قد يمكن إرجاع هذا التفكك إلى سلسلة من أحداث نحاول تقفيها لنعرف في نهاية المطاف “من بدأ” الحرب. قد يمكن ان نشير بإصبعنا إلى الانقلابيين والتصفويين والنقابويين والجيلانيين. سيحاول البعض جاهدين إقناعنا أن الآخرين انتهازيون و توزيريّون ودخوليّون بينما هم لا علاقة لهم بهذه الانحرافات. سيحاول البعض الآخر توجيه التهم إلى الطبيعة المحضة الإصلاحية\الإنقلابية للطرف المقابل بناء على جميع التجارب التي خاضوها معا منذ المؤتمر 18 لاتحاد الطلبة. ستتمّ الإشارة إلى تضخّم الأنا لدى المنجي أو حمة أو اتهام الجيلاني بأنه معول للإفساد والتخريب، إلخ… في الأثناء ينتحر التحليل العلمي على عتبات تلك التهم بالضلالة الجماعية والمسؤوليات الفردية والتبجح بالانتماء إلى الفرقة الناجية ! لا أثر لتحليل بنيويّ يتناول الجبهة كمؤسسة أو كجسم سياسي. إن ألغينا العناوين والأسماء، لن يبقى لنا سوى معجم صراعات الشقوق (الندائية، المساريّة… إلخ)، أي معجم الأحزاب التي انخرطت بكل وجدانها في اللعبة الديمقراطية والمنظومة الفكرية البرجوازية[1] بجميع مكوناتها من لغة وآليات عمل.
بطبيعة الحال، في عالم مثالي، لا يمتّ ما تمّ ذكره إلى اليسار بصلة. بل هي ممارسات عادية صلب أحزاب برجوازية لا توحّد ممارستها أرضية فكرية انعتاقية بل تكتفي بأن تطرح على نفسها إدارة المنظومة دون المسّ من جوهرها. وبناء عليه لا تتأسّس الخلافات داخلها إلاّ على هاجس تقاسم المواقع والولاء إلى هاته المجموعة أو تلك. إلاّ ان الجبهة الشعبية احتلّت منذ تأسيسها المجال الحيوي لليسار في المخيال السياسي العام. أو لنقل كانت في المخيال العام –الذي لا يستثني من يعتبرون أنفسم “مستنيرين”- الممثل الرئيسي لليسار الراديكالي، ذلك اليسار الذي يقول “لا”. كلّ تدخل من هذا وذاك يحسب لدينا في ميزان سيّئات اليسار: إن رفضوا تقنين الزطلة، فنتحدّث عن أزمة يسار أخلاقوي، وإن تكلّم حمة الهمامي عن السواك أو عمار عمروسية عن “متاع جربة” نتحدث عن يسار ميزوجيني، وإن أسّس فتحي الشامخي رفض المديونية على مرتكزات دينية نتحدّث عن يسار إسلامي، إلخ…
لا مجال لمخاض فكري أو ديمقراطية
الجبهة إذا عنوان لليسار. لكنّه يسار ما فتئ يُقصي ويشرّد ويخوّن ويدفع إلى الانسحاب العديد ممّن انتموا إليها ومن ناضلوا في صفوفها ومن تقاسموا حلما لمع في الوجدان ذات 7 أكتوبر 2012. لا فائدة في التذكير أن المنسحبين أكثر من الباقين غير أن نُقر بأن الجبهة لم تحتمل الإختلاف داخلها. البعض سيقول أنّها لم تحسن إدارة الاختلاف داخلها. أقول: لا يمكن لجسم مثل الجبهة الشعبية أن “يُحسن” إدارة الاختلاف داخله. إنّه ضرب من الإرادوية أن يتحمّل تكتّل أحزاب ذات مرجعيات متباعدة نقاشات فكرية داخله وأن يتمّ فض الاختلافات خارج الإطار الضيّق الذي يمثل كل طرف على أعلى مستوى (وهو مجلس الأمناء) بعد أكثر من خمس سنوات من المحاولات الفاشلة ومن العودة إلى مجلس الأمناء في كلّ مرّة يشتدّ فيها الصراع. لا يمكن أن ينتصر طويلا حسن النوايا على الإخلالات الهيكلية. فالمواقف داخل الجبهة تخضع للموازنات والتمثيلية تخضع للمحاصصة. لا مجال لمخاض فكري أو ديمقراطية. وإن على مضض، فإن الناطق الرسمي يعترف بذلك حتى في لحظات الصفاء الفكري و الرغبة في الإصلاح، فهو الذي يقول في مراسلته للمجلس المركزي في سبتمبر 2018 أنّ » الجبهة لا يمكن أن تخضع لنفس شروط الحزب. فإخضاع كافة هياكل الجبهة للانتخاب مثلا كما لو كانت لحمة واحدة تمشّ غير سليم لأنه يمكن أن يقود إلى إسقاط كل مرشحي المكونات صغيرة الحجم نسبيا (لأن حجم كافة مكونات الجبهة صغير) أو حتى إسقاط ممثلي أي مكون من المكونات بمجرّد تشكيل تحالف بين مكوّنين أو أكثر. وإلى ذلك فقد رأينا أن الانتخاب لا جدوى له في تشكيل المكاتب الجهوية والمحلية إذ تشتد الصراعات على المنصب ولكن ما أن تنتهي الانتخابات حتى تنحل المكاتب الجهوية والمحلية وذلك راجع لسبب أساسي وهو سعي المكونات لافتكاك المقعد دون مراعاة عامل الكفاءة في مناضليها الذين تقترحهم .«
الهاجس الرئيسي إذن هو الحفاظ على وحدة الجبهة، أو بما اصطلح بـ”نستحفظو على الشقف”. هذه الفكرة العاشورية أن نتجاوز مرحلة الصعاب الآنية بالقيام بما يلزم من التنازلات الداخلية باسم هدف أسمى يستوجب وحدة الجميع (و يا لسخرية القدر أن تقارن مهام الجبهة بمهام طرحتها البيرقراطية النقابية العاشورية !). ليس من قبيل الصدف أن ظهر هذا “الهدف الأسمى” بُعيد انتخابات 2011 لما عوقبت الأحزاب اليسارية وغيرها من الاحزاب المناضلة جرّاء تشتّتها. حتى وإن لم يكن ذلك هو السبب الرئيسي لتشكيل الجبهة الشعبية، فإنّه كان الاسمنت الذي يرصّ حجرها بعضها إلى بعض.
قد تتعدّد الأسباب النظرية التي تدفع هذا الطرف أو الآخر للعمل الجبهوي إلا انها في جوهرها تعتمد على فكرة أن كل حزب هو ممثل لفئة او طبقة ما والتحالف الفوقي لهاته الأحزاب سينجرّ عنه نوع من التحالف طبقي. إلاّ أنه لا يمكن لأيّ منهم أن يدّعي أنه الممثل الشرعي لطبقة او فئة ما. فلا العمال ولا الفلاحون و لا البرجوازية الصغرى المنحازة اصطفّوا وراء مكوّن من مكوّنات الجبهة، بل بالعكس تماما فإن التركيبة الاجتماعية لهاته المكونات متشابهة إلى حدّ كبير. فلا يمكن النظر إلى تحالفهم الفوقي كضرب من ضروب تأليف قوى اجتماعية أو شعبية لتحقيق مهام تغيير اجتماعي.
رغم حسن النوايا المعلنة، تبقى الجبهة الشعبية تحالفا انتخابيا، وإن أرادوا تحقيق بعض المهام السياسية يلجؤون إلى خيمة الاتحاد العام التونسي للشغل. فأية مهام ثورية يمكن أن تُطرح على الجبهة؟ أية مهام ذات طابع يساري أدنى؟ يمكن على سبيل الهزل هنا أن نذكر ما قالته عضوة المجلس المركزي “المستقلّة” منيرة يعقوب في سياق الادلاء بدلوها في الخلاف الراهن : »طلبت منه (أي حمة الهمامي) أن يصرّح بضرورة تأميم كل الثروات و كل القطاعات و الخدمات… فقال لي قد اتفق معك لكنّي ناطق رسمي باسم الجبهة وانا بالتالي محكوم بالمشترك بين مكوناته. فبقطع النظر عن سذاجة الطرح وما تدلّه عن عقول لا يزال معجمها الفكري لم يتجاوز فكر ما بين الحربين، فإن الجبهة لا يمكن أن تطرح الأدنى الفكري على طاولة النقاش. واقتصر الفعل اليساري على التوليف بين الشيوعيين والقوميين والديمقراطيين الاجتماعيين. يسار جامد في مرجعياته يكتفي بدور شرطي المرور، لا يقترح طريقا و لا ينتج حلما. يسار بيروقراطي إداري لا حلم له لكن يعيش على وهم السلطة.
إن أكّد انهيار الجبهة على شاكلتها الحالية شيئا فهو أن المرحلة ليست ليسار يتخلّى عن الجانب الفكري والإيديولوجي ليتفرّغ إلى التكتيكات والتحالفات الانتخابية. بدأت الدعوة لذلك منذ 2011 مثلا عبر كتاب الأستاذ بكّار غريب “Pour une refondation de la gauche tunisienne”، أين طرح ضرورة تجاوز المقولات الإيديولوجية والانخراط في اللعبة السياسية لتقديم مشروع بديل اجتماعي ديمقراطي يدافع عنه في الانتخابات.
وحدها الحقيقة ثوريّة
لهذا الطرح بعض الوجاهة: فاليسار التونسي لم يجدّد أطروحاته منذ منتصف الثمانينات، وتلك الاطروحات نفسها تعتمد مرجعيات طرحت في سياقات غير السياق الزمكاني المحلي “التونسي”. كذلك، لم يتميّز بعمق كتاباته النظريّة لا قبل الثورة لا بعدها. لا الدكتاتوريّة كانت مجالا سانحا لا تسارع الأحداث منذ 2011 مكّن من التفرّغ إلى التفكير بعقلانية في الواقع المحلّي أو في المهام التي يمكن طرحها. وعلى قول الصحفي منجي الخضراوي، فـ » عندما نبحث ضمن المدونة السياسية لليسار الماركسي اللينيني في تونس، فإنّنا لا نجد أثار مكتوبة يمكن ذكرها مثلما هو الشأن مثلا للحزب الشيوعي العراقي أو الحزب الشيوعي السوداني أو اللبناني… المشكل أن اليسار التونسي نشأ و ترعرع في ثقافة الشفوي ونقل الروايات الدعائية و الدعائية المضادّة .«
كذلك، لم يتميّز اليسار التونسي باطّلاعه على المعرفة التي راكمتها العلوم الإنسانية هنا وهناك (أساسا الفلسفة وعلم الاجتماع). بقيت المقولات تتحدّث عامّة عن الإمبريالية و البرجوازية الكمبرادورية العميلة والنهب والاستغلال… لكن، بما أن هذه المفاهيم تفسّر كل شيء، فإنها لا تفسّر شيئا: ها نحن نحمل بين أيدينا نظريّة صالحة لكل زمان ومكان، لكن ماهو الفرق بينها وبين توصيف بسيط لما نشاهده سوى إعادة كتابة بلغة لا نفهمها إلاّ نحن؟ كيف نرضى بأن نكتفي بنظريات شمولية لا تفسّر كيف يعيد شعب دعم وانتخاب جلاّديه؟ وكيف أن حملات توزيع مطويّاتنا ورحابة صدر مناضلينا وفصاحة قياداتنا في الفضاءات الإعلامية رغم عقلانيتها لا تجد صدى لدى من يتلقّاها؟ كيف أنّ قوانين المراكمة وتحوّل الكمّي إلى النوعي لم يتمّ بعد رصدها على أرض الواقع رغم مراكمة الحركات الاحتجاجية وتصاعدها هنا وهناك؟ كيف نكتفي بتوقّع ثورة قادمة وطبيعتها بناء على دراسات تمت منتصف الثمانينات مراهنين على هاته الطبقة او تلك لإنجاز مهامها و لا حياة لمن تنادي؟ كيف نصرّ على تسميات (رأسمالي، إقطاعي…) في اقتصاد أكثر من نصفه مواز وما انفكّ قطاع الخدمات يهيمن على واجهته الرسمية؟ كيف اكتفى هذا اليسار، بعد أن توارت عن أنظاره الطبقات (البروليتاريا والبرجوازية) بأن يستعمل المفاهيم الهلامية و المعيارية المهيمنة (الطبقة الوسطى، الفئات الشعبية…) دون أي تدقيق نظري معبرا بذلك عن عجز معرفي منقطع النظير؟ كيف لا نرى في أطروحات اليسار أثرا لكيفية التعامل مع حالة الإنحباس الحراري وتدهور المناخ و مخلفاتهما في بلدان الجنوب من ارتفاع مستوى المياه وتصحّر وعجز مائي؟
لكن، في المقابل، إنخرط اليسار (أو الأطراف التي تحتلّ المجال السياسي لليسار) بكلّ جوارحه في مسار الانتقال الديمقراطي[2] بجميع مؤسساته و خاصة منها الانتخابية وشرب حتى الثمالة من إيديولوجيا الواقعية السياسية. فقد خاض غمار الانتخابات بصفة فردية و انخرط في التحالفات الضيقة منها والواسعة و مارس تكتيك الجبهات الشعبية والديمقراطية ضدّ الفاشية وشكّل قائمات في التشريعية والبلدية وقدّم برامج حكم بالأرقام وقدّم مقترحات ميزانيّات بديلة وصادق على بعض الوزراء خلال فترة المهدي جمعة (حكيم بن حمودة مثالا) وشارك طيف آخر من اليسار في مسارات الوحدة الوطنية وشارك في الحكومات… النتيجة: لم يتغيّر ميزان القوى قيد أنملة لصالح المُضطهدين وأُفرغت أحزاب اليسار من مناضليها (وتكتيك الجبهات الذي يقلّص مجال الديمقراطية الداخلية حتما من الاسباب الرئيسية) وفي الأخير تفككت جميع الجبهات، حتى التي خلناها عصيّة عن الشق.
وماهي الفائدة التي تحققت؟ هل خلق اليسار ديناميكية داخل المجالس المنتخبة؟ هل استطاع تمرير مبادرات تشريعية؟ هل منع مشاريع قوانين النهب والتداين والإفلات من العقاب؟ هل زادت التدخلات المتلفزة من شعبية نوابه؟ لا وألف مرة لا. وبقي الطرف الوحيد القادر على شبه التصدّي هو الإتحاد العام التونسي للشغل. بقيادة الطبوبي. وحدها الحقيقة ثوريّة. هكذا قال معلّم الجميع الذي سيمرّ قريبا قرن على وفاته. بعد ثمان سنوات من التجارب، آن الأوان بأن نستفيق من ثمالة الواقعية والبراغماتية ووهم الانتخابات: حتى وإن اقتضى الانخراط بعض الشيء في المنظومة، فلا فائدة تذكر دون تجديد إيديولوجي وتحليل علمي للواقع وصياغة أرضيات نظرية يتأسّس عليها الفعل السياسي.
من أجل جسم سياسي بديل يحتلّ المجال الحيوي لليسار
الآن وقد تفكّكت الجبهة وتهاوت صورة الزعيم، نحن إزاء فرصة لن تتكرّر كثيرا: لم يعد أحد يمتلك شرعية التموقع في المجال الحيوي لليسار. لا أحزاب اليسار البيروقراطي التي فقدت جلّ مناضليها ولا الزعامات التي بقيت حبيسة اوهامها والتي لم ترتق إلى قيادات حقيقيّة ولم يعد صمتها يعبّر عن الترفع عن الصراعات بل فقط عن رغبة الاختباء وراء القسطل الذي يثيره مناضلو حزبها. قيادات صامتة صارت أقرب منها لنابوليون عشية واترلو من لينين مساء افتكاك قصر الشتاء.
هذا الفضاء الحيوي لليسار، أو لنقل مجاله الرمزي في المخيال السياسي العام تصارع حوله الشيوعيون القدم ثم مجموعة آفاق – العامل التونسي ثم أجيال حزب العمال والأوطاد والتروتسكيون بحاجة اليوم إلى تعريف جديد يتناسب مع الإطار الزمكاني ويرسم حدوده ويطرح مهامه. تعريف لا يكتفي بإرضاء الضمير عبر الإحالة إلى بروليتاريا لا توجد بالشكل المرغوب على أرض الواقع ولا قدرة فعلية لها بأن تكون “محرّكا للتاريخ” سوى في أحلام من ينامون على سرديّات الثورة البولشيفية، بل تعريف يدقّق في تركيبة المجتمع عبر الأدوات العلمية التي أنتجتها العلوم الإجتماعية المعاصرة. تعريف لا يطرح بأن يكون مثقفون هيئة أركان لطبقة ثورية، بل يكون أكثر تواضعا وعلميّة في تناول المهام.
فالمشروع اليساري هو مشروع ذو بعدين: بعد معرفي وبعد نضالي. البعد المعرفي هو ما مارسه المنظّرون اليساريّون عبر التاريخ: تفكيك أشكال الهيمنة التي تشق المجتمع وآليّات نشرها لسطوتها عبر نسيج العلاقات الاجتماعية. بقيت أغلب المرجعيات المعتمدة اليوم إقتصادويّة بالأساس في زمن سلّم بتداخل أشكال الهيمنة الإقتصادية\الطبقية والجندرية والعنصريّة وتبنّي شعار التقاطعية. في زمن سلّم كذلك باختلاف آليات فرض الهيمنة من عنف مادّي و عنف رمزي وأهمية أجهزة الهيمنة الإيديولوجية من مدرسة و إعلام وإنتاجات ثقافية. أما البعد الميداني النضالي فإن وجد اليوم فهو بشكل تحركات منعزلة هنا وهناك ونخبوية بعض الشيء في شكل حراكات شبابية كانت أبرزها مانيش مسامح. البعد المعرفي المرافق للنضالات الميدانية اكتفى بالتوثيق ودراسة تلك الحالات لنرى أحيانا مفهوم الجذمور الدولوزي يطفو على السطح علّنا نقتنع بأنّنا إزاء حراك ذو أفق… ممارسة لا تعدو سوى أن تكون ضربا من الإرادوية المعرفية.
الفرصة اليوم سانحة لمن تتوفر لديهم النية الصادقة وروح المبادرة والقدرة على تجميع الشتات من المتحزبين ومن المنسحبين منذ سنوات من أحزاب اليسار وتنظيماتها. أيضا تجميع من لم ينشط يوما في أي من هاته التنظيمات لكنّه يساري فكرا أو وجدانا أو التزاما يوميّا. شتات لا يجتمع وجوبا صلب حزب، بل يجد إطارا واسعا يضمن الممارسة الديمقراطية بين لامنتمين و متحزّبين تجمع بينهم الروح اليسارية.
إطار يعلن صراحة هويته اليسارية. إطار ينتج معرفة حول بيئته ولا يهاب الأدلجة. إطار يأخذ بعين الاعتبار تطوّر أدوات التواصل التي تسمح بالنقاشات الجدّيّة المستفيضة لتجاوز الثقافة الشفوية وضمان طرح جميع الآراء. إطار نسوي لاطبقي لاعنصري يضمن ممارسة الجميع على قدم المساواة دون هرسلة أو تخويف ويعير اهتماما لديناميات الهيمنة داخل المجموعة الواحدة. إطار يسمح للجميع بمواصلة نشاطاتهم المدنية والجمعياتية والسياسية دون مصادرتها و تطويعها. إطار يجدّد ويتجاوز مفهوم الكتلة التاريخية ليحوّله إلى أداة ناجعة في سياقنا الزمكاني. إطار نضالي يجد السبل للربط مع نضالات المضطهدين دون مصادرتها ودون إقصاء أصحاب الحق. أخيرا و ليس آخرا، إطار يساهم في بناء سرديّة جديدة للحلم اليساري الانعتاقي وصياغة شعارات يسلّح بها الجماهير لتتجاوز بها حالة الإحباط، فقد ننسى أحيانا أن سبينوزا مرّ قديما من هنا: لا يكفي التعرّض للاضطهاد ولا حتى الوعي بالاضطهاد لتنهض الجماهير، بل يحرّكهم وجدانهم الغاضب على الحاضر والحالم بما يعتقدونه غدا ممكنا. » الثوريّون ينسون كثيرا، أو لا يريدون الاعتراف، بأن الثورة تصير عن رغبة جامحة، لا عن شعور بالواجب « [3]
————————————————————–
[1] المقصود هنا ليس فكر “طبقة برجوازية” بل فكرا يشرعن لهيمنة المهيمنين و يحافظ على المواقع المادية والرمزية لمن هم فوق.
[2] ما يقابله ليس مسارا ثوريّا محضا لا ندري ما تكون ملامحه، بل مسارا يكون فيه العمل على إنتاج معرفة تلامس الواقع و تكون معولا لهدم التصوّرات المتحجرة لقتح أفق ليسار يقلب معادلات الهيمنة.
[3] <<Les révolutionnaires oublient souvent, ou n’aiment pas le reconnaitre, qu’on fait la révolution par désir et non par devoir >> ; G. Deleuze et F. Guattari, L’Anti-Œdipe. Capitalisme et Schizophrénie, éd de Minuit, Paris,1972, p 412.
مقال مهم فيه الكثير من الأفكار الشجاعة ولكنه لا يخلو من هرطقة شعرية إزاء مفاهيم ومقولات لم يستطع أحد المساس من قيمتها المعرفية ودورها الوظيفي في التحليل… أتفق مع صاحبه في الكثير مما قدّم وأعتبر أنه غير بعيد عن الطرح التجاوزي…
هل بإمكانكم تحديد ماهي الهرطقة الشعرية حتى نفهم ما تقصده بتعليقك وشكرا ؟