خيبة الأمل التي رافقت المردود المتواضع الذي أبرزه لاعبو المنتخب الوطني خلال بطولة كأس العالم بروسيا أفرزت ردود فعل حانقة حول ضعف دفاع المنتخب ونقص الجاهزية البدنية لبعض اللاعبين، إضافة إلى غياب الحضور التكتيكي لدى المدرب سواء في الإختيارات الفنية أو التحويرات أثناء المباراتين ضد كل من انجلترا (بهدفين لهدف) وبلجيكيا (بخمسة أهداف لهدفين) مما أدى إلى خروج ُمخيّب للمنتخب التونسي من الدور الأول بحصيلة ثقيلة من الأهداف المقبولة (7 أهداف إلى حد الآن). عفوية ردود الفعل المستنكرة رافقتها محاولات هجينة لفهم هذا الاختلاف بين المردود المُقنع بعض الشيء خلال المباريات التحضيرية ضد فرق قوية كالبرتغال وإسبانيا وغياب اللعب الجيد في القاءات الرسمية والفشل في التحصين الدفاعي والبناء الهجومي. حيث سعت هذه التبريرات إلى ترسيخ إسقاطات كريهة تعبّر في غالبها على سطحية وانسداد الآفاق الفكرية لمردديها بشكل يُكرّس لاستمرار أدوات حوار نيوكولونيالية يجتمع فيها كره الذات بعداء الآخر المختلف حضاريا.
في نيوكولونيالية ردود الفعل والخطاب العام
ركّز المحور الأول من ردود الفعل لدى المشجعين التونسيين حول افتقاد اللاعبين التونسيين لـ”العقلية” أو الذهنية الإحترافية ذات المرجعية الأوروبية غالبا. إذ يصرّ البعض على أن شخصية اللاعب التونسي وحضوره الذهني لا يناسبان متطلبات رياضة عصرية ككرة القدم. تكثر هنا التبريرات المشبوهة حول الدونية الجينية للاعب التونسي مقارنة بالتفوق الجيني والعقلي للاعب الأوروبي. تصبح إذن عقدة النقص المزمنة رائجة، ولا يرى أحد مانعا في استعمال مفردات مرض العصاب (Neurosis) كأدوات حوار حول فارق القوة بين اللاعبين التونسيين والبلجيكيين مثلا. هذا الاستيعاب الداخلي للخطاب الإيديولوجي الإستعماري كرّس ومازال رؤية دونية رخيصة لكل ماهو تونسي محلي.
سعى المحور الثاني من التعاليق إلى اجترار الإنقسام الأيديولوجي الحاد لدى التونسيين حول التدين أو الحضور الديني للاعبين التونسيين ومدربهم. من جهة، هناك من رأى في الإستعانة بالدين وقراءة سورة الفاتحة نوع من اللاعقلانية التي ترفضها علمية قوانين كرة القدم، ففي استحضار الله أو الأولياء قبل خوض مباراة كرة قدم -تخضع فقط لمنطق علمي مبني على خطط تكتيكية و اختيارات مدروسة- هو نوع من الوثنية التي لا مكان لها داخل رياضة تستعين الآن بالتكنولوجيا وغيرها من العلوم التطبيقية لتمكين الفرق والمنتخبات من تحقيق مردود جيد بشكل مدروس ومقنن. من جهة أخرى، يستنكر الطرف المقابل هذا التهجم على مظاهر التدين ويعتبره تفسخا مذموما لدى ما يطلقون عليهم الآن بـ”الفرنكفونيين”، حيث يُعاب عليهم عدم فهمهم للشخصية التونسية وارتباطها الحميم بالدين والإسلام بشكل جعل الدين معطى أساسيا في التحضير الذهني للاعيبين.
اجترّ المحور الثالث عبارة أن “العرب” لا يفقهون شيئا، فهم “أعراب” سذّج قليلو التبصُّر بأمور الكرة ونواميسها، عكس الغرب. هنا تُفهم دونية اللاعب التونسي على أنها من مخلفات الإختلاط التاريخي والحضاري في تكرير لفكرة رائجة هذه الأيام بأن عروبة التونسيين مُكبّلة لهم، لأن كل ماهو عربي هو متخلف، ساذج، غير قادر على الفوز. هذه الإنهزامية جعلت من جلد الذات والإنسلاخ أسلوب تفكير، حيث يصبح نكران ما يكوّننا تاريخيا وحضاريا شيئا مستحبًّا. تختزل إذن مقولة “إن العرب لا يفقهون شيئا” أن الشخصية التونسية يشوبها مكون عربي مذموم، مما جعل منها أشد عجزا وجاهلة قياسا بأهل العلم الأوروبيين.
السلبية النيوكولونيالية
لم يقتصر ترديد مفردات هذه المحاور الثلاثة على البعض بل امتلأ الفضاء والخطاب العام في تونس بأدوات حوار نيوكولونيالية، ساهم في ترويجها بعض الفنانين والإعلاميين والسياسيين والمهنيين والطلبة. إذا كانت وسائل التواصل الاجتماعي تكتنز مضمون الرأي العام في تونس، فإن انتشار مثل هذه الأفكار السلبية والهدامة عَرقَل ومازال أي مشروع إصلاحي فكري. حيث أن سلبية ما تردده الغالبية في تفاعلها مع مباريات كرة قدم هي نفسها السلبية التي تغلب على أطر تفكيرها في ما يتعلق بالسياسة أو الثقافة أو الإقتصاد. بإيجاز، أود أن أوضح أنه في غياب ثورة العقل، ترضخ علاقتنا بالآخر وبالأشياء إلى إطار نظري تحليلي يكون نتيجة لانتماءنا الإختياري أو اللاإختياري لأفكار وإيديولوجيات معينة يكرسها الجنس واللغة والزمكان. هذا الإطار الذي ننتمي إليه تغلب عليه السيادية بحيث يفرض علينا اختيارات ونواميس معينة في كل شيء بما فيها، كيف نكرس حريتنا؟ من ننتخب؟ أي كتب نقرأ؟ أي صديق نختار؟ أو كيف نرى أنفسنا؟
تفكيك سلبية هذه الأطر الفكرية هو سعي جديد لنقض ما يهدم الشخصية التونسية وما يُوقعها في أدوات الحوار النيوكولونيالي، مُحققة بذلك نبذ الذات واحتقارها. وفي هذا السياق يقول الروائي العربي عبد الرحمان منيف “كي لا نغرق في الظلمات أكثر، يجب أن نعطي للرداءة صفات محددة، وأن نترجمها إلى تعابيريمكن فهمها والتعامل معها، لكي نفصح إمكانية مواجهتها.” هنا تكمن طوباوية السلبية النيوكولونيالية، في تحليل السلبي بدلا عن الإيجابي تكمن طاقات وأفكار لم تكتنفها و لم تسيطر عليها بعد أطر نظرية سيادية مُكبلة. في تفكيك الخطاب النيوكولونيالي الذي غَلب ومازال على ردود فعل مشجعي كرة القدم، هناك إمكانية لمراجعة جذرية للعقل والشخصية التونسية.
iThere are no comments
Add yours