع، ليس سوى تعبير جادّ عن عدم الثقة في أصحاب القرار.

من جهة أخرى، يُردّد الأهالي في عدد من الجهات المطالب نفسها منذ سنوات، منادين بتقريب المصالح والخدمات وبالحقّ في التنمية والعدالة الاجتماعية والتمييز الإيجابي لصالح الفئات والجهات المهمّشة. هذه المطلبية يقابلها تراجع عن مشروع إعادة توزيع الموارد والاختصاصات لصالح الجماعات المحلية من قبل السلطة المركزية التي تتمسّك بتقويض لامركزية الموارد في ظلّ الأزمة المالية وبالحفاظ على تقسيم وظيفي عمودي في عهدة الحقائب الوزارية الخاضعة للمُحاصصة الحزبية ولموازين القوى الاقتصادية بين المركز والمانحين الدوليين.

عزوف المواطنين عن الأحزاب السياسية

توصلت نفس الدراسة حول نظرة المواطن للتمثيلية السياسية والانتخابات المحلية إلى أنّ 56،1% لا يثقون تماما بالأحزاب السياسية، وأنّ 49،4% سيختارون قائمات مستقلة في الانتخابات البلدية القادمة مقابل 27،4% سيصوّتون لقائمات حزبية. هذا العزوف المواطني عن الأحزاب السياسية بالتحديد ناجم عن فقدان الثقة في الطبقة السياسية سواء الحاكمة أو المعارضة. فمن جهة تشهد الأحزاب الحاكمة تصدّع كبير يتجلّى داخل العمل الحكومي وفي البرلمان وخارجه. ومن جهة أخرى، لا توفّر أحزاب المعارضة بديلا يحظى بجاذبية. هذا بالإضافة إلى الضعف الكبير على مستوى البرامج وعدم تلاؤمها مع المطالب المحلية للأهالي، ليقتصر دور الأحزاب السياسية بين كلّ موعد انتخابي وآخر على شحذ ماكينات الدعاية الحزبية لتعبئة القاعدة الانتخابية والتعامل مع المواطنين كخزّان أصوات ينتهي دورهم بانتهاء الاقتراع العامّ.

ويُثير ضعف إقبال الناخبين تخوّفات الأحزاب السياسية، هذه المخاوف عززتها مغامرة الانتخابات الجزئية بدائرة ألمانيا، ليليها مباشرة إمضاء الأمر الرئاسي المتعلّق بدعوة الناخبين للاقتراع العامّ في 19 ديسمبر المنقضي، فقد بدت كلّ سبل المماطلة التي تنتهجها الأحزاب لا طائل منها. هذا ولم تنجح هذه الأخيرة في إخفاء هواجسها إزاء الاستحقاق الانتخابي البلدي، حيث طالبت بالتأجيل أكثر من مرّة وتُسارع طوال الفترة المتبقية في البحث عن الخُطط الممكنة لمواجهة هذا الموعد، سواء عبر الدخول في ائتلافات حزبية وجبهات إنقاذ أو عبر تشريك المستقلّين. فالموعد الانتخابي البلدي يتطلّب أكثر من 7200 مترشّح رئيسي و1200 مترشّح احتياطي بـ350 دائرة انتخابية، إلى جانب شروط تشكيل القائمات وإلغاء التمويل المسبق للحملات الانتخابية.

ما تتجاهلُه القراءات المُتداولة

في قراءة أفقية لإحصائياتها، تكشف نتائج التسجيل الأخيرة للانتخابات، تفاوتا كبيرا في مؤشّر الإقبال على مكاتب التسجيل من دائرة إلى أخرى. حيث سجّلت تونس العاصمة أضعف نسب التسجيل بالنسبة لعدد الناخبين المؤهلين وعددهم 837.594 مواطن، حيث لم يُسجّل منهم سوى 538.281 ناخب أي بنسبة لا تتجاوز 64،27% تليها صفاقس ثمّ نابل ثمّ سوسة. في المقابل، بلغت نسبة المسجّلين من كتلة الناخبين المؤهلين في كلّ من توزر وقبلّي 86،46% و78،63%، أي بمجموع 99.995 مسجّل من إجمالي 118.262 مؤهّل للانتخاب. هذا ويفوق عدد غير المسجّلين بمدينة تونس، عدد الناخبين المسجّلين في كلّ من ولايتي توزر وقبلّي، وتدلّ هذه الإحصائيات على أن نسبة إقبال الناخبين بالمدن الكبرى القريبة من المركز تتّسم بضعف تطوّرها، مقابل إقبال ملحوظ في الجهات الأخرى كالجنوب تحديدا.

في علاقة بالسياق المحلّي وبعيدا عن مؤشّرات التسجيل للانتخابات، تتحدّد المشاركة المواطنية في الشأن المحلي على مستويين، فهي إمّا علاقة مرفقية أساسا أو علاقة احتجاج يقابلها القمع. في المستوى الأوّل، تربط المواطن علاقة ذات بعد خدماتي بالبلدية وتنموي بالجهة أو الولاية، أي السلطة اللامحورية عموما التي تمثّل المركز ويد السلطة التنفيذية عن قرب. وتكشف هذه العلاقة درجة من الوعي لدى المواطن بالصلاحيات المتوفّرة على مستوى أجهزة القرب التابعة للدولة، حيث تقتصر خدمات البلدية على استخراج وثائق الحالة المدنية وبعض التراخيص منها الخاصّة بالبناء والمرافق الأساسية كالتعبيد والتنوير أو دفع الأداء البلدي على غرار الزبلة والخروبة. ويرجع غياب الثقة بين المواطن والهيكل البلدي إلى محدودية صلاحيات هذا الأخير، إذ لا يمثّل استنادا إلى قانون 75 19الجاري به العمل، سلطة فعلية تتمتّع باختصاصات ذاتية واستقلالية مالية أو إدارية. في الأثناء، مازال الأهالي يطالبون بإحداث المعتمديات منادين بالحقّ في التنمية، ووعيا منهم بأنّ المعتمدية هي امتداد للسلطة التنفيذية المشرفة على السياسات التنموية وتعمل بتفويض من سلطة الوالي ورئاسة الحكومة. في حين تحظى البلديات باهتمام أقل حتى دخول صلاحياتها الجديدة المنصوص عليها في الدستور حيّز التنفيذ. وفق نفس الدراسة السابق ذكرها حول السلطة المحلية، يوافق 54،1% على إعطاء أكثر صلاحيات للبلديات، و50،8% على أكثر استقلالية مالية للبلديات، كما أسفرت نفس الدراسة عن أنّ 77،9% لا علم لهم بعد بأنّ صلاحيات البلديات سيتمّ توسيعها لتشمل صيانة المدارس والمستوصفات والنقل والشباب والثقافة والترفيه. وعمليا، لا تصبح هذه الصلاحيات مشروعة إلاّ عبر مجلّة الجماعات المحليّة التي مازالت حاليا مشروع قانون، لم تناقش اللجنة المعنية به سوى 100 فصل من إجمالي 363.

أما على المستوى الثاني، لم تخمد أصوات الأهالي. إذ تُمثّل الاحتجاجات والتحركات الجهوية والمحلية شكلا من أشكال المشاركة السياسية للضغط على السياسات الحكومية ورفض قرارات السلطة. كما يدخل قرار مقاطعة الانتخابات البلدية ضمن الخيارات المطروحة بالنسبة للأهالي في بعض الجهات المُهمّشة إثر التنظيم البلدي الجديد، حيث هدّد أهالي سيدي علي بن سالم بمقاطعة الانتخابات البلدية احتجاجا على تركيز المقرّ البلدي بعمادة أخرى وتسمية البلدية باسم “عبيدة”. متساكني “شنني الدويرات” في وقت سابق احتجّوا بدورهم على تسمية البلدية، مُجبرين والي الجهة ومجلس وزاري منعقد في 29 مارس 2017 على مراجعة القرار وتغيير اسم البلدية إلى “تطاوين الجنوبية”. وبخلاف المناطق الحضرية الكبرى مثل تونس والمنستير التي لم تشهد أي تغيير خلال التقسيم الترابي الأخير، يرجع خيار المقاطعة الحاضر في شعارات الأهالي المحتجّين بعدد هامّ من البلديات الداخلية، إلى أسباب عميقة لم تُأخذ بعين الاعتبار عند تعميم النظام البلدي بمختلف المناطق الريفية. إضافة إلى أنّ التقسيم البلدي الأخير لم يحظ بالوقت، وهو شرط أساسي لتوفير حسّ الانتماء لدى المتساكنين بدوائرهم الانتخابية وتفادي تأجيج الحسّ العروشي واللعب على العصبيات الذي من شأنه المساهمة في تفكيك الوحدة الاجتماعية.