”قزح“ لأيمن الماجري – قاعة الفنّ الرابع

  • الجمعة 02 فيفري 2018 السّاعة 19:30
  • السّبت 03 فيفري 2018 السّاعة 19:30
  • الأحد 04 فيفري 2018 السّاعة 17:00

في ”قزح“ تهرب الشخصيّات التي جسّدها كلّ من حمزة ورتاني، وإيمان المنّاعي، وإيمان الغزواني، ونور الدّين ميهوب، وراشد الرّاشدي، من الواقع إلى الواقع ولكن عن طريق خيالهم الجامح والمتحرّر من كل قيد. بدا المشهد الأوّل من المسرحيّة تمهيديّا، يُحضّر الجمهور نفسيّا وبنسق تصاعديّ للدخول في عالم ”القزحيّين“ و”القزحيّات“ الذي يبدو في ظاهره عالما سعيدا وملوّنا، لكنّه يحمل بين طيّاته الكثير من التناقضات والهواجس والمخاوف. كانت البداية مع دخول ممثّلين يرتديان أنف المهرّج الأحمر، يتراقصان على الركح ويتحرّكان بسذاجة مفرطة ثمّ يبدو عليهما، فجأة، العبوس والحزن. تعدّ شخصيّة المهرّج من الشخصيّات الإشكاليّة في النصّ المسرحيّ نظرا إلى تعدّد أوجهها، فهي تارة شخصيّة يغلب عليها طابع التهريج ومنقطعة تماما عن الواقع المُعاش شبيهة بشخصية ”الدرويش“، وتارة أخرى تبدو لنا شخصيّة المهرّج ثائرة على كلّ الأنظمة، تسخر من كل شيء وتحوّل هذا الواقع إلى موضوع للضحك.

مصدر الصور المرافقة للمقال من صفحة المسرح الوطني

لم يكتف أيمن الماجري في المشهد الأوّل بشخصيّة المهرّجين بل عرّفنا بالشخصيات الأخرى في لوحة استعراضيّة لفتاة تمشي مثل عارضات الأزياء ومعها رجلان يرتديان كعبا عاليا. تبدو رمزيّة هذا المشهد واضحة، فعالم الأزياء مرتبط في الذهنيّة الاجتماعيّة بالمثليّين، فالكثير من كبار مصمّمي الأزياء في العالم عبّروا عن تواصلهم مع الجانب الأنثويّ في شخصيّاتهم بتصميم أزياء للنساء غيّرت الصورة النمطيّة لشكل المرأة في العالم، مثل إيف سان لوران وجون بول جوتييه ومارك جاكوبس وغيرهم. تتمحور الشخصيّات في مسرحية ”قزح“ في خطّ دراميّ واضح يشي برغبة المخرج في كشف عوالهم الداخليّة، فتراهم في مختلف انفعالاتهم، من الضحك الهستيريّ إلى الصراخ الغاضب إلى النحيب المتقطّع. إلا أن الديكور والإضاءة الذين طغى عليهما اللون الأسود، لم يعكسا عالم ”القزحيّين“ و”القزحيّات“ الملوّن واحتفائهم الدائم بالحياة.

”قزح“ انتصار اعتباري لمجتمع الميم

اشتغل أيمن الماجري في مسرحيّة ”قزح“ على الجسد الذكوريّ ”المخنّث“ الذي انفلت من الرقابة الاجتماعية والدينيّة وتمرّد على العرف السائد. كانت شخصيّة الرجل المُتشبّه بالنساء في حركاته وصوته وكعبه العالي والأحمر على شفاهه، أحد الشخصيّات المحوريّة في العمل، ولم يرد أيمن حصرها في خانة الضحيّة أو البطولة، بل تركها تتصارع مع انفعالاتها وميولها وأفكارها وواقعها بتلقائيّة ودون مبالغة. شاهدنا هذه الشخصيّة في العديد من المشاهد متردّدة وحائرة، ترقّق صوتها ثمّ تخشّنه، تتكلم بهدوء وبصوت منخفض ناعم ثمّ تصرخ بصوت عال، تضمّ ركبيتها وتضع يديها فوقهما عندما تتكلم ثمّ تنفعل وتضرب بكل قوّتها على الطاولة. هذا التردّد والخوف من الأحكام الأخلاقيّة لم يمنعا شخصيّتنا هذه والتي جسّدها بإتقان شديد حمزة ورتاني، من التمسّك بكعبها العالي وبهويّتها الحقيقيّة ”أنا امرأة“. من يبتعد عن المألوف يعدّ ”منحرفا“، ”شاذا“، و”معاديا لمشيئة الله“ لذلك يمكن أن نقول أن مسرحية ”قزح“ هي انتصار اعتباريّ لمجتمع الميم المقموع في بلادنا رغم أنّ “المخنّث“ كان حاضرا وبقوّة ليس فقط في المخيال الشعبيّ بل في حياتنا اليومية وخاصّة في الأعراس والحفلات. تذكر الباحثة صوفية السحيري في كتابها “الجسد والمجتمع” أنّه عادة ما تقع استمالة المخنّث أثناء حفلات الربوخ وهي حفلات غنائية شعبية لا يحضرها إلا الرجال وتقع الاستمالة بصور غنائية ماجنة لا نزال نرددها بعفوية لجهلنا بالإطار الذي وردت فيه وما ترمي إليها، من ذلك أغنية: للّيري يا منّة. وهي تحريف للإيري أي القضيب. ومنّة هي إشارة للرجل ”المخنّث“ الذي عادة ما يكنّى بـ”زينة“ و”دوجة“ و”منّة“ و”منّانة“ و”بختة“. إلى جانب ذلك كانت الكافيشانطات بمنطقة باب سويقة مكانا حافلا بالرجال الذين يرتدون لباسا نسائيّا ويرقصون على أنغام المزود، مستعرضين أنوثتهم ومفاتنهم في جو خال تماما من الأحكام والتعقيدات المجتمعيّة. لم يكن المخنثون، إذن عرضة إلى القمع الأخلاقي بل كانوا يجاهرون بميولهم رغم التفوق الواضح اجتماعيا للميول المثلية النشيطة على الميول المثلية السليبة. اليوم نحن نتنكّر لتاريخنا ولطبيعة مجتمعاتنا خاصّة البدويّة والتي كانت تتعامل مع موضوع المثلية بتسامح عجائبيّ. المثليون هم الجزء المقموع والمنسي من التاريخ، ليس فقط تاريخ بلادنا بل تاريخ المجتمعات الإسلامية، فحبّ الغلمان لم يكن خاضعا إلى منظومة أخلاقية صارمة ولم يكن من الأمور المستقبحة، فقد تحدّث الجاحظ في كتابه ”مفاخرة الجواري والغلمان“ عن حبّ الغلمان في عصره وكيف أنهم يفضّلون الظهر على البطن. كما تناول أحمد التيفاشي في جزء مهمّ من كتابه “نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب” موضوع المثلية الجنسية التي كانت من الممارسات الشائعة بشمال إفريقيا. عادة ما يتمّ ردّ الاعتبار لمجتمع الميم في الأعمال الفنيّة عن طريق شخصية ذكورية بأحمر شفاه وكعب عال، وهي نوعا ما صورة نمطيّة لهذا المجتمع الزاخر بالاختلافات، وقد انساق أيمن في مسرحية ”قزح“ في نفس الاتّجاه وربّما هذا ما يمكن أن يعاب عليه، فكثيرا ما تظلم النساء اللاّئي هنّ أيضا يخضن صراعا مع ميولهنّ وهويّتهنّ الجنسية، ولا نرى الكثير من الفنّانين الذين عملوا على  كسر الصورة النمطية للرجل ذي الكعب العالي ليقدّم لنا شخصية نسائية تتأرجح بين قطبي الذكورة والأنوثة.

اللعب: شكل من أشكال الإيهام الإراديّ

مثّل الركح في ”قزح“ فضاء حرّا للعب والتصعيد، وكان الممثلون الخمسة يردّدون في كلّ مرّة عبارة ”هيا نلعبوا“ التي كانت الخيط الرابط بينهم. في ”قزح“ ترتاب الشخصيات من واقعها وتهرب منه إلى ”بلاد العجائب“ التي شكّلت الوجه الآخر للواقع في بعده الاحتفالي الصاخب. عندما بدأ المواطنون يشكّون في واقعهم قرّرت شخصيات المسرحية خوض حربها ضدّهم وضدّ السلطة من أجل ”إعلان الأرض وطنا للجميع” ومن أجل “تخليص الربّ من جرائم المؤمنين وإعطائه الحريّة كي يصير ما يريد“. وسيستعمل ”القزحيّون“ و”القزحيّات“ في حربهم هذه أسلحة مختلفة من بينها الغاز المسيّل للخيال ومسدّسات بلاستيكيّة ملوّنة وأحلام اليقظة. لا تتحدّث المسرحية بشكل واضح ومباشر عن واقع تونس بعد الثورة ولكنّها تقدّم لنا شخصيات تبحث عن الحريّة والانعتاق من قيود المجتمع، وتريد أن تقوم بثورة ليس فقط على الحاكم وإنّما على السلطة الوالديّة وقد تجلّى ذلك في مشهد قتل الأمّ رمزيّا. اشتغل أيمن الماجري وفريق الممثلين على مفهوم اللعب في بعده الفلسفيّ، منتقدا حياتنا المملّة والشاقة التي لا تسمح لنا بالاستمتاع بالفراغ. قد تجد المسرحية مرجعيّتها عند الفيلسوف الانجليزي برتراند رسل الذي كتب ”في مدح الكسل“، انتقد فيه ”المدنية الصناعية“ التي لم تخلق من الإنسان الحديث سوى عبدا للعمل الآلي غير قادر على اللهو واللعب. الأطفال يلعبون لأنهم غير قادرين على استيعاب الواقع ولا يستطيعون أن يحيوا في عالم الحقيقة، ورغم أنّ ألعابهم تكون في بعض الأحيان محاكاة للواقع إلاّ أنّها تنطلق منه فقط لصنع عالمهم المتخيّل الخاصّ، وهذا ما حصل مع شخصيات ”قزح“ الذين صنعوا بخيالهم ”بلاد العجائب“ التي تنتصر للحياة والغناء، غناء الصور المتحرّكة. وإذن فإنّ الوظيفة التخيلية التي يضطلع بها اللعب، كما يذكر ذلك الفيلسوف المصري زكرياء إبراهيم في كتابه ”مشكلة الحياة“:

لا تحمل طابع التعلم أو المحاكاة التي طالما تحدّث عنها بعض الباحثين. والحق أن الخيال هنا قلما يتجه نحو الموضوع، بل هو يتضمن في معظم الأحيان عملية ”انطواء للذات“ على نفسها، وكأن الذات تجد لذة كبرى في الشعور بنشاطها الخاص، أو كأنما هي تبدع لنفسها عالما وهميا يحدث فيه كل شيء على هواها. ولهذا فقد ذهب الكثير من الباحثين إلى أن في اللعب ضربا من الفرار أو الهروب، مادام شأن الطفل أن يتحرّر، عن طريق اللعب، من كل قيد يأسره.

عندما نلعب نخلق عوالم خيالية غير حقيقيّة ولكنّها ترضي رغباتنا المعلنة والمكبوتة في نوع من الإيهام الإراديّ، الفنّ والإبداع لا يخلوان من هذا النوع من الإيهام، فـ”الفنّ بالنسبة إلى الفنّان ضرب من اللعب ولكنّه لعب أليم“ على قول الفيلسوف الفرنسيّ فيليسيان شالاي، لذلك كانت مسرحية ”قزح“ لعبة جماعية انفلت فيها الجسد ”المخنّث“ من الرقابة الاجتماعية والدينية.