في بداية القرن العشرين، لم يكن مقهى تحت السور الكائن في ركن بين نهج حمام الرميمي وبطحاء باب سويقة، يملك شيئا يميزه عن بقية المقاهي الموجودة في الربض آنذاك بل كان أسوءها، فقد كان بسيطا إلى حد كبير كما لم يكن يتميّز  بأي طابع معماري فخم عكس مقهى “العباسية” المجاور له، الذي لا يزال قائما إلى غاية الآن، أو مقهى الحاج علي في الجهة المقابلة ومقهى البوسطة ومقهى  تونس . في  آخر عشرينات القرن الماضي، صنع بعض المثقفين “الصعاليك” أمجاد مقهى تحت السور التي دامت قرابة العقدين وأصبح ذلك المحل الرخيص شبيها بجامعة للفنون والآداب، والمقاومة أيضا.

نشأة أسطورة

سمي مقهى تحت السور بذلك الاسم نسبة إلى السور الداخلي أو السور الأغلبي الذي كان في ربض باب سويقة، والذي تهاوى في آخر القرن التاسع عشر. يروي عبد الستار عمامو الباحث المختص في التاريخ اللامادي لـ”نواة” كيف أن الصدفة وحدها جعلت مقهى تحت السور، على بساطته، قبلة أكبر كتاب تونس ومسرحييها وفنانيها، يقول

كان ربط باب سويقة مليئا بالمقاهي ولم يكن مقهى خالي علي أحسنهم، لكن اكتسب هذا المقهى شهرته من جماعة تحت السور وهم مجموعة من الشباب المهووسين بالفن والأدب. في البداية، لم يكن مقهى تحت السور وجهتهم الأولى بل كانوا يجتمعون في مقهى آخر في الربط التحتاني في باب الجزيرة. حينها، كان يُنظر إلى تلك المجموعة الفقيرة بعين الريبة، وذاق صاحب المقهى بهم ذرعا فقد تراكمت ديونهم لديه، فأحسوا بحرج كبير، واقترح أحد أفراد المجموعة مقهى تحت السور بسبب قربه من صاحبه، وبالفعل استقبلهم صاحب المقهى ورحب بهم، بل كان يقدم لهم المشروبات مجانا على أن يدفعوا له في وقت لاحق، فأحست المجموعة براحة كبيرة وكبر عددها.

لم يكن عدد جماعة تحت السور معروفا، لكن التاريخ أنصف بعضهم مثل الروائي علي الدوعاجي والصحفي والحكواتي عبد العزيز العروي والكاتب مصطفى خريّف والشاعرين أبو القاسم الشابي ومحمود بيرم التونسي، والكاتب زين العابدين السنوسي أحد أعضاء حركة الشباب التونسي التي ناهضت الاستعمار، والفنان الهادي الجويني، ولكن التاريخ ظلم أيضا الشاعر البوهيمي محمد العريبي المعروف بلقب ابن تومرت.

يقول عمامو “أصبح المقهى وجهة “العوادجية”، كانوا يعلمون أنه سيكون هناك دائما ألحان جديدة وسجالات بين الشعراء والملحنين يصحبهم العازفون. كان كل شيء مقدرا لذلك المكان بأن يصبح مشتلا صاخبا للأدب والفن، فقد وُجد في الشارع الذي تربت فيه الفنانة الكبيرة فتحية خيري. كما أن السيدة شافية رشدي، مطربة العشرينات والثلاثينات ذات الأنفة، تمر بجانب المقهى وتلقي التحية على جماعة تحت السور. لقد كسبوا التقدير والحب رغم أنهم كانوا أقرب إلى التيارات الفنية البوهيمية أو الهامشية”.

نفس متمرد وفكر ثائر

طيلة أكثر من عشر سنوات، استطاع ذلك المحل الرخيص أن يفتك من الزيتونة، أعرق المدارس آنذاك، أنبغ تلامذتها، وأن يحضن بكل حفاوة مجموعة يمكن وصفها بخليط من الأناركية والبوهيمية، يصفها مصطفى خريّف “بجماعة منسجمة تشابهت في الفلسْ وحبّ الفن والشيخات” في كتابه “من ذكريات تحت السور”. كانت لتلك المجموعة قوانينها. أهمها أنه لا قائد فيها، فالكل كان يقود ثورة على النظم والقوانين التي وضعها المجتمع، مما خلق انسجاما غريبا بينهم. كان جميعهم متفردون. فالشاعر محمد العريبي مثلا، كان شخصا نابغا ومميّزا، بل كان شجاعا واجه المجتمع ونثر أفكاره التحررية بكل شجاعة. عاش فقيرا واختار أن يعيش حياة بوهيمية بقية حياته. وصفه رفيقه في المجموعة علي الدوعاجي، في كتاب “تحت السور” لعلي الدوعاجي (جمعه عز الدين المدني)، بالقول “تعرفنا في دار العرب إلى شاب جزائري الأصل تونسي المولد دون العشرين من العمر يطلب العلم بالكليّة الزيتونية. خفيف الجسم طويل القامة والوجه واللسان والحديث، سريع الغضب والحركة والنكتة ووجدنا فيه البوهيمي الكامل الذي لا يغفل لشيء”. وكان صديقه الكاتب زين العابدين السنوسي منبهرا بجرأة أفكاره، وقد سبق أن وصفه بالرجعي الذي تطور بصورة مذهلة، يقول السنوسي”الغريب أني رأيت الشاب يتبدّل ويتطوّر بسرعة غريبة إلى درجة أنني أصبحت أتساءل: “أليس الخير لو بقي على رجعيّته؟ فالمسألة قد تجاوزت النظريات وتجاوزت المبادئ وتجاوزت العلم والإدراك إلى منطقة الهزء بكل قديم والإقدام على كل مغامرة”.

ليس من الغريب أن يذيع صيت مقهى تحت السور، فقد سكنته مجموعة من المثقفين الفقراء الذين “انكبوا يثقفون أنفسهم بصورة عصامية، بالمطالعة، بالتأمّل، بالاحتكاك الاجتماعي المستمرّ، بالتتلمذ لأدباء سبقوهم في الميدان، بالدخول في صلب الحركة الوطنية التحريرية، والذود عنها على أعمدة الصحف أو على أركاح المسارح. كانت السياسة الاستعماريّة تعمل عملها فيهم، بقطع آمالهم وتقويض رجائهم، بتفريقهم وعزلهم، وبث البوليس والخائن والمخبر في صفوفهم”. إنه إنذار بنهاية المقهى أطلقه الكاتب عز الدين المدني في كتابه “تحت السور”.

لم ينس جماعة تحت السور فضل المقهى عليهم وكانوا السبب في انتشار اسمه، فكان الدوعاجي يحرر اسم المقهى في كل ما يكتبه، ونشر مقالات في جريدته “السرور” وتحدث عنه العروي في الإذاعة أيضا. بعد الاستقلال، أفل نجم المقهى بعد أن غادره رواده الذين صنعوا أمجاده. فقد توفي الدوعاجي عام 1949، بعد إصابته بالسل. واختار محمد العريبي نهايته بنفسه وانتحر في فرنسا في العام 1946. في حين أصبح الهادي الجويني رئيس مصلحة الموسيقى في الإذاعة التونسية. وعلى عكس رواده، نسيت الدولة التونسية فضل المقهى في تأسيس حركة ثقافية رائدة ذاع صيتها خارج حدود تونس، وعاد مقهى خالي علي إلى بساطته التي كان عليها قبل أن يحتضن جماعة تحت السور.

لم يعد المقهى موجودا الآن، وبالكاد يمكن لغير العارفين تحديد مكانه. ففي آخر سبعينات القرن الماضي، باعه أصحابه وهدمه مالكوه الجدد ليحل محله متجر لكراء فساتين العرائس، ومطعم كفتاجي .لكن يمكن للواقف في زاوية نهج حمام الرميمي أن يتخيّل مشاهد ساحرة على واجهتي محل الكفتاجي ومحل كراء فساتين الأعراس: مقهى ذو جدران مرصوفة بقوالب تشبه قوالب الطين، كراسي من الخشب في شكل أرائك صغيرة، يعج المقهى بشبان وكهول بطرابيش حمراء.

الدولة تهمش التراث

كان يمكن لدولة ما بعد الاستقلال أن تحفظ لأجيال كثيرة تلك المشاهد الساحرة، لكن من الجلي أنها لا تول أي اعتبار لما يعنيه حفظ معلم أو ذاكرة، يقول الباحث عبد الستار عمامو “لم تكن تونس مثل مصر التي ثمنت مقهى الفيشاوي وحفظت منضدة نجيب محفوظ، في تلك الفترة طُرح مشروع كامل لهدم مدينة تونس وعصرنتها، وكان هناك مخطط لهدم الأسواق بالمدينة العتيقة لتصبح شارعا كبيرا يربط بين شارع الحبيب بورقيبة وجامع الزيتونة، لكن تصدت جمعية صيانة المدينة التي أنشئت سنة 1967 لهذا المشروع ولسياسة الدولة التي تعمدت تهميش التراث آنذاك”.

في الواقع، لا تزال سياسة الدولة في تهميش التراث قائمة، فمئات المعالم التاريخية لم تحفظ أو تصنف، فقد هدم بعضها وتهاوى البعض الآخر، ويؤكد منتصر جمور محافظ المدينة بالمعهد الوطني للتراث ذلك، لنواة أن

هناك مبان تاريخية غير محمية قانونيا في كامل الجمهورية ويرجع ذلك إلى عدة أسباب منها المشاكل العقارية لبعض المعالم بما أن عددا منها يرجع إلى ملك الخواص. أما المشكل الثاني فهو عدم توفر ميزانية كافية حتى يتمكن المعهد الوطني للتراث من القيام بعمليات جرد للمباني، فاتخاذ قرار لتصنيف مبنى أو معلم وحمايته عملية معقدة، إذ يجب أن يستجيب المبنى إلى شروط القيمة الجمالية والمعمارية وأساسا القيمة التاريخية. وللتثبت من استجابة المبنى لهذه المقاييس يعتمد المعهد الوطني للتراث على فريق من الخبراء في الهندسة المختصين ضرورة في التراث، ومن مؤرخين أيضا. منذ 2014، يواجه المعهد صعوبة كبيرة في القيام بعمله، إذ آثرت سياسات الحكومات المتعاقبة تنفيذ توصيات صندوق النقد الدولي بعدم الانتداب. وبسبب نقص اليد العاملة في عملنا، تقلص عدد المباني التي يمكن تصنيفها سنويا.

لا يملك المعهد الوطني للتراث إدارات أو فروع جهوية تمثله في الولايات، بل يعتمد على ست تفقديات تقوم بدورها في كل الجهات ولهذا تنفلت عشرات المعالم الأثرية من يد الدولة لتتهاوى أو لتتحول إلى محال تجارية، وكان يمكن أن تمحى آلاف المعالم لولا تصنيف اليونسكو مدينة تونس ضمن المعالم المحمية سنة 1979، سنوات قليلة بعد هدم مقهى تحت السور، وقد أصاب علي الدوعاجي حينما قال:

عاش يتمنّى في عنبه *** مات جابولو عنقود

ما يسعد فنّان الغلبة *** إلاّ من تحت اللّحــود