أن تثور لا يعني بالأساس أن تكون عنيفا أو استثنائيا. على العكس، أن تثور اليوم في تونس هو أن تكرّس للفعل الثوري بشكل يومي وسلس. اختر لنفسك قضية ما، اجعلها مركز حياتك اليومية، خض ثورتك بلا مسميات وبلا أهداف. حينها فقط ستعيش إنسانيتك. لأنك الآن، بكل عنف ومهانة، أنزِلت إلى درجة الضحية المقبلة. قتل أيمن العثماني كما قتل الكثيرون من قبله، إما برصاصة الحرس الديواني إثر مداهمة فاشلة، أو إثراعتداء فاحش وتعذيب في أحد الزنزانات أو الأقبية، أو قهرا. هذا الجبروت البوليسي المُميت ليس حدثا استثنائيا. قد عشت عن قرب كيف حول العنف البوليسي حياة الكثيرين من حولي آنذاك إلى جحيم يومي. في الحومة، كانت عمليات التمشيط البوليسي نوعا من الكرنفال الذي يبهرنا صغارا بضخامته وبهرجه. تماما كما حدث في سيدي حسين، تتم المداهمة البوليسية بشكل استعراضي فتكون عادة مكونة من رتل من السيارات يفوق العشرين سيارة. الجميع يُشتم ويُصفع ويُنكّل به بلا سبب واضح. لم يكن غريبا أن يختفي مجموعة من شبان الحي لفترة ما دون أن يعرف أحدهم ما حدث لهم ليظهروا بعدها بكدمات وجروح عديدة في أماكن مختلفة من أجسادهم. أو أن يموت أحدهم وتُرسل الجثة للعائلة المنكوبة في نعش مغلق يصعب فتحه لأن الضحية هُتكت أو هُشّم وجهها تماما، أو أن آثار التعذيب مازالت واضحة.
مازلت أتذكر جيدا ذاك الذي لم يُفلح بعد محاولات عديدة أن “يحرق” إلى لمبدوزا، رغم أن أن أغلب أولاد الحومة نجحوا، خاصة أن حومتنا كانت مركزا لعديد من منظمي محاولات الهجرة عبر البحر. فترة التسعينات التي عشتها في ذلك الحي كانت فترة غير عادية من التجبر البوليسي حيث اجتمع في نفس المكان ما يسمى بالـ”خوانجية” والمهربين ورأس المال الجديد القادم من إيطاليا ومروجو الزطلة، إلى غيرهم مما يصنف بالخطر الداهم على المجتمع. في يوم ما، لم يفلح في الهرب من إحدى عمليات التمشيط لأن ساقه العرجاء لم تساعده كثيرا في الجري أكثر سرعة من أعوان البوليس الذين طاردوه، فاقتِيد ليلتها إلى منطقة الشرطة. لم يعرف أحد ماحدث له في تلك الليلة، غير أنه لم يعد نفس الشخص بعدها؛ كان في العادة بشوشا يسمع دوي صوته وضحكاته من بعيد، غير أنه أصبح بعد تلك الليلة شبحا بلا روح. لم يمض وقت طويل لنسمع بخبر انتحاره بعد أن ألقى بنفسه في بئر معزولة. كثيرة هي الحكايات من هذا النوع التي نتداولها بيننا لتبرير سخطنا على البوليس في تونس. ما وقع في سيدي حسين يحصل يوميا في أماكن أخرى كالملاسين أو المحمدية أوغيرها. لم يتغير شيء بعد الثورة، بل على العكس ازداد العنف والإستهتار البوليسي.
هذا البطش البوليسي ليس جديدا أو هو فعل استثنائي مُميت لشرطي أخرق، هو على العكس مبدأ لبسط الهيمنة البوليسية على الجميع. هذه المنظومة الأيديولوجية، أو ما يسمى بالسياسة الحيوية، يعرّفها الفيلسوف الإيطالي روبرتو إسبوزيتو كـ”نظام حكم قائم على إبادة الآخر أو على الأقل التحكم في من يحيا أو من يموت داخل كيان سياسي ومجتمعي ما”. ليصبح قتل وتعذيب الذات البشرية أداة بيروقراطية خالية من أي بعد أخلاقي. يشير إسبوزيتو إلى النازية أو الاحتلال الأمريكي للعراق كأمثلة معاصرة للتأكيد على أن إختلال منظومة الحفاظ على الحياة البشرية والتوسيع في قدراتها كان نتيجة مسعورة للرؤية النابذة للآخر باعتباره مصدر خطر محدق. في نفس السياق، يعتمد البوليس التونسي نفس التصور الأيديولوجي في علاقته بأبناء الأحياء الشعبية فيراهم دائما كمنحرفين وخطيرين، أو ذوات لاتعاقدية كما يسميهم ميشال فوكو. فتصبح، كما رأينا، أية محاولة احتكاك بهم أمرا غاية في الخطورة يستوجب –في نظر البوليس التونسي- الإعتماد على طرق عسكرية في التوغل والإحتواء وخاصة استعمال الرصاص الحي.
البلطجة البوليسية اختارت هذه المرة دماء شابة أشبَعت ظمأ أخطبوط بوليسي لم يستطع القانون أو الأكاديمية أو السخط الجماهيري أن تكبَح جماحه، فتسلط وتضخم ليصل إلى مرحلة اللاعودة. البوليس في تونس اليوم هو قوة فوق القانون. هي الحقيقة العارية الواضحة. عليك فقط أن ترى أن بطشه وجبروته وصلا إلى درجة أصبح فيها خبر موت أيمن رواية تحتمل التأويلات رغم يقين الصورة وصحة رواية من شاهد الواقعة. لم يعد للنقد الأكاديمي أو الخبر الصحفي أي قدرة على الدفع بالفعل الثوري أو حتى المقاومة اليومية أمام البلطجة البوليسية. ففي الأخير، ستطوى جريمة قتل أيمن العثماني كما طُويت قبلها العديد من حوادث التنكيل والتعذيب المميتة. أمام الواقع اليومي المذل الذي أنزِل بالعديد منا إلى درجة الحيوانية، أو “zoe” كما يسميها اسبوزيتو، أرى أنه لم يعد أمامنا غير أن نثور. هذه المرة، يجب أن تكون أدوات وطرق الثورة والعمل الثوري مختلفة كي لا تُسرق من جديد، كي نمتلك إنسياتنا من جديد.
في أن نتعلم أن نثور من جديد وبشكل مختلف
لا يوجد شيء اسمه فوضى خلاقة، دعك من ترهات المبشرين، كذلك المبادئ الثورية قد أفرِغت من محتواها فأصبحت تسوّق تجاريا وتعلب في قوالب جاهزة براقة. لكنك أنت كإنسان مازلت هنا، مازالت لديك رغبة في الأفضل وفي الأجمل، وهذا ما يهمنا هنا. في العودة إليك كإنسان هي بداية العودة إلى الأساطير الأولى، إلى آدم وحواء بلا دين، بلا ثورة، وبلا مستقبل، إلى ألونسو كيخانو كذلك قبل أن يصبح دون كيخوتي دي لا مانتشا، سائرا حالما مغامرا. ما بين إدموند بورك وكارل ماركس، هناك إمكانية أن تكون ثورتك ضد العنف والبطش البوليسي ثورة مخلتفة تحدد أنت معاييرها وإحتمالاتها وتعابيرها على صعيدك الشخصي الذاتي. قد تكون جهاد الروح أو ثورة المثقف العضوي، أو كبارتلبي النساخ، قد تكمن في الرغبة الملحة والدائمة في الرفض. المهم هو أن تستعيد إنسانيتك بعيدا عن الأفكار والحلول الجاهزة.
ركّز سلامة كيلة في آخر مقال له على فقر وتحنط الفكر الثوري التجديدي، فرأى ‘نُخبا’ لم تعد قادرة على أن تلاقي الشعب من جديد. كان واضحا لكيلة بأن الفعل الثوري في صيغته التقليدية إنتهى، فرأى في الثورات العربية الأخيرة نبوة مازالت في مرحلتها التجريبية في المنطقة العربية، وهي أن الثورة الحقة هي ثورة الفرد من خلال ذاته، في وعيه وفكره الخاص. يبين كيلة أن:
“اللّافت هو أنّ الثّورات الّتي كان الشّباب عنصرها الأساس، وهو الشّباب الّذي لم يعرف السّياسة والثّقافة عمومًا، أفضت إلى ثورةٍ في الفكر، كما يمكن أن يقال، إذ دفعت قطاعًا كبيرًا من هؤلاء الشّباب ليس إلى الانخراط في العمل السّياسيّ فقط، بل الميل للتّثقّف والفهم، وبالتّالي إلى القراءة، وهذا مدخلٌ ضروريٌّ وحاسمٌ لتطوير القدرات النّظريّة وإنتاج الفكر، والثّقافة عمومًا؛ لهذا أعتقد أنّ السّنوات القليلة القادمة سوف تشهد التّعبير الحقيقيّ عن هذه الثّورات؛ فالوعي يتراكم، وكذلك الخبرات، والتّرابط مع الواقع هو أساس كلّ هذا التّشكيل، الأمر الّذي سوف يقود إلى أن يُقدّم فكرٌ وأدبٌ وثقافةٌ جديدةٌ.”
هذا الوعي التراكمي المؤسس للفهم والمُنتج للتعبير الحقيقي عن الثورة في شكلها الأسطوري النبيل لا يمكن أن يتحقق إلا بالرجوع إلى أوائل الأمور والتعقل فيها مجددا. بعيدا عن الإنسياق وراء خطابات وشعارات باهتة لممثلي طبقة وسطى لطالما كانت تائهة أو إنتهازية أو عن طريق التقليد والتتلمذ، كن أنت فارس نفسك وشق طريقك الخاص في مواجهة المهانة والعنف والموت. هذا الرجوع إلى الأفكار والمبادئ المؤسسة هو المدخل الوحيد المتبقي لنا في مقاومة منظومة بوليسية فتكت بنا وجعلتنا عزل أمام جبروتها. قد تكون الأمور بديهية، لكن العقد الإجتماعي المنظم للمجموعة البشرية المسماة تونس قد حان أوان تفكيكه وصياغته من جديد. ليس مهما أن ترى أن الإنسانية نقية أو عنيفة في حالتها الأصلية، فهذا موضوع ثانوي، لكن ما هو أكثر أهمية هو أن للإنسان حق أصلي في الدفاع عن النفس و خاصة هدم الصرح الإجتماعي إذا أصبح خطرا على الذات والروح. ليس هناك شيء يسمى بالديموقراطية العضوية فهذا الكم الهائل من القوانين والطقوس التي تراها الآن من برلمان وأحزاب وانتخابات كل أربعة أو خمسة سنوات هي أشياء اتفقنا حولها لنضمن بأن نعيش سوية ونبني مستقبل معا، وهي مرة أخرى، فكرة غير عضوية. يمكننا إذن أن نستنتج أنه في غياب ما اتفقنا حوله، يجب لزاما أن نثور على العقد الإجتماعي في شكله السرطاني الحالي والدفع بتصور آخر لما يجب أن تكون عليه تونس الجديدة.
يبقى هنا السؤال المحوري: كيف يمكن لنا أن نثور أو نتصور من جديد إذا كانت النخب اليسارية القديمة-الجديدة من جهة ساقطة معنويا وفكريا واليمين المستحوذ على رأس المال من جهة أخرى مستفيد من حالة السقوط والعنف؟ الجواب دائما وأبدا هو أنت كإنسان، كقوة عضوية قادرة على التجديد بشكل لانهائي وبطولي مهما أنهكتك القوى الجبارة التي تسعى للسيطرة عليك وعلى طاقة الخلق والإبداع فيك. ابدأ بنفسك، جرب وحدك وابلغ الحقيقة بشكل فردي ذاتي و ضمن إمكانيتك. لأن أي فعل جماعي اليوم هو فعل فاشل مسبقا. في مواجهة العنف البوليسي، تعلم أن تثور بأن تختار لنفسك قضية ما، اجعلها مركز حياتك اليومية، خض ثورتك بلا مسميات وبلا أهداف. حينها فقط ستعيش إنسانيتك من جديد.
iThere are no comments
Add yours