ينص الفصل التاسع من الدستور التونسي على أن ”الحفاظ على وحدة الوطن والدفاع عن حرمته واجب مقدّس على كلّ المواطنين“ وعليه فإنّ ”الخدمة الوطنية واجب حسب الصيغ والشروط التي يضبطها القانون“. وبالنظر إلى المنظومة القانونية المتعلّقة بالخدمة العسكريّة نلاحظ أنّها غير ناجعة ولم تؤثّر في الحدّ من نسب عزوف الشباب عن أداء واجبهم الإلزامي. ورغم أن العديد من الدول تسعى إلى الإلغاء التدريجي للخدمة العسكريّة الإجباريّة لتجعل الحريّة الفرديّة قوام كل شيء، إلاّ أن تونس مازالت تحافظ على آليّة التجنيد الإجباريّ التي لم تخرج عن منطق التدريب العسكري التقليدي. وبالعودة إلى القوانين المتعلّقة بالخدمة العسكريّة منذ سنة 1957 إلى سنة 2004 نفهم أنّ مفهوم الدفاع عن الوطن ظلّ محصورا في بوتقة العقيدة القتاليّة رغم محاولات أقلمة المفهوم مع الظروف والتطورات الدولية التي تقتضي إضفاء طابع إنمائيّ للمؤسسة العسكريّة يتجاوز طابعها الدفاعيّ الكلاسيكيّ.

مراجعة قوانين الخدمة العسكرية

أكّد وزير الدفاع الوطني عبد الكريم الزبيدي خلال جلسة استماع عقدتها لجنة الأمن والدفاع بمجلس النواب في 12 فيفري 2018، أن الوزارة بصدد إعداد مشروع قانون جديد ينظم الخدمة العسكرية في تونس. ومن بين الإجراءات التي سينصّ عليها القانون الجديد إلغاء آلية التعيينات الفرديّة، التي تتعارض حسب قوله مع مبدأ المساواة أمام القانون. وبحسب ما أورده موقع وزارة الدفاع فإنّه يمكن لكل شاب بلغ من العمر عشرين عاما أن يؤدي واجب الخدمة الوطنية في نطاق التعيينات الفردية وذلك بالنسبة إلى العاملين بالإدارات والمؤسسات وأصحاب المهن الحرة وأصحاب المشاريع الفردية الخاصة، ويتابع تكوينا عسكريا أساسيا لمدة 21 يوما، كما يلتزم بدفع مساهمة مالية شهرية لصندوق الخدمة الوطنية.
وفي صورة عدم دفع المساهمة المذكورة في الآجال يمكن لوزير الدفاع الوطني -بمقتضى قرار- وضع حد لتعيين المعني بالأمر لأداء واجب الخدمة الوطنية في إطار التعيينات الفردية والإذن بنقلته إلى إحدى وحدات القوات المسلحة لقضاء المدة المتبقية. ويبدو أن نظام التعيينات الفردية نظاما تمييزيّا، حيث حاول وزراء الدفاع المتعاقبون تعليق العمل به دون إلغائه نهائيّا. وكثيرا ما يشتكى الشباب من هذا النظام الذي يمكن أن يمنعهم من الاستمرار في عملهم خاصّة ممّن هم متعاقدون مع مؤسّسات خاصّة.

كما تتضمن أحكام مشروع القانون الذي ستعرضه الوزارة قريبا على مجلس النوّاب، إدراج الخدمة المدنية لدى الوزارات والمؤسسات العمومية في إطار تطوير مفهوم الخدمة الوطنية التي لم تعد تقتصر على التجنيد العسكري. وحافظ مشروع القانون الجديد على إلزامية الخدمة العسكريّة رغم التأكيد على إقرار المرونة في أداء ”الواجب الوطني“ الذي يظلّ محكوما بقانون مجلّة المرافعات والعقوبات العسكرية، حيث ينصّ الفصل 66 من هذه المجلّة على العقاب بالسجن لكل من وجبت عليه الخدمة العسكرية ولم يلب الدعوة. لم يحُل الجانب الجزريّ الطاغي على القانون دون بحث الشباب الدائم عن سبل للتهرّب من الخدمة العسكرية أو الحصول على إعفاء رسميّ يصل إلى حدّ تزوير وثائق طبيّة أو دفع رشوة، هذا رغم الإقبال الاختياري على التجنيد من قبل العديد من شباب المناطق الداخلية إثر الأحداث الإرهابيّة التي عرفتها تونس بعد الثورة.

هذا ولم يقتصر مشروع القانون الجديد على إلغاء نظام التعيينات الفردية التمييزيّ وإدراج الخدمة المدنية بل سيقرّ مبدأ المساواة بين الجنسين في أداء الخدمة العسكريّة وهو من المواضيع المثيرة للجدل والتي تتأرجح فيها الآراء بين مؤيّد ومعارض.

المساواة في الخدمة العسكرية

دائما ما ترتبط المؤسسة العسكرية في الاعتقاد السائد بالذكورية، فالخدمة العسكرية هي ممارسة رجاليّة بامتياز ولكنّها مثقلة بالسلطة الانضباطيّة لذلك يمتنع آلاف الشباب الذكور عن تأدية نداء الواجب رغم انتصاره لقيم الفحولة والمواطنة الصالحة. ومع تجدّد الجدل حول المساواة في الخدمة العسكرية، وبغضّ النظر عن خلفياته السياسية خاصّة مع تزامنه مع النقاش العام حول المساواة في الميراث، فإنّنا نفهم أن المؤسسة العسكرية هي مؤسّسة للهيمنة الذكوريّة، فالعديد من الآراء كانت تدور في فلك السخرية من المرأة الجنديّة رغم أن القانون التونسي لا يستثني النساء من الخدمة العسكرية. وتزامنا اليوم العالمي للمرأة أطلق نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي حملة ”المساواة في الخدمة العسكرية حق مش مزية“ للردّ على حملة ”المساواة في الميراث حق مش مزية“ والتي يقودها نشطاء حقوقيّون ونسويّات من مختلف الأعمار.

ومع تجدّد النقاش حول هذه المسألة اعتبر العديد من النشطاء أنه يجب الحديث عن مشكل محدودية إمكانيّات المؤسّسة العسكرية وميزانية وزارة الدفاع، والأهم من ذلك مساءلة مفهوم ”الواجب الوطني“ الذي يبدو أنه رهين الإكراه الانضباطي، مطالبين بإلغاء التجنيد الإجباريّ الذي كان ومازال مطيّة للتشفّي وتصفية الحسابات. وقد طُرِحت مسألة المساواة في الخدمة العسكرية بين الجنسين منذ سنوات ولكنّ مصيرها كان محكوما بالإجهاض في كل مرّة. وسبق أن صرّح مدير عام التجنيد والتعبئة بوزارة الدفاع لطفي بن وحيدة، عن نية الوزارة إطلاق حملة تجنيد الشابات الراغبات في أداء الخدمة الوطنية في القريب العاجل، مفيدا بأن ”هناك تفكير في الموضوع وستظهر بادرة في الأمر لتجنيد الشابات في نطاق مبدأ المساواة“، حسب تعبيره. ومن جانبه أكد وزير الدفاع أن مشروع القانون الذي سيطرح مسألة المساواة في التجنيد لا يزال في مرحلة المسودة، وأنه سيُعرض على عديد الأطراف مثل جمعية قدماء العسكريين لإدخال التعديلات الضرورية قبل عرضه على أنظار مجلس الأمن القومي والمجلس الأعلى للجيوش ومجلس الوزراء ومن ثمة إحالته في صيغته النهائية على البرلمان.

لقد اكتسبت المؤسسة العسكرية شرعيتها من خلال الترهيب أو ما يُسمّى في القانون بـ”الردع العام“ وتصوير الثكنة على أنها مؤسسة ناجعة لتفعيل قيم المواطنة. فالدولة على هذا الأساس تلزم الشباب بالتجنيد ليكتسب مهارات جديدة ويحب وطنه أكثر، ولكنّها في حقيقة الأمر تقوم بضبط ”الجسد الفالت“ وإخضاعه إلى مجموعة من المؤسسات مثل المؤسسة التربوية (المدرسة) والعقابية (السجن) وعندها يصبح الفرد منضبطا ويمارس رقابة على نفسه وعلى غيره أيضا. وعليه فإن فهم السلطة من خلال فهم مؤسّسات الدولة ومنها المؤسسة العسكرية التي تمثّل السلطة الانضباطيّة ضروري لإعادة تشكيل مفاهيم جديدة وتثوير الآليات المتكلّسة.