وكان قد أعلن بالمناسبة عن تركيبة قال أن النهضة انسحبت منها قبل الإعلان عنها بساعة واحدة، وكان يفترض تقديمها كتشكيلة حكومية. وبذلك تكون حركة النهضة قد ألحقت هزيمة معنوية بالفخفاخ ومن ورائه رئيس الجمهورية. وتجاوزت صورة الفشل التي خلّفتها حكومة الجملي الى وضعية اللّاعب الأساسي الذي يصعب تحرّك الحياة السياسية بدونه. ولكن ليس هذا وحسب ما جعل النهضة تحاول إفشال الفخفاخ.
مخاوف حركة النهضة
حاولت النهضة الى حدود اللحظات الأخيرة قبل الإعلان عن الحكومة، الضغط على الفخفاخ وتهديده بالانسحاب ومحاولة ابتزازه للحصول على وزارة تكنولوجيات الاتصال. وقبلها وخلال فترة مفاوضات تشكيل الحكومة، أهملت النهضة كل الحقائب الوزارية وتشبّثت بوزارتي العدل والداخلية في مرحلة أولى، وفي مرحلة ثانية وبعد الموافقة على تحييد وزارات السيادة عن الأحزاب، سعت النهضة إلى إقصاء الأسماء المستقلّة المقترحة والتي لا تربطها بها علاقات جيدة. حتى اللحظات الأخيرة، تشبّثت النهضة بوزارة تكنولوجيات الاتصال بشكل قال عنه أمين عام حركة الشعب زهير المغزاوي “يدعو إلى كثير من الشك والريبة حول أهمّية هذه الوزارة وحول ما تخفيه حركة النهضة”.
ولا يخفى أن احد أسباب قلق حركة النهضة من هذه الوزارات هو ملف ما يعرف بالجهاز السري للحركة وموضوع الاغتيالات السياسية، حيث وجّهت هيئة الدفاع عن الزعيمين اليساريين الذين وقع اغتيالهما سنة 2013 في فترة حكومة الترويكا التي قادتها حركة النهضة، اتهاما مباشرا لقياديين في حركة النهضة بضلوعهم في الاغتيالات. وقد أخذ هذا الملف منحا تصاعديّا منذ سنة 2018 وذلك بعد أن ساءت العلاقة بين حركة النهضة وحليفها الباجي قايد السبسي، حيث استقبل الرئيس الراحل لجنة الدفاع في قصر قرطاج والتزم بضرورة كشف حقيقة الاغتيالات. وتلى هذا اللقاء حجز حاكم التحقيق لوثائق سرية فيما يسمى بالغرفة السوداء بوزارة الداخلية، ثم مسائلة كل من وزيري العدل والداخلية في البرلمان في 18 نوفمبر 2018. لكن لماذا تصرّ النهضة أيضا على وضع اليد على وزارة تكنولوجيا الاتصالات؟
كتب النّائب ياسين العياري على صفحته في الفايس بوك : “ما لا يعلمه التونسيون أنه عندنا وكالة تابعة لوزارة تكنولوجيا الاتصالات اسمها A2T يطلق عليها FBI تونس. هذه الوكالة لديها كل الإمكانيات التقنية والخبرات لإعتراض وقراءة المحادثات وتحديد أماكنها، وعوض أن يكون عملها منظم ومؤطر بالقانون لمحاربة الإرهاب والجريمة المنظمة فقد سخّرت للجهة التي تسيطر على الوزارة وهو الوزير النهضاوي أنور معروف”.
تخوّف من طموحات الرئيس
يتكون الفريق الحكومي المقترح، الذي انسحبت منه حركة النهضة من سبعة وعشرين وزيرا وكتابتي دولة. أما الأحزاب الممثلة في هذه التركيبة فهي حركة النهضة 7 وزراء، التيّار الديمقراطي3 وزراء، حركة الشعب وزيرين، تحيا تونس وزيرين، وكتلة المستقبل وزير وكتلة الإصلاح وزير. إضافة إلى 11 وزيرا مستقلّا و2 كتّاب دولة مستقلّين، وقد استأثر الفخفاخ بأقل قليلا من نصف الفريق الحكومي الذين قدّمهم في شكل مستقلّين، وهي مسألة تثير كثير من التوجّس لدى حركة النهضة، وحتى لدى حلفاء الفخفاخ. ويأتي هذا التوجّس من خشية النهضة أن يبادر الفخفاخ فيما بعد، صحبة رئيس الجمهورية، إلى تأسيس حزب سياسي يتغذّى من الغاضبين في بعض الأحزاب والكتل البرلمانية، ويضم إليه أيضا الوزراء “المستقلين”، وهو ما سيخلق لها منافسا شرسا في المستقبل قد يبعثر كل الأوراق.
يبدو أن رئيس الجمهورية الذي وضع كل بيضه في سلّة الفخفاخ في وضع غير مريح، فإمّا أن يخضع لابتزاز ومساومة النهضة أو يمدّ يده إلى قلب تونس. ومباشرة بعد إعلان الفخفاخ على تعثر مساعي تشكيل حكومته، التقى الرئيس سعيّد كل من أمين عام اتحاد الشغل ورئيس منظمة الأعراف، وبعد يوم واحد التقى هذا الثنائي الأخير راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة. الواضح أن هذا اللقاء كان بطلب من الرئيس نفسه لاجل عزل النهضة أو إجبارها على العودة الى التفاوض، وهو ما سيعطي الفرصة للنهضة لمزيد ابتزاز الفخفاخ والرّئيس معا، لا سيّما بعد رفض قيس سعيّد الأسبوع الماضي طلب الغنّوشي التوقيع على القانون الانتخابي، الذي كان يفترض ان يوقّعه الباجي قايد السبسي قبل رحيله.
من جهته يدرك الغنوشي جيّدا أن بيته الداخلي من زجاج أيضا وأن سيناريو الانتخابات الذي يستعمله كورقة تهديد سترتدّ عليه لا محالة، في ظل صراعات داخل حزبه. كما أن سيناريو مرور حكومة دون النهضة وإن كان ضعيفا الا ان الغنوشي لن يستبعده تماما، نظرا لما سيحمله من تهديد في حال أنه حدث، ولا سيّما في ظل امن وقضاء غير مضمونين.
من جهة أخرى لم ينزعج قلب تونس من ايحاءات النهضة العلنية والمبطّنة بأنها عقدت معه صفقة، وأنها محرجة أخلاقيا بترك حليفها خارج الحكم، فالدّور يساعد جدا نبيل القروي وصوّره بأنه يتحكّم في كامل كتلته البرلمانية ذات 38 نائبا. إضافة الى أن حركة النهضة عملت خلال الفترة الماضية على تبييض قلب تونس وتحويله من صورة الحزب الملاحق بشبهات الفساد إلى ضحية الاقصاء. والقروي مستعد الان لمفاوضة الشيطان من أجل ضمان عدم عودته الى السجن.
على صعيد اخر تعتبر أحزاب التيار الديمقراطي وحركة الشعب وتحيا تونس المستهدف الثاني بعد الرئيس ورئيس الحكومة المكلّف من قبل حركة النهضة، فالتشكيلة التي اقترحها الفخفاخ وانسحبت منها النهضة تعتبر السيناريو الأمثل لهذه الأحزاب. والنهضة تردّ لهم الكيل لما فعلوه في حكومة الجملي.
وإذا كان الحزب الدستوري الحر الأكثر وضوحا منذ البداية، فقد اختار موقعه منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات التشريعية في المعارضة. وقد عملت رئيسته على محو صورة الحزب الذي ارتبط بالاستبداد وقامت ضدّه ثورة شعبية، إلى الخصم والضدّ الرئيسي للإسلام السياسي. فإن ائتلاف الكرامة يظلّ الأكثر تذبذبا وغموضا في المشهد السياسي الحالي. وقد جنت النهضة على الكرامة وأذلّتها، اذ ورّطتها بداية في دعم حكومة الجملي، وحمّلتها أعباء فشل عدم مرورها، وهي تورّطها الان في الموقف من حكومة الفخفاخ. وبرز ائتلاف الكرامة طوال فترة مشاورات تشكيل الحكومة مثل التابع الصّاغر لحركة النهضة، يميل كلما مالت. كل السيناريوهات في المستقبل القريب ممكنة، والغنّوشي الذي يمسك الان بخيوط اللّعبة يدرك أنه يسير على حافة الهاوية، صحبة منافس في قصر قرطاج لا أحد يمكنه أن يتنبّأ بردود فعله.
iThere are no comments
Add yours