لا يعكس هذا التفوق تجذرا اجتماعيا قويا للحزبين الحاكمين بقدر ما هو انعكاس لهيمنة سياسية على السوق الانتخابية، نظرا لقدرة حليفي السلطة على التحكم في المسار الانتخابي برمته، سواء عبر فرض الموعد الانتخابي الحالي الذي جاء على أنقاض مواعيد سابقة لم تكن ملائمة للجاهزية السياسية والانتخابية لحزبي الحكم، أو عبر تعطيل سد الشغور صلب الهيئة المستقلة للانتخابات الذي خضع لإرادة الأغلبية البرلمانية المُمَثلة بحركة النهضة ونداء تونس. بالتوازي مع هذا يشكّل التموقع داخل مؤسسات الحكم المركزية والجهوية جزءا من ميزان القوة الانتخابي لأنه يوفر قدرة حصرية على التحكم في المصالح الاجتماعية ويسمح بالاستفادة من الإمكانات التنظيمية الفعالة للدولة، وهي إمكانات يصعب على الأحزاب امتلاكها مهما طوّرت دينامياتها التنظيمية، ومن داخل هذا المنطق شكّل نداء تونس التنسيقية المشرفة على الانتخابات البلدية بـ12 عضو من الحكومة، بينهم وزراء وكتاب دولة، وبمشاركة أربعة مستشارين لدى رئاسة الجمهورية.
أما على مستوى الفعالية الحزبية فيبدو أن حركة النهضة استفادت من قاعدتها الاجتماعية الكلاسيكية –التي تربطها صلات عقائدية بالحركة- مُضاف إلى ذلك تزويدها بخطاب سياسي دعائي يزعم الانفتاح على بقية الشرائح الاجتماعية. أما نداء تونس فقد اشتغل على تفعيل الروابط بالقاعدة النشيطة المُبعثرة لحزب التجمع المنحل واستمالة جزء منها عبر استقدام قيادات من نظام بن علي وتكليفهم بمهام حزبية أو حكومية. هذا مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه القاعدة ظلت موضع منافسة انتخابية بين العديد من الأحزاب منذ سنة 2011.
صراع القطبين وترميم منظومة التوافق
حصيلة القائمات الانتخابية تضعنا أمام قطبية انتخابية متوزعة بين حزبي نداء تونس وحركة النهضة، يجري الترويج لها في بعض الدوائر بأنها منافسة جديدة بين “مشروع الدولة الوطنية” و”مشروع الإسلام السياسي”، وهو ما يتطابق مع تصريح سابق للمكلف بالشؤون السياسية في حركة نداء تونس برهان بسيس. ولا تعكس هذه المعيارية صراعا فعليا بين مشروعين اجتماعيين -نظرا للاتفاقات السياسية والاجتماعية الحاصلة والبادية للعيان- وإنما تندرج ضمن حاجة الزمن الانتخابي إلى براديغمات (نماذج) متصارعة حتى تحظى المنافسة بقابلية اجتماعية. من هذا المنطلق اختار نداء تونس إحياء نموذجه الانتخابي لسنة 2014، الذي يستند إلى شبكة من الرموز المستوحاة من الفكر السياسي الحديث مثل “المساواة بين المرأة والرجل” و”الحريات الفردية” و”الدولة المدنية”، ويجري استعادة التجربة البورقيبية كمحمل تاريخي لمفاهيم الحداثة السياسية. ورغم أن الكثير من الأجندات تغيرت مقارنة بسنة 2014 ولم يحافظ هذا النموذج على حرارته السابقة، بفعل التقارب الكبير مع الحركة الإسلامية، فإن التمسك به يعكس عجزا سياسيا عن صناعة بدائل اجتماعية وثقافية منسجمة مع حاجات المجتمع الجديدة، ويدل أيضا على منافسة شديدة بين نداء تونس بصورته الحالية وبين المنشقين عنه حول احتكار براديغم “دولة الاستقلال” وتوظيفه في معارك الجَذب الانتخابي.
أما حركة النهضة فإنها تتحاشى إلصاقها بنموذج “الإسلام السياسي” لما يطرحه من مشكلات سياسية داخلية وخارجية، ونظرا لأنه بات يشكل أداة دعائية تُستخدم بكثافة ضدها. وعلى هذا الأساس تَحرص على الظهور بوجه الحركة المدنية المنفتحة والملتزمة بقيم المواطنة والديمقراطية، وقد دخلت في ما يصفه المفكر الجزائري محمد أركون بـ”المزايدة المحاكاتية” مع بقية الطيف “العلماني”، ويتجلى هذا بالأساس من خلال ترشيحها لمواطن تونسي يهودي الديانة في إحدى قائماتها بولاية المنستير، وهي جهة تحمل دلالة رمزية بالنسبة لمستخدمي المشروع البورقيبي، إضافة إلى أنها الأكثر استلاما لمطالب الترشح بحوالي 190 مطلبا.
رهان نداء تونس على الحشد الانتخابي على قاعدة التضاد بين “الحداثة” و”الإسلام السياسي” تسعى حركة النهضة إلى التخفيف من وطأته، وعلى الأرجح لن يحظى هذا التمايز الدعائي بفعالية كبيرة من شأنها أن تؤسس لقطيعة سياسية بين الحزبين، بقدر ما هو تناقض عرضي تطلبته الضرورة الانتخابية. وفي نهاية المطاف ستؤول المنافسة إلى تقاسم الأغلبية بين حزبي الحكم، مما سيشكل مدخلا سياسيا لتجديد التحالف وترميم منظومة التوافق التي أصبحت تعيش مأزقا كبيرا منذ تشكيل حكومة يوسف الشاهد.
هشاشة الائتلافات الحزبية
على الضفة الأخرى تقف الائتلافات الحزبية كمنافس يبحث عن تعديل ميزان القوة السياسية عبر صناديق الاقتراع، ورغم أنها لا تحظى بنفس الإمكانات التنظيمية والمالية التي يمتلكها الحزبين الحاكمين، فإن بعض العوامل الداخلية الخاصة ساهمت في التقليص من فعاليتها الانتخابية على اعتبار أن 206 دائرة بلدية لم تتلقى ترشحات ائتلافية، وهو ما يبرز في ائتلاف الاتحاد المدني المتكون من 11 حزب لم تفلح سوى في تشكيل 48 قائمة إئتلافية في حين أولت اهتماما أكبر لقائماتها الحزبية التي بلغت حوالي 144 قائمة، وهو ما يعطي فكرة أولية عن هشاشة العمل الائتلافي الذي تأسس على خطاب سياسي-انتخابي مضاد لسلطة التوافق ومحكوم بهاجس احتكار براديغم “الدولة المدنية”، ولم يتأسس على عمل حزبي مشترك في المحليات والجهات الداخلية. ومنذ الوهلة الأولى أعلن الاتحاد المدني أنه سيخوض الصراع الانتخابي بقائمات موحدة في مراكز الولايات الكبرى، وهو ما يشير إلى الانطلاق من ثقافة سياسية مركزية تدرك أن الصراع حول السلطة يجري باستمرار في المراكز الحضرية الكبرى التي تتكثف فيها شبكات المال والأعمال.
من جهتها تبحث الجبهة الشعبية -بوصفها أحد الإئتلافات الحزبية المشاركة بـ132 قائمة- عن قلب مضامين الصراع داخل الخطاب الانتخابي ليصبح أكثر تمركزا حول البرامج الاجتماعية والاقتصادية، حتى يَسهل عليها الحشد على قاعدة الإدانة السياسية لمنظومة الحكم، ويظل هذا المطلب صعب الإنجاز في ظل هيمنة حزبي الحكم على مضامين الخطاب الانتخابي عبر التحكم في مسالك الدعاية والإعلام. ومن ناحية أخرى تشكو الجبهة الشعبية من هشاشة تنظيمية على المستوى الجهوي والمحلي، لم تسمح لها بتشكيل قوة اجتماعية تعطيها القدرة على قلب ميزان القوة من داخل المعادلة الاجتماعية وليس من داخل المعادلة السياسية القائمة، وبالتالي يبدو رهانها الحالي محصورا في تأمين تمثيلية انتخابية محلية تنسجم مع حجمها البرلماني الحالي.
iThere are no comments
Add yours