تراجعت أو خفتت، منذ نتائج انتخابات 2014 وعلى امتداد السنوات الأخيرة، حدّة الاستقطاب الثنائي العلماني الإسلامي. وما التشكل الحكومي اللاّحق على قاعدة التوافق والوحدة الوطنية إلا تعبير أوضح على هذا التراجع الذي أدى إلى وضع حد للمواجهة المباشرة والمفتوحة، أساسا بين نداء تونس وحركة النهضة. وغالبا ما ينظر إلى هذا التراجع من ثلاثة زوايا :
فالبعض يراه خطوة ضرورية فرضها خيار الناخبين لتقدّم الانتقال الديمقراطي في كنف السلم المجتمعي واستبعاد شبح الحرب الأهلية وتجلي جديد للاستثناء التونسي في المنطقة.
ويرى فيه آخرون تهديدا حقيقيا أضرّ بهذا الانتقال وانتكاسة في تاريخ الدولة التونسية سمح للإسلاميين بالتراضي مع بورقيبين قدامى وجدد بالتسلل إلى جسمها العميق، وإدارتها، ومؤسساتها، وأجهزتها، بعد أن كانت هذه الأخيرة، وعلى مدى عقود، في نظرهم، دولة عصرية وعلمانية حمت نفسها من قوى الرّدة والتحجّر الديني، وبنت مؤسّساتها المدنية وفق نموذج الدولة العلمانية الغربية الحديثة.
ومن زاوية ثالثة، تنظر قوى يسارية واجتماعية إلى هذا التحالف الحكومي الإسلامي التجمعي كضرب من الالتفاف على الثورة وعلى عمقها الاجتماعي، وسعي لإقصاء الفئات الأكثر تضرّرا من منظومة الحكم القديمة، واستبعادها إلى خارج الحقل السياسي التمثيلي والمؤسساتي، وهي الفئات المطالبة بتغيير أعمق يمس الاقتصاد والعلاقات الاجتماعية السائدة.
ومع ذلك لم يتوفّق هذا التوّافق في تجميد الحياة السياسية ووقف التناقضات عن التعبير عن نفسها بدرجات متفاوتة، سواء تلك المتعلقة بالحريات الفردية والمساواة بين الجنسين أو بملفات الفساد أو بالعطالة التنموية أو بتدهور القدرة الشرائية وتردي مستوي العيش، لتتصدّر المسألة الاجتماعية، في مرحلة ما، قلب الصراع الاجتماعي بين قوى مدنية ونقابية ومهنية وسياسية متمسكة باستكمال مسار الثورة ومطالبة بتحقيق العدالة التوزيعية وقوى رافضة لذلك دفاعا عن مصالحها وامتيازاتها.
ورغم كل أشكال الوصم والتشويه ومحاولات الملاحقة والمحاصرة التي رافقت الحراك الاحتجاجي، نجحت الحركة الاجتماعية بمختلف روافدها في بيان حدود التوافق الإسلامي–الندائي وفرض صوتها ولونها على الفضاء العام، مسنودة في ذلك بمجتمع مدني مناضل وقوى شبابية ونقابية وسياسية معارضة ومقاومة.
ترافقا مع ذلك، أدّى تفكّك نداء تونس، منذ مؤتمر سوسة خاصة، وأخيرا منذ الانطلاق الصّاخب لحزب تحيا تونس والحضور الإعلامي والسياسي اللافت للحزب الحر الدستوري ورئيسته المحامية عبير موسي، إلى تشكيل مغاير للمشهد السياسي لتمرّ قوى الارتداد إلى السرعة القصوى وتتخذ تجليات متنوعة بتبنيها لخطابات جديدة وبناء تحالفات جديدة وتبادلها للأدوار فيما بينها.
عناصر مشهد سياسي جديد
ربما لا نبالغ كثيرا حين نقول بأن هذه القوى المحافظة و المضادة للثورة، كما ترشّحها استطلاعات الرأي، تستعدّ لتحقيق أفضل نتائجها الانتخابية في أكتوبر ونوفمبر القادمين، وهو ما يُعدّ مصدر إحباط للبعض، ودافعا للتفكير لدى آخرين في وضع خطة عمل جديدة للقوى الديمقراطية والتقدمية المؤمنة بالثورة على المدى القريب والمتوسط.
فـ ”الثورة المضادة”، من منظور العلوم السياسية والتاريخ الاجتماعي والسياسي، هي مرحلة ارتداد ونكوص عن الآمال والتطلعات التي تفتحها الثورة كلحظة انفصال، وهي تعبيرة سياسية عن تشكيلة اجتماعية وطبقية تهدف إما إلى منع الثورة من التقدم نحو تحقيق أهداف جديدة موضوعة على مسارها التاريخي القريب والمتوسط، أو التراجع حتى عن المكاسب التحرّرية التي حققتها الثورة في مراحلها الأولى.
بالعودة إلى السياق التونسي، يمكن أن ندرج ضمن خانة القوى المضادة للثورة أو المحافظة كل القوى المعطّلة لكلّ تحوّل ممكن نحو منوال تنموي اقتصادي واجتماعي جديد، وكل إصلاحات اقتصادية عاجلة لإنقاذ البلاد وفق رؤية اقتصادية واجتماعية وطنية وعادلة، فضلا عن كل القوى التي تشرّع لرفض الحريات أو لعودة تسلطية منظومة الحكم السابقة تحت شعار دولة قوية وحكم مركزي قوي أفضل من الفوضى التي أدّت إليها الثورة.
فالتجلي السياسي والإعلامي للمهزومين في الثورة وعودتهم إلى صدارة المشهد السياسي هو في وجهه الآخر عنوان بارز على تراجع قوى الثورة ومأزقها التنظيمي وصعود متنام للثورة المضادة.
في خضم هذا المشهد المتحوّل لا تبدو رؤية ولا خطّة رئيس الجمهورية المعلنة واضحة خاصة بعد نهاية مؤتمر حزبه نداء تونس، ومحاولة ترميم ما بقي منه أو الدعوة إلى لمّ شمل كل العائلة الندائية المشتتة، فالعودة إلى خطاب شيطنة النهضة والحشد الانتخابي ضدها خيار لا تبدو علامات نجاحه اليوم متوفرة، كما في المرّة السابقة، بالنظر لتراجع منسوب الثقة في هذا الخطاب المنقلب فجأة على النهضة بعد سنوات من القبول بها والتعايش معها، كما يبدو الحزب فاقدا لقواه بحكم هجرة النّخب الفكرية و أصحاب المال والعديد من التكنوقراط لصفوفه وعدم المراهنة الانتخابية عليه كلّ لسبب يخصّه.
في مقابل ذلك وعلى خلاف الانفصالات السابقة عن فضاء النداء، يبدو الحزب الجديد المتشكل حول رئيس الحكومة الحالي أكثر جاذبية لرجال الأعمال ورموز النظام السابق والنخب الليبرالية والاقتصادية الجديدة البراغماتية التي تخلت عن حزب النداء أو غادرت أحزابها السابقة أو تحمّست من جديد للتّموقع مع الحزب الأقرب للسلطة اليوم والأقرب للاستمرار فيها غدا.
فمن الجليّ أن موقع رئاسة الحكومة ومنافعه الشتى وفّر للحزب الجديد أسبقية تنافسية على غيره ممن سبقوه ”لقتل الأب”، فداخل العائلة ”الوسطية” المدنية والجمهورية كما تسمي نفسها، تسابق متسارع للفوز بمكانة النداء وإعلان زعامة جديدة خلفا للزعامة الآفلة لساكن قرطاج.
في هذا السياق تقوم خطة الفريق السياسي الجديد لحزب تحيا تونس على جملة من الثوابت تتمثّل في أولوية الاستقرار السياسي والحكومي للبقاء في الحكم أقصى ما يمكن قبل الانتخابات، وتجنب المواجهة الإيديولوجية مع النهضة، وطلب ودّ رجال منظومة بن علي، وتمكينهم من لعب أدوار سياسية متقدمة، وضمان دعم عالم المال والأعمال. كما تقوم على بناء الآلة الإدارية والإعلامية الضخمة للمشروع السياسي والانتخابي. فالفوز في الانتخابات يضمن في كل الحالات توازنا ضروريا مع النهضة لممارسة الحكم وديمومة الدولة، وعدم المسّ من المصالح الاقتصادية لأصحاب المصالح الفئوية الذين لهم مصلحة في استمرار رأسمالية القرابة والعائلة وفى تعطيل ووقف الإصلاحات والتغييرات الجذرية التي فرضتها ثورة الكرامة.
القيمة التفاضلية الأخرى لهذا المشروع السياسي الجديد هي التحاق عدة وجوه ديمقراطية بصفوفه أملا في لعب أدوار من داخله ومن خلاله من أجل بناء قوة سياسية مدنية وسطية بعد أن فشلت التجارب الحزبية الديمقراطية التقليدية سواء بسبب قلة مواردها البشرية والمادية أو بسبب تآكلها الداخلي لقصور قادتها وعجزهم عن التكيف وضخ دماء جديدة داخل كيانات تنظيمية بلا روح أو بسبب اليأس من تحوّلها إلى قوى ذات وزن انتخابي.
كل هذه العناصر مجتمعة تغذي آمال بناة الحزب الجديد لاحتلال المساحة الأهم داخل الفضاء الجمهوري المدني والأكثر قابلية لموازنة القوة مع حركة النهضة ومحاولة الاستفادة مرّة أخرى من التصويت المفيد خوفا من خروج الإسلاميين منتصرين لوحدهم من نتائج صندوق الاقتراع. وهو بقدر ما يراد له أن يكون حزب المستقبل ومشروع تجديد يبقي من منظور مسار الثورة جزءا من القديم بالمعني العميق وتشكّل آخر للقوى الاجتماعية والاقتصادية المحافظة الرافضة بعناد أيديولوجي نيوليبرالي وأنانية ضيقة الإقرار بضرورة الربط بين التغيير الاقتصادي والاجتماعي من جهة والتغيير السياسي.
خطة الحزب الحر الدستوري من جهتها قامت على مرتكزين، الأول احتلال الموقع الذي غادره نداء تونس وغادرته قوى سياسية علمانية أخرى وهو موقع القطيعة الراديكالية مع حركة النهضة، وتبني خطاب استئصالي متشنج ضد الإسلاميين بلا قيمة فكرية وسياسية، والثاني الدفاع الصريح عن منظومة الحكم السابقة والتشفي من قوى الثورة. فالثورة، في خطاب هذا الحزب، قرينة التآمر الأجنبي والفوضى والخطأ التاريخي. فهي التي فتحت باب الجحيم، وهي قوس وجب الندم عليه وغلقه. كلّ هذه العوامل وحالة الإحباط العامة السائدة حوّلت الحزب الدستوري وفق استطلاعات الرأي إلي المستفيد الأبرز من التصويت العقابي ضد الحكومة.
دلالة هذه المتغيرات الكبرى، ودون اعتبار مؤشرات أخرى، وتحوّلات ما زالت بطيئة ومحدودة، تدفع في أفق الموعد الانتخابي القادم نحو استخلاص عودة الثورة المضادة بوجهها الصريح أو عودة المنظومة القديمة بتكيف جديد سِمَتُه البراغماتية والانسجام مع المناخات التحررية التي نعيشها. وضعف قوى التغيير الاجتماعي سياسيا وانتخابيا واستقرار الجسم الانتخابي لحركة النهضة.
لفهم هذه المتغيّرات نقف بداية على مشروع الحزب الدستوري وخطابه التحريضي ضد الثورة والإسلاميين ومحاولة الجمع الدائم بينهما كما لو كانت الثورة في جوهرها ثورة إسلامية أو أخرجت الإسلاميين للسطح ومكنتهم بتخطيط وتآمر قوى أجنبية غربية وخليجية من تشكيل خطر على الدولة التونسية المدنية وعلى المجتمع، فهذه الشّعبوية الدستورية تستعيد خطاب التسلطية والإقصاء، وتراهن على رفض قطاعات من الناخبين للإسلاميين كحكام جدد استغلوا الدين للوصول للسلطة والإثراء الشخصي ولم يعد من الممكن الثقة بهم مرّة أخرى.
من جهة ثانية تقف قوى أخرى مضادة للثورة على أرضية مختلفة هي أرضية التفاهم مع الإسلاميين، لا فقط على قاعدة المشروع المجتمعي والقيم الثقافية، بل-وهو الأهم عندها- على قاعدة المصالح الاقتصادية والطبقية المشتركة للفئات واللّوبيات التي كانت قريبة من النظام السابق والتي لا تريد دمقرطة عالم الأعمال وترفض فتحه أمام طاقات منتجة جديدة على قاعدة الكفاءة والمنافسة النزيهة من جهة، ومن جهة أخرى الشرائح المتبرجزة من الإسلاميين والمحافظين الساعين إلى جني ثمار استثماراتهم و أعمالهم في مجالات ربحية جديدة كمجال الخدمات، والتجارة، والتوريد، والتصدير، على غرار النخب الاقتصادية، والمالية التي وقفت ولا تزال وراء الإسلامية الأردوغانية التركية.
فالإسلاميون اللّيبراليون الجدد لا يسعون إلى أن يكونوا في صورة المحافظ والتّقي المسكون فقط بإرضاء الله في العبادات والمعاملات والقريب من عموم الناس البسطاء بل كذلك في صورة الحركي والبراغماتي الناّجح في إدارة الأعمال، وجني الأرباح، والتجارة الخارجية والانفتاح على العالم، دون مركبات إيديولوجية وفي انسجام مع تدين باطني عميق أو تدين معلن غير عدواني قابل بالعيش مع الآخرين في فضاء معلمن بدل تكفيرهم وهجرهم. وتبدي حركة النهضة اليوم مرونة كبيرة في استيعاب هذا النمط من ”الإسلاميين الجدد” المحافظين المهيئين للتكيف مع عالم المال والأعمال ومع مناخاته التحررية .
من أوكد مهام هذا القطب الليبرالي الحاكم بشقيه المحافظ والعلماني هي حصد أصوات الناخبين رغم حصيلة الفشل الحكومي باعتماد وسائل تعبئة وتأطير متنوعة. فناخبو النهضة سيظلون أوفياء عقائديا وثقافيا لها ومرتبطين بهياكلها القاعدية المنتشرة جغرافيا واجتماعيا، ذلك أن الإسلام السياسي يبقى قادرا إلى حدّ الآن على طمأنة ناخبين فقراء ومن طبقات وسطى باعتباره الضامن لحرية تدينهم وحاميا للإسلام كعقيدة وهوية، وإطارا مرجعيا للسّلوك، ومنظومة قيم وأخلاق وتربية. كما يريد أن يكون قادرا على طمأنة شرائح أخرى من الأثرياء وأصحاب الأعمال على استمرار ثروتهم وحقهم الشرعي والقانوني في تنميتها.
في حين يعتقد تقنيو وخبراء الانتخابات والاتصال العاملون لفائدة الوسط الليبيرالي غير الإسلامي أن آلة الإعلام وشبكات التّجمع السابقة المنتشرة في الجغرافيا العميقة لجسم المجتمع والقطاعات المهنية ومجموعات الضغط وتأثير الوجاهات، ووجود وجوه وشخصيات ديمقراطية كلها عناصر قادرة على الانتصار شرط تضافر الجهود في حشد الناخبين وتجميع الأصوات الكافية يوم الاقتراع. وتبقي”الماكرونية” الفرنسية، عندهم، النموذج المثال المحتذى به والقابل للاستنساخ في ديارنا. فالمنافسة الانتخابية عند هؤلاء بهذا المعنى تراهن على التصويت الإرادي لجزء من الجسم الانتخابي وخاصة على التصويت اللاّسياسي لمئات الآلاف من الناخبين والناخبات الذين ستستميلهم آلة الحزب الضخمة بكل روافدها.
التصويت للبدائل الجديدة ووقف الانحدار
إن التقدم الانتخابي لقوى الثورة المضادة الصريحة في تمظهرها الأقرب للتسلطية النوفمبرية سيشكل تراجعا عن عدة مكتسبات تحررية وانتكاسة قاسية لروح الثورة، كما أن انتصار هذا القطب الجديد الليبرالي الإسلامي والعلماني، والذي لا يبدي عداء شرسا للحريات، هو بمعنى ما انتصار لقوى تخشى وتعمل ضدّ تقدم الثورة نحو مربعات صراع أخرى لأنها مربعات صراع لن تمسّ هذه المرّة مجال الأفكار بل مجال المصالح الاقتصادية والمنافع والامتيازات.
بمعنى أدقّ هو انتصار للفئات الاجتماعية التي تريد استمرار السياسات الاقتصادية الحالية والمنافع الحالية والمجالات الحالية التي يحتلها الاقتصاد الموازي ومن يقف وراءه، وعلاقات الشراكة الحالية والمرتقبة مع الاتحاد الأوروبي المهددة للسيادة الوطنية والمكلفة اجتماعيا ومع كلّ الفضاء الاقتصادي الخارجي الجديد خاصّة بمكونيه التركي والخليجي.
كل ذلك سيكون قدر المستطاع داخل قواعد وإجراءات الديمقراطية التمثيلية والمؤسساتية دون إلغاء للتعددية الحزبية والمدنية. غير أن هذا القطب سيجعل من قوى التغيير الاجتماعي والاقتصادي خصمه الأول، ونعني القوى الممثلة، في جوهرها، للفئات الضعيفة والمقصيّة، والطبقات الوسطى، والأجراء، وصغار المنتجين. بل يمكن أن نقرأ فيه إعادة بناء مرتكزات الدولة التونسية ما بعد الثورة في زمن العولمة النيوليبرالية على أسس جديدة تستبدل الشراكة مع القوى الاجتماعية التي بنت دولة الاستقلال وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل بالشراكة مع الحركة الإسلامية.
بتعبير مختصر استبدال النخب المدنية العلمانية لتحالفها مع عالم العمل ومع الديمقراطية الاجتماعية، التي جسّمها اتحاد الشغل عشية الاستقلال لبناء مقومات الدّولة الوطنية، بتحالف جديد مع الليبرالية الإسلامية الجديدة كقوة شعبية تؤطر الناس على قاعدة الدين والهوية ولا تعارض تراجع أدوار الدولة الراعية بل لعلها قادرة على تبريره للناس من خلال إحلال مقولة الإحسان محل مقولة الحق الاجتماعي كما قام بذلك حزب العدالة والتنمية المغربي حين تولّى الحكم، وانتهج سياسية ليبرالية معادية للفئات الضعيفة والهشة وذات كلفة اجتماعية باهظة.
ليست الثورة المضادة إذن من هذا المنظور مجرّد عودة منتمين سابقين للتّجمع الدستوري أو لمنظومة الحكم السابقة إلى الحياة العامة، فالعديد من هؤلاء من حقهم العودة إلى النشاط المدني والسياسي ومنهم من انخرط في صمت في مسار التحول الديمقراطي عبر الأحزاب والجمعيات والمنظمات، بل هي إعادة تشكيل القوة السياسية والاجتماعية التي ترفض تقدم مسار الثورة وهي حتما لا تستطيع العودة كليا لمنظومة القمع والتسلط والتّفرد بالحكم لأنها مجبرة على خوض اللعبة الديمقراطية ولو إجرائيا.
ما نستطيعه، وما يتعيّن علينا اليوم الاضطلاع به لوقف هذا الانحدار، وهذا لا يزال ممكنا، هو الحفاظ ضرورة على طاقتنا كسلطة مضادة كامنة ومنغرسة في المجتمع المدني والتحتي وكذلك العمل من أجل التّشكل كتعبيرة سياسيّة برلمانية ومنتخبة تبني فضاءات التّصدي بين مجتمع الثورة ومجتمع المقاومة الذي يراد طمسه من جهة، والمؤسسات المنتخبة من جهة أخرى. فتفكك مثل هذه العلاقة وضعف التمفصل بين جسم المجتمع المحتج والرافض والحركي والجسم الانتخابي المفترض سهّل تشكل الثورة المضادة ووضعنا في المأزق التاريخي الحالي. وليس وعينا بذلك سوى خطوة أولى نحو التجاوز لأن وعينا بوزننا الاجتماعي والميداني يفترض كذلك أن نعي ضعفنا الانتخابي فالمجتمع المحتج والغاضب والمتضرّر من السياسات الحكومية الحالية لم يشكل بعد جسمه الانتخابي بل ليس له عنوانه الانتخابي الجامع. ”النحن” التي نعنيها هنا تتضمن اليوم كل المبادرات المواطنية الديمقراطية والتقدمية الوطنية والجهوية التي تتموقع في قلب هذا الصراع والقوى السياسية الديمقراطية الاجتماعية واليسارية والفعاليات الشبابية والمدنية التي راكمت رصيدا من الثقة والتجربة والحضور للسير بنجاعة نحو صندوق الاقتراع.
إن غاية كل دولة ديمقراطية هي ضمان النظام الاجتماعي المدمج لمختلف مكونات الجسم الاجتماعي على قاعدة القانون. وحين ترفض الدولة الاعتراف بحقوق كل الأفراد، وبمبدأ تساويهم أمام القانون، فهي تصبح دولة تسلطية. وحين تكتفي الدولة بالإقرار فقط لمواطنيها بحقوقهم المدنية والفردية دون الاكتراث بحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية ودون آليات للتوزيع العادل للثروة والاعتراف بكرامتهم واحترامها، فإنها تكف على أن تكون عادلة وتفقد مهمتها الإدماجية لتصير دولة إقصائية لجزء من جسمها الاجتماعي ولعلّه الجسم الأكثر عددا.
معركتنا القادمة هي رفض هذا الإقصاء، وهي ليست معركة نوايا بل هي جزء من صراعنا الواقعي على تمثيليتنا داخل مؤسسات الدولة بما يستوجب مدّ الجسور بين مجتمع الاحتجاج والمقاومة و”ثورة الصندوق” وفق التعبير الأنيق لأم زياد، فعودة السلطة للشعب التي حققتها الثورة تفترض ضمان إقامة ديمقراطية اجتماعية في خدمة هذا الشعب تتحقق من خلال سياسات عمومية جديدة تؤسس لعقد اجتماعي جديد عادل ومنصف ولا سبيل ممكنة اليوم لذلك غير تغيير موازين القوى السياسية.
منعطف انتخابات 2019 سيكون على غاية من الأهمية لأنه يمنحنا فرصة مدّ الجسور بين حضورنا الاجتماعي وحضورنا السياسي بمعنى ترجمة قوتنا التعبوية المفترضة والمشتتة والمبثوثة في مختلف نواحي الحياة الاجتماعية إلى قوة انتخابية لها وزنها وصوتها داخل المجلس النيابي. فتعزيز هذه الحلقة البرلمانية الضعيفة في أدوات نضالنا السياسي سيكون على غاية من الأهمية لأن كل حركة سياسية لا برلمانية ولا منتخبة هي حركة لا مرئية ومهدّدة بالانحلال.
إنّ الطريق إلى بناء هذه الحلقة أو تعزيزها طريق متعدّد المسارات. ولن يكون حول زعيم أو فرد أو حزب فهذا ليس ممكن ولا مجدي في تونس اليوم. فالتقارب أو التفاهم كحدّ أدنى، بين الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية واليسارية هو إحدى هذه المسارات، في حين أنّ التّوصل إلى تقديم قائمات مواطنية موحّدة لا تستعدي القوي السياسية المنحازة للثورة وحاملة لمشروع بديل اجتماعي ديمقراطي صريح هو مسار آخر وهما مساران لا مفر منهما وعلينا أن نعمل جميعا حتى لا يتعارضا ولا يتصادما إعلاميا وميدانيا. وفوق كلّ ذلك سيكون خوض الانتخابات من أجل أهداف قابلة للتحقق وضمان شروط تحققها هو الخطوة الأولى لمرحلة ما بعد الانتخابات أي مرحلة التقدم في وضع أسس البديل السياسي والتنظيمي المشترك للقوى الديمقراطية الاجتماعية.
سيتحرك خصومنا ومنافسونا في الأشهر القليلة القادمة بطرق مختلفة باتجاه مغاير لخط الثورة وحتى إن طمأنتهم استطلاعات الرأي أو أعمت بصيرتهم قوتهم العددية فإنهم يسيرون ضد حركة التاريخ ومهما كانت النتائج القادمة فإن ما نحدسه في عمق المجتمع وما تعيشه الجزائر والسودان يزيدنا قناعة أن ثورات شعبية تقودها النساء والشباب ضد الفساد وضد التسلط وضد الإخوان المسلمين وضد السياسات النيوليبرالية لا تزال ممكنة بل لعلها اليوم الصورة الحقيقية للمنعطف التاريخي الذي نعيشه.
iThere are no comments
Add yours