بدأت قضيّة أطفال التوحّد بعد تداول مواقع التواصل الاجتماعي لفيديوهات مسرّبة من داخل مركز خاصّ لرعاية الأطفال المتوحّدين يُبيّن قيام مربّيتين بضرب وتعذيب بعض الأطفال الذين يدفع أوليائهم شهريّا مبلغا قدره 700 دينار لتحسين قدارتهم وفكّ العزلة عنهم. كانت مقاطع الفيديو صادمة رغم بعض المواقف المُطّبعة مع العنف ومن بينها ما كتبته المربية حذامي الجبالي المتورّطة في جريمة تعذيب الأطفال على حسابها الشخصيّ بموقع فايسبوك: “أصبحتم جميعكم ملائكة الآن، من منكم لم يتعرّض للضرب من قبل معلّمه أو وليّ أمره”. أمام الضجّة التي أحدثتها الفيديوهات المسرّبة، قامت النيابة العموميّة باستدعاء المُربيتين المتورطتين في ضرب أطفال التوحد إلى جانب مديرة المركز هالة الشنوفي. ورغم أنّ المجلة الجزائية في فصلها الـ224 تنصّ على “العقاب بالسجن مدّة خمسة أعوام وبخطيّة قدرها 120 دينار ضد كل من اعتاد سوء معاملة طفل أو غيره من القاصرين الموضوعين تحت ولايته أو رقابته”، ورغم اعتراف المربيتين بجريمتهما، لم يصدر في حقّهما أي حكم ليُواصل المركز الذي كان شاهدا على تعذيب الأطفال عمله وكأنّ شيئا لم يكن.
مناهضو القضيّة يزيّفون الحقائق
أمام هذا التراخي في التعامل مع جريمة بمثل هذا الحجم، قرّرت لجنة مساندة الأطفال ذوي التوحّد وذوي الإعاقة عامّة تنظيم وقفة احتجاجية بساحة القصبة حضرها ممثّلون عن جمعيات حقوقية والعديد من أولياء الأطفال ذوي التوحد والمساندين لهذه القضيّة التي يريد مناهضوها تعويمها وتزييف حقائقها، والذين سبق وأن قاموا بتنظيم وقفة مساندة لمديرة المركز هالة الشنوفي ، انتحلت خلالها امرأة شخصيّة والدة الطفل أحمد مجبري (9 سنوات)، أحد الأطفال الذين تعرّضوا إلى العنف، وقالت إنها موافقة على تأديب ابنها. تحدّثنا إلى سوسن الطرابلسي والدة أحمد الحقيقيّة، وأكّدت أنها “ليست المرّة الأولى التي يتعرّض فيها ابني إلى الضرب من قبل مربيّات المركز”، حيث اشتكت إلى المديرة التي اصطفّت إلى جانب موظّفاتها رغم أنّ الطفل أحمد يعاني من مرض الصرع وقام بإجراء عمليّة على رأسه. كما أشارت إلى أن ابنها تعرّض إلى أوّل نوبة صرع في حياته بعد شهر فقط من التحاقه بمركز رعاية الأطفال ذوي التوحّد وهو ما يبيّن حجم الضغوطات وسوء المعاملة التي يتعرّض لها الأطفال بهذا المركز. لا يبدو أن وضعيّة مركز رعاية الأطفال ذوي التوحد تقف عند حدود التعذيب وسوء المعاملة، فقد أكّد المندوب العام للطفولة مهيار حمادي، أن هذا المركز لا يخضع إلى الشروط القانونية، مفيدا بأن مديرته هالة الشنوفي تحصّلت على ترخيص لإدارة مدرسة خاصّة من وزارة التربية عوض الحصول على ترخيص من وزارة الشؤون الاجتماعية، نظرا لأن المركز متخصّص في رعاية مرضى التوحّد.
تعقيدات بيروقراطية لدمج أطفال التوحد
كانت الوقفة الاحتجاجية مزيجا من الثبات على موقف إدانة العنف ومحاسبة المتورّطين فيه والتحسّر على واقع الإعاقة في تونس، وقد أجمع الأولياء الذين تحدّثنا إليهم على أن وضعيّة الأطفال ذوي التوحّد معقّدة وأنّهم مهمّشون ومنسيّون رغم ما يمكن أن يكون لهم من قدرات ومواهب. من بين الأولياء ملاك جربي الذي تعرّض ابنها البالغ من العمر تسع سنوات إلى الضرب على يد إحدى مربيّات مركز أريانة، وفي هذا السياق قالت لنواة “لم أكن أفهم الإشارات التي يقوم بها ابني كل صباح، حيث كان يصرخ ويرفض ارتداء ميدعته، وقد فهمت بعد تسريب مقاطع الفيديو، أنّه كان يخاف الذهاب إلى المركز لأنه كان يتعرّض فيه إلى العنف بشكل مستمرّ”. وأبدت ملاك جربي استغرابها من صمت مديرة المركز هالة الشنوفي وتواطئها مع موظّفاتها حيث أضافت: “كنت أثق في المديرة لأنّها كانت تبدي لنا موقفا مناهضا للعنف وكانت تقول إن طفل التوحد بصفة خاصّة عندما يتعرّض إلى العنف يُصبح عنيفا بشكل آلي، لذلك لم أشكّ يوما في أن ابني كان يتعرّض إلى الضرب رغم أني لاحظت تغيّرا في سلوكه وأنه أصبح يميل إلى العنف في تصرّفاته”. تحدّثنا كذلك إلى عزيزة بن ساسي والدة فرح بن ساسي (13 سنة) طفلة متوحّدة كانت في مركز حكوميّ لرعاية الأطفال ذوي الإعاقة في العمران، قضّت فيه سنوات طويلة لم تتحسّن خلالها وضعيّتها، لذلك سعت والدتها إلى دمجها ضمن مدرسة عمومية، وبعد مجهودات مضنية والصبر على التعقيدات البيروقراطيّة، وافقت وزارة التربية واللجنة المختصّة في الدمج على إلحاق فرح بالمدرسة ولكن شرط أن يرافقها داخل الفصل شخص مختصّ، ومن هنا تنطلق رحلة العذاب حسب شهادة عزيزة، لأنّ إيجاد مرافق للطفل المتوحّد ليس بالأمر السهل، مع العلم أن الوليّ يتكفّل بجميع المصاريف وذلك بتخصيص راتب شهري لا يقلّ عن 500 دينار للمُرافق والتكفّل بمصاريف السكن والتنقّل إن لزم الأمر. وأفادت بأن الدولة التي تفرض على الأولياء دفع راتب المرافق لا توفّر لهم إطارا قانونيّا يضمن التزام هذا المرافق بمهمّته حيث لا يوجد عقد بين الطرفين بما لا يضمن حقوقهما. ولا يقف الأمر عند مشكل إيجاد مرافق وتوفير الإمكانيات المادية للتكفل به بل يعترض وليّ الطفل المتوحّد إلى مشاكل أخرى أهمّها أن المعلّم أو المعلّمة لم يخضع إلى تكوين مختصّ في التعامل مع الأطفال المتوحّدين أو ذوي الإعاقة بشكل عامّ لذلك في الغالب لا يحسن الإطار التربويّ التعامل مع هؤلاء الأطفال. ويُذكر أن الفصل 48 من الدستور يضمن لكل مواطن ذي إعاقة الحق في الانتفاع بكل التدابير التي تضمن له الاندماج الكامل في المجتمع، وتتخذ الدولة وفقا لهذا الفصل جميع الاجراءات الضروريّة لتحقيق ذلك.
ضعف سياسة الدولة في هذا المجال
انتهت الوقفة الاحتجاجية بعقد جلسة بين ممثلي لجنة المساندة لقضية الأطفال ذوي التوحد والدفاع عن حقوق الأطفال/الأشخاص ذوي الإعاقة والطرف الحكومي ممثلا في الكاتب العام للحكومة الهادي الماكني ورئيس ديوان رئاسة الحكومة ماهر السلامي ومستشار رئيس الحكومة المكلف بملف الشؤون الاجتماعية سيد بلال. وقد أكد ممثلو الطرف الحكومي على انطلاق تنفيذ القرارات التي أعلن عنها رئيس الحكومة في بلاغه الصادر بتاريخ 20 فيفري 2018، وخاصة تلك المتعلقة بعرض الأطفال المعنّفين على المختصين النفسيين في أسرع الآجال والعمل على إخضاع المركز المذكور إلى الإشراف البيداغوجي لوزارة الشؤون الاجتماعية. قد تبدو هذه الوعود “مطمئنة” و”إيجابية”، حسب ما جاء في البلاغ الإعلامي للجنة المساندة الصادر في 28 فيفري، ولكنّها كانت ردّة فعل على ما حصل وهو ما يشي بضعف سياسة الدولة في التعامل مع هذا الملفّ حيث لم تتحرّك حكومة الشاهد للعمل على تغيير واقع الإعاقة في تونس من منظوريه الاجتماعي والحقوقيّ، وظلّ الأشخاص ذوي الإعاقة مجرّد خزّان انتخابي لبعض الأحزاب. وفي هذا السياق سألنا أولياء الأطفال الذين تعرّضوا إلى التعذيب وأكدوّا لنا أنّه لم يتّصل بهم أي مختصّ نفسيّ من طرف الحكومة رغم الطابع الاستعجاليّ لحالات أطفالهم وفضاعة ما تعرّضوا إليه.
كان يمكن لفرح أن تكون رسّامة تتقن العبث بخيالها، وكان يمكن لأحمد أن يصبح فيلسوفا مهووسا بالكوسموس. ذنبهم أنهم يعيشون في دولة وفي مجتمع لا يفهم الصلة بين العبقريّة والتوحّد، ولا يعرفون أن لمرضى التوحدّ ذاكرة مرئيّة خارقة وقدرة عجائبيّة على تذكّر المشاهد بجميع انفعالاتها وبأصواتها وتفاصيلها الدقيقة.
Qu’on le veuille ou pas, nous sommes devant un crime contre l’humanité. Et ça mesure bien la mentalité tunisienne. L’Handicap est tout simplement une normalité au yeux des politiques publiques et Aux yeux de la considération sociale. Elle en est où la Tunisie de cela ?