المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

يبدو أنّ عرض الأزياء في تونس حكر على العارضين البيض، صغارا و كبارا من الجنسين، حيث تخلو اللافتات الإشهارية والومضات التلفزية من العارضين من غير البيض وكأنّ المنتوجات حكر على مجموعة معيّنة والمستهلكين هم فقط من البيض، الذين يرسّخ الإشهار سمتهم[1] كمثال يحتذى به حتى في الملبس .بينما نجح الإشهار في دول أخرى (الولايات المتحدة كمثال) في خلق أمثلة للباس بعيدة عن المثال الأبيض، مثل لباس “الهيب هوب” أو فناني الراب، الذي كسر هيمنة دامت طويلا للموضة البيضاء. يبدو الإشهار في تونس بعيدا كل البعد حتى عن استيعاب وجود سود تونسيين أومن جنسيات أجنبية مقيمين في تونس. فضلا عن ما يبدو كعنصرية “بريئة” فإن مستشهري الملابس في تونس يستبطنون عنصريّة مجتمع يستعمل كلمات مثل “وصيف”، ويبدو هذا سببا يمنعهم من التعاقد مع عارضين سود، وهو ما يتعارض مع التشريع التونسي الذي من المفروض أنه ينص على المساواة وعدم التمييز العرقي.

تمظهر للعنصرية حتى في إشهار المواد الغذائية

تستفرد شركة دليس دانون بنصيب كبير من الإشهار في تونس، ومضات الشركة ولافتاتها موجودة في كل ركن في تونس، في الشوارع وعلى جدران المحلات والمغازات، الغريب أن كل مستهلكي منتوجاتها حسب الإشهارات المكثفة هم من البيض !كل إشهارات شركة دليس دانون وفيتالي وشركات أخرى تسجّل غيابا كليّا للسود، وهو ما يعتبر ترسيخا واضحا للميز العنصري الممنهج، فيمكن أن تبرّر شركات الملابس غياب العارضين السّود لنقص في عددهم أو لمعايير الجمال النمطي أو لأسباب احترافية بحتة، في حين أن إشهار المواد الغذائية في تونس يؤديه أشخاص عاديون لا يخضعون لمعايير جمالية أو لمعايير احترافية.

إشهار مواد التجميل: عنصرية موجّهة ضد النساء السود

هذا ميدان آخر تتجلى فيه عنصرية الإشهار في تونس، سواء كان الإشهار لمنتوج تجميلي أو صالون تجميل أومدرسة تكوين في مجال التجميل، أو حتى إشهار بسيط لمنتوج تستعمله كل النساء: الفوط الصحية. إن شركات مثل NANA أو LILA و PeauDouce التي تعد الحفّاضات والفوط الصحية من أشهر منتوجاتها لا يمكن أن تتعاقد مع امرأة سوداء، وفي إشهار حفاضات الرّضع لا يمكن أن يظهر رضيع أسود، ليس في الإشهار فقط وإنما على غلاف المنتوج نفسه، هذه الظاهرة لا نراها في دول أخرى. يُوجّه إشهار مواد التجميل العنصري خطابا مباشرا و واضحا: منتوجات التزيين موّجهة حصريا للبيض، وطريقة تزيّن البيض هي المثال الذي يجب احتذاءه.

منتوجات متنوعة والخلاصة واحدة

ما يمكن استخلاصه من الإشهار في تونس هو أنه بلا شك عنصري، يبقى البحث في أسباب عنصريته، هل هي عنصرية ونقص حرفية بالنسبة للشركات المستشهرة؟ أم هو خطأ في تصور الجمال والتنوع من قبل مصممي الإشهار في تونس؟ الأمر -على ما يبدو- هو خليط هجين بين الاحتمالين، حيث يتبنّى كِلا الطرفين تفكيرا مدموغا بعنصرية المجتمع التونسي، ففي حين يتجنّب المستشهر التعاقد مع عارضين سود أو إظهارهم في منتوجاته بسبب تصور عنصري منغلق على خمسينيات القرن الفارط، فإنه بالمقابل يستهدف في إشهاره أغلبية بيضاء تشاطره نفس العقلية والتفكير. يبدو أنّ مصممي الإشهار تقترن عنصريتهم بمعايير الجمال الذي وضعته وصادقت عليه الرأسمالية الاستهلاكية من خلال أيقونات المستهلك الأبيض الأشقر على الطريقة الأمريكية، حيث لا يقيّم جمال السّود بمثل هذه المعايير أصلا .

على مستوى آخر تقدّر نسبة السّود في تونس بـ15%، يعني قرابة المليون والنصف، هل يمكن استحضار مثال لعارض أزياء أو ممثل أو حتى مذيع تونسي أسود ينشط في تونس؟ العدد بلا شك صغير إن لم نقل منعدم، فكيف يمكن تفسير انعدام التوازن بين هذا العدد الكبير وممثليه في ميدان الإشهار وفي الإعلام بصفة عامة؟

يقول بيير بورديو “إن خضوع العمّال والنساء والأقليّات العرقية ليس في أغلب الحالات تنازلا متدبّرا وواعيا أمام القوة الطبيعية للأطر الإدارية للرجال والبيض، بل ينشأ عن التطابق اللاواعي بين سمات أولئك والحقل الاجتماعي الذي يعملون فيه”. وربما يكون هذا مدخلا لفهم العلاقة العكسية بين الإشهار وبعده العنصري .

في حين يتبنى الإشهار العنصرية، يبدو أنه يعمل أيضا كآلة رمزية تصنع من الأبيض رمزا وتمارس عنفا رمزيا، كما يُقولب صورة المجتمع في صورة العارض الأبيض في الإشهار. إضافة إلى هذا يتعمد الإعلام تغييب ما يصطلح على تسميته بـ”الزّرڨ”، كلمة تجمع بين اللّون والطبقة الاجتماعية الفقيرة والمفقرة، وكل من هو ليس على صورة الأبيض الذي تصنعه ماكينة الإشهار وسياسة الدولة نفسها، ممّا يجعل الأبيض مهيمنا في الفضاء العام التونسي ويرفعه كمثال يجب اتباعه لضمان تواصل الوجود في هذا الفضاء. هذا الوضع يخلق هيمنة على السود، ممّا يجعل توجههم لميدان الإعلام والإشهار محدودا للغاية ويساهم في مزيد عزلهم وتغييبهم عن هذه القطاعات. وهذا يخلق نوعا من الاستمرارية في عنصرية الإشهار ويرسّخها في الأذهان .

ما بعد العنصرية : تغييب “الزرڨ”

الإشهار في تونس، علاوة على عنصريته، فهو بروباغندا الطبقة المهيمنة، حيث لا يُغيّب فيه السّود فقط، بل كل من هم خارج الإطار الذي ترسمه الطبقة الغنية والنظام الذي في خدمتها .ليس السّود فقط من يتم إقصائهم ووضعهم على هامش الصورة الإعلامية، بل المسحوقين اجتماعيا وخاصة الريفيين، الذين تقترن صورتهم في الإشهار التونسي بالمواد الغذائية والفلاحية، في حين أنهم مغيبين في إشهارات مواد التجميل أو التكنولوجيات[2]، بينما يستفرد البيض بكل ما هو حضري وتكنولوجي. تلوح المسألة للمتمعن فيها عميقة ومتجذرة بطريقة رهيبة في الإشهار: تقسيم للمنتوجات وتوزيع للرموز، توزيع جنسي في مرحلة أولى (ماكياج، أدوات تنظيف نسائية، سيارات، سجائر للرجال) وتوزيع جهوي /عرقي /طبقي في مرحلة ثانية .

صناعة الرموز عن طريق الإشهار هي مسألة متفرعة. في سياق مبسّط يستغرب المواطن التونسي من رؤية مراهق ريفي يستعمل هاتفا ذكيا، المشهد في حد ذاته غير متجانس بالنسبة لعين التونسي الذي قد يرى الريف لأوّل مرة خارج الإشهار ويرسم له صورة عبر مسلسل “الدُّوار”. نجح الإشهار في خلق رمزية مرتبطة بالطبقة الاجتماعية وبالجهات، ويُعزى عدم تجانس المشهد المذكور إلى أن سمت الفتى الريفي مرتبط في أذهاننا باللعب في الحقول أو رعاية الأغنام والسباحة في الأنهار أكثر من استعمال هاتف ذكي، حيث يبقى الهاتف مرتبطا بالفتى الحضري الذي نشاهده في الإشهار .

هذه الرمزية في حد ذاتها تشكل قصورا ذهنيا ونقصا في الخيال عند مصممي الإشهار والمستشهرين، فطالما هناك تقسيم رمزي للسلع يشد ذهن المستهلك إلى وجود صلة قوية بين المنتوج و”بروفايل” مستعمله، فإنه من الصعب أن نخرج بالإشهار من عنصريته وأن نفكّ عزلة أغلبية من الشعب التونسي من “الزرڨ” بكل ما تحمله الكلمة من تعريفات دالة على اللّون والطبقة الاجتماعية والجهة والأصل، الذين لا ذنب لهم سوى أنهم بكل بساطة لا يشبهون من يستطيع دفع أموال كافية لصانع الإشهار، أي صانع الرموز في الفضاء العمومي .

 

[1]-من كلمة “سمة” و”سمات”، هي مجموعة الطبائع /الخاصيات التي يتميز بها الفرد، استعمال كلمة سمت في هذا السياق يقصد بها مجموعة الخاصيات التي تميّز نوعا معينا من الأشخاص (عقلية، لباس، تصرفات) المقابل الفرنسي الأقرب هو profil

[2] الأبيض تحوّل في هذا السياق من لون إلى اصطلاح نعبّر به عن سمات مجموعة معينة، مجموعة الطبقة الحاكمة التي تنحت عن طريق الإشهار والإعلام رمزا حياتيا واستهلاكيا على شاكلتها، يضمن سيطرة كاملة على الفضاء العام و يروّج لسلع و بضاعة هذه الطبقة، “ولد السيستام” بصيغة أخرى .

المراجع المعتمدة في المقال:

-يورغن هابرماس  (Jürgen Habermas)الفضاء العمومي، حفرية العمومية (publicité) كبعد مكون للمجتمع البورجوازي.

-بيير بورديي (Pierre Bourdieu). أسئلة علم الاجتماع