تنطلق أحداث المسلسل الذي أخرجه كل من سامي الفهري وسوسن الجمني بين أوت وسبتمبر 1849، وتُستهل أولى مشاهده بحوار بين أحمد باي (1837-1855) ومرافقه الفريق بن عصمان، إذ يبدي الباي خيبته من عدم استيعاب ”العربان“ والفلاحين وبعض رجال الدين قرار إلغاء العبودية الذي اتّخِذ أواخر 1846، فيقول له مرافقه ”سِيدْنا التاريخ بَاش يِشهدلك إلى انتِ أوّل من ألغى العبودية وفْرَض عْلم تونس عْلى لَتراك ونَصبُو قبلهم“. ولا تخلو هذه الحوارية من نزعة تمجيدية لأحمد باي، الذي يحظى بدور بطولي يجسده الممثل عزيز باي الذي يُرجح أنه من سلالة البايات. وهنا تأتي الدراما من أجل فرض رؤية اختزالية لحقبة تاريخية بالغة التعقيد، لم يكن فيها بالضرورة أحمد باي قد ألغى العبودية بقرار ذاتي مُستمد من حس تاريخي بضرورة إشاعة المساواة والعدالة أو كان له السبق في فرض علم تونس على الأتراك. وأثناء دراسته لهذه الحقبة في مؤلفه ”تونس والتحديث 1831-1877“ يذهب المؤرخ التونسي الهادي التيمومي إلى أن ”بريطانيا سلطت بعض الضغط على أحمد باي لحثه على إلغاء العبودية…وفي 26 جانفي 1846 ألغى أحمد باي العبودية وكان هذا الإجراء بمثابة التعبير عن حسن النوايا قبيل زيارته المرتقبة إلى فرنسا في أواخر 1846“ ويشير التيمومي أيضا إلى أن حسين باي الذي حكم بين مارس 1824 وماي 1835 ”يعود له الفضل في وضع العلم التونسي، وهو علم مستوحى من العلم العثماني“.

تجريد الشخصيات من روحيتها التاريخية

تكمن أحد أوجه القوة الفنية للدراما التاريخية في توظيف عناصر التاريخ وإعادة إحيائها على نحوٍ يُلامس الوقائع التاريخية، وعادة ما يراهن صانعو هذا الفن الدرامي على تزويد أبطالهم بروحية تاريخية خصبة، وعلى بناء ملامح مكانية تقترب من روح ذلك العصر. ولئن ظهر الرهان كبيرا في تاج الحاضرة على استغلال الآثار المعمارية للبايات واختيار ملابس الجند والوزراء والباي وحاشيته بشكل يتلاءم مع الصورة التاريخية للقرن 19، فإن الحضور التاريخي للشخصيات كان باهتا وفي معظم الأحيان لم يقترب أداء الممثلين من الصورة التاريخية التي تنقلها المصادر والمراجع عن الفاعلين التاريخيين لتلك الحقبة الزمنية. ظهَر أحمد باي بصورة رجل الدولة المشغول بهموم الرعية، حتى أنه يشكو لجاريته في خلوتهم الحميمية ثقل التفكير في أحوال المملكة، قائلا ”تاعِب ومْضَحّي عْلَى خَاطر الرْعيّة، نْحِب نْرُدهم عْبَاد وفي لخِّر حتى حد ما يرالك بيه“، وفي أحيان أخرى ينخرط في لعبة تأنيب الضمير، ليأخذ حاكم البلاد والعباد صورة الإنسان الذي يأسره الشعور بالذنب بسبب أمره بإعدام نفر من عسكر زواوة في لحظة غضب غَير مسيطَر عليها.

بالمقابل تُقدم الصورة التاريخية ملامح أخرى مغايرة لهذه الصورة الدرامية البسيطة، فأحمد باي الذي كان شاهدا وفاعلا في مرحلة تاريخية معقدة داخليا وخارجيا، كان ميّالا إلى الأبهة وشديد الاعتداد بالنفس. إذ يقول عنه الشيخ الحنفي محمد بيرم الخامس في كتابه صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار ”من رغبته في التفخيم أنه توجه إلى السلطان العثماني مستعطفا وطالبا التفضل عليه برتبة مشير وأجيب لرغبته وكان أول من تقلد هذه الرتبة من آل البيت الحسيني“. وبالرغم من أن سنوات حكمه تعد شاهدا على مرحلة جديدة من التحديث الإداري والعسكري، فإن هذا الجهد كان يتم على حساب السكان من الطبقات الفقيرة والمتوسطة التي أثقِل كاهلها بضرائب جديدة كانت الكثير من عائداتها تُنفق في بناء قصور جديدة مثل قصر باردو والمحمدية والصالحية وقصر حلق الوادي. وكان أحمد باي شخصية مسكونة بالخوف من حركات العصيان الريفي المتجددة بسب وطأة الضغط الجبائي، ولهذا السبب انحصرت وظيفة الجيش، مثلما يذهب إلى ذلك أستاذ التاريخ المعاصر عبد الحميد هنية في كتابه تونس العثمانية، في ”إخماد الانتفاضات الداخلية وحركات العصيان، وهي لا شك الوظيفة الأساسية التي بُعِث من أجلها“، وقد طوّر أحمد باي جهازا عسكريا قويا لحمايته، يقول عنه ابن أبي الضياف ”إن القشلة التي كانت تحرس قصر باردو كانت مُعمّرة بألف من العسكر النظامي“. ولعل غياب الروح التاريخية عن أبطال الدراما يتجلى أيضا في شخصيات أخرى مثل مصطفى خزنة دار الذي كان حضوره باهتا مقارنة بدهائه وتأثيره السياسي الكبير الذي يصفه الشيخ بيرم الخامس بـ”صاحب النفوذ الحقيقي لتقريب الوالي إليه“. وهو ما ينطبق أيضا على خير الدين باشا الذي حضر في بعض الّأحيان بشخصية ممتثلة وعادة ما تتكلم همسا، في حين أن التاريخ يحتفظ للرجل بميزات الجرأة والنباهة والفطنة السياسية.

التاريخ الاجتماعي تائه في أسرّة دراما ”الحرملك“

رغم الإيهام بوجود سياق سوسيو-تاريخي للعمل الدرامي جَسّدته حادثة وباء الكوليرا التي اجتاحت الإيالة في تلك الفترة، فإن إبراز آثارها الاجتماعية اقتصر على العائلة المَلَكية والحاشية، في حين أهمِل التأثير الاجتماعي الواسع لهذا الوباء على بقية السكان حيت سميت تلك السنة بـ”عام بوبرّاك“ ويصف أحمد ابن أبي الضياف هذا العام في إتحافه ”قال لي بعض عقلاء العرب من أهل الخبرة: مات الثلثان وبقي الثلث ويشهد له الحال من الجباية حتى عجزوا عن الحفر لمواراة الموتى، فصاروا يجعلونهم في مطامير خزن الحبوب لفراغها، دون ما تأكله الوحش والكلاب“. ورغم التنوع الاجتماعي لسكان الحاضرة الذي كان يقدر عددهم آنذاك حسب محمد بيرم الخامس بـ”نحو مائة وخمسين ألف نسمة. منهم نصارى وافدون أتباع الدول الأجنبية نحو عشرين ألفا. ويهود نحو أربعين ألفا. والمسلمون، ما بين أهالي أو جزائريين نحو تسعين ألفا“ فإن أحداث الدراما اقتصرت على الشريحة الاجتماعية المتصلة بالبيت الملَكي، حتى الحضور الكبير لأحد الحرفيين الذي جسدته شخصية ”عبود“ كان مقترنا بالحاشية.

تُهدر الدراما هذا التاريخ الاجتماعي المحلي، لتنخرط بكل تصميم في اجتماعيات ”الحرملك“، التي دشنتها الدراما التركية في سعيها إلى تصوير التأثير الكبير للجناح الخاص بالسلطان العثماني في بنية الحكم. وقد تجلى هذا الخيار من خلال هيمنة العالم المغلق لنساء الباي والحاشية، بما يحمله من صراع أحادي حول إثبات القدرة على إنجاب الأطفال وإرضاء الرجل الحاكم، وتتقمص هذا النزاع اليومي العديد من الشخصيات المتنافرة، من بينها ”للاّ عايشة“ أم الباي وزوجته الثانية ”تاج“ مقابل زوجته الأولى ”للاّ منانة“ التي لم يعد باستطاعتها إنجاب أمراء جدد، وأيضا نجد صراعا من هذا النوع بين زوجتي شكير خوجة الخيل المسؤول عن جمع الضرائب و مراقبة املاك الدولة. كما تَدفع الدراما بلعبة الشرف التي تنظمها قصة من خارج السياق، تخوضها الخادمة ”عَربية“ التي وقعت في حب أحد أبناء الأعيان وأنجبت منه طفلا لتضطر بعدها إلى الزواج بحرفي بسيط درءا للفضيحة، وتستهلك هذه القصة تقريبا الحلقة الخامسة بأكملها. وقد أثر هذا الخيار المضموني على الأسلوب الفني للدراما الذي عادة ما ينسحب فيه الحوار ليفسح المجال إلى صمت درامي طويل نسبيا، تتخلله موسيقى لا تعكس روح ذاك العصر، وفي بعض الأحيان يتواصل هذا الصمت طيلة ثلاث دقائق، لتصبح المشاهد شبيهة في بعض الأحيان بـالكليبات الغنائية.

المراجع والمصادر المعتمدة في المقال

-الهادي التيمومي: تونس والتحديث (1831-1877)

-عبد الحميد هنية: تونس العثمانية، بناء الدولة والمجال

-محمد بيرم الخامس: صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار

-أحمد ابن أبي الضياف: إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان