يشير كتاب الباحث مصطفى كريم الطبقة الشغيلة التونسية ومعركة التحرر الوطني: 1939ـ1952  إلى أن “منطقة جبل جلود كانت أولى المناطق الصناعية الكبرى الحديثة. متاخمة للعاصمة تونس بمسافة لا تتجاوز الكيلومترين ونصف. شهدت سنة 1947 أحداثا دامية ساهمت في إحداث نقلة نوعية في جبل جلود”.

النقلة النوعية

هذه النقلة النوعية التي ذكرها مصطفى كريم كانت تتمثل في توجه فرحات حشاد إلى جبل جلود يوم 2 أوت 1947 للمشاركة في الإعتصامات العمالية في المنطقة الصناعية بجبل جلود، “كان يوما توجه فيه حشاد بكلمة إلى العمال”، حسب شهادة النقابي خميس سقرة المتقاعد من الشركة الوطنية للسكك الحديدية التونسية وكاتب عام الفرع الجامعي وعضو الجامعة العامة للشركة الوطنية للسكك الحديدية التونسية. ويضيف سقرة “في أواخر الأربعينات تم بعث مصنع الإسمنت ومقطع الحجارة الذي يموله بالمواد الأولية ومصنع الجليز. وأتذكر أننا في إحدى الدورات التكوينية في العمل النقابي بجبل جلود في بداية السبعينات، روى لنا أحد النقابيين ما كان شاهدا عليه سنة 1947، وقال لنا أن القنطرة التي تجاور معمل الإسمنت شهدت اشتباكا مع القوات الفرنسية وتوفي في تلك الأحداث اثنين من العمال التونسيين. عاد فرحات حشاد إلى جبل جلود بعد تلك الأحداث بسنة، وتخليدا للذكرى قام ببعث جمعية كرة قدم وهي الاتحاد الرياضي بجبل جلود”.

مرت السنوات وأصبحت منطقة جبل جلود تشهد نشاطا نقابيا قويا وملحوظا، سواء في مصانع الإسمنت أو مجمع الكروم )الخمور( أو معمل بالرّبي المخصص لقوارير الغاز وذلك بالأساس منذ بداية الستينات. ويحوي كتاب أرشيف جريدة الشعب الناطقة باسم الاتحاد العام التونسي للشغل العديد من المقالات التي تعلن بعث مصانع جديدة بشكل مطرد في منطقة جبل جلود وتوسع دائرة النشاط النقابي فيها، من بينها مصنع النسيج وشركة نقل البضائع STM والشركة التونسية للمواد الكيميائية STEC وBATA والـFonderie Réunie المخصصة لصناعة الرصاص والحديد والزنك وتجهيزات الصرف الصحي وتنظيم القنوات المائية والبنية التحتية.

من النضال النقابي إلى النشاط السياسي

يقول الصحفي بجريدة الشعب أصيل منطقة جبل جلود نصر الدين ساسي “شهدت جبل جلود أوج نشاطها العمالي والنقابي في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، عندما كانت جل المصانع التي تنشط ملكا للدولة التونسية ونتج عن ذلك النشاط بعث الاتحاد المحلي للشغل بسيدي فتح الله. علاوة على ذلك أصبحت النقابات تتحرك في اتجاهات عديدة منها النقابي المعهود والسياسي والثقافي والرياضي. أذكر أن أعمامي كانوا يلعبون كرة القدم بشكل أسبوعي بين عمال مصانع الإسمنت ومجمع الخمور وشركة نقل البضائع”.

تصاعد النشاط النقابي في منطقة جبل جلود أدى بدوره إلى انتشار وعي سياسي لدى العمال وانخراط جزء منهم في بعض التنظيمات السياسية التي كان جزء منها علني وآخر سري. أحد أولئك العمال الذين انخرطوا في خلية للحزب الشيوعي التونسي في جبل جلود )بعد ذلك أصبح حركة التجديد ثم حزب المسار( هو النقابي خميس سقرة، الذي يقول “كنا خلية من النشطاء النقابيين في شركات عديدة، منها الإسمنت والمطاحن والشيمينو وغيرها. جمعتنا النقابات في البداية ثم بتأطير المرحوم أحمد إبراهيم أصبحنا خلية سياسية تابعة للحزب الشيوعي التونسي وذلك على ما أذكر سنة 1979. وقبل تلك الفترة، كنا نسمع زملاءنا في مصنع الإسمنت خاصة يتحدثون عن جورج عدة الذي كان يزور المصانع في جبل جلود بشكل دوري للبحث في آلية إرساء منظومات التغطية والصناديق الاجتماعية، إذ كان يزور المصانع للتعرف إلى أهم احتياجات العمال”.

تراجع الإشعاع النقابي

ورد في كتاب مصطفى كريم أن أزمة الاتحاد العام التونسي للشغل التي جاءت مع قدوم الوزير الأول محمد مزالي سنة 1985 كانت عنوان أفول وتراجع الإشعاع النقابي الذي كان يميز منطقة جبل جلود. ويروي خميس سقرة تلك الفترة التي نشط فيها وكان من المعتقلين على خلفية نشاطه النقابي يقول “جاء مزالي وبدأت مرحلة أخرى في الحياة الصناعية النقابية في جبل جلود، وقد ألقى مزالي آنذاك خطابا يهاجم فيه الاتحاد ويحرض على النقابيين وانتهى الأمر بإيقافنا وسجنت شهرين ونصف. وقد بيعت أغلب المصانع التي كانت على ملك الدولة آنذاك، أذكر منها بيع مصنع الإسمنت لمستثمر إيطالي وأصبح سمير ماجول الرئيس الحالي لمنظمة الأعراف صاحب شركة لصنع الطماطم والهريسة )…إلخ(. بهذه الكيفية تراجع عدد العمال بمرور السنوات وبالتالي تراجعت القوة النقابية التي كانت جبل جلود معروفة بها”.

بعد قدوم بن علي بدأ التخطيط لإفراغ جبل جلود من محتواها التصنيعي وبالتالي الدفع بالمناخ الاجتماعي في المنطقة إلى التغير نحو الأسوأ نظرا للصبغة التي اكتسبتها المنطقة على مرّ السنين في أنها حزام سكني عمالي تجمع حول المصانع. ويؤكد العم حسن، 72 عاما، وهو عامل متقاعد من مصنع الإسمنت بجبل جلود أنه “منذ سنة 2000 تقريبا بدأ عدد المصانع في التراجع إلى الحدود التي نراها اليوم. مئات الشباب من طالبي الشغل تحولوا إلى قنابل موقوتة نتيجة المفارقة التي عاشوها مع عائلاتهم، فالأب والأم كانا يعملان في المصنع طيلة حياتهم، وفي وقت ما تم فقدان ذلك المصنع وبالتالي اجتاحتنا حالة من الفراغ”.

تراجع الإشعاع النقابي في جبل جلود يكشف سلسلة أخرى طويلة من الأزمات المرتبطة بفلسفة المصنع المجاور لمنطقة السكن. لقد بنيت جبل جلود على أنها منطقة صناعية وبمجرد فقدان الصبغة الصناعية فستفقد مشروعية وجودها، الأمر الذي يطرح السؤال حول مصير عشرات العائلات التي جاءت من أجل المصنع فلم تجده.


تم دعم هذه الفيديو من قبل مؤسسة روزا لكسمبورغ من خلال الدعم المقدم لها من وزارة التعاون الاقتصادي و التنمية الألمانية.
إن محتوى هذه المطبوعة هو مسؤولية موقع نواة ولا يعبر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.