يوم الجمعة 8 جانفي الجاري، أعلنت إدارة تويتر أنها قامت بغلق حساب الرّئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب. وقالت إدارة تويتر على موقع الشركة الرسمي ” لقد أوضحنا أكثر من مرة، ومنذ سنوات أن هذه الحسابات ليست فوق قواعدنا (سياساتنا) ولا يمكن استعمال تويتر للدعوة إلى العنف وأشياء أخرى”. وكان الموقع الاجتماعي تويتر قد وجّه قبل ذلك تحذيرات إلى الرئيس الأمريكي.

منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية الامريكية الأخيرة، سارع ترامب والحزب الجمهوري إلى التشكيك في نتائج الانتخابات، واستعمل ترامب منصّة تويتر لشحن أنصاره وحثهم على رفضها، واصفا إياها بأنها نتائج مزوّرة، وهو ما اعتبرته إدارة تويتر مرفوضا ولا يتلاءم مع قواعد الاستخدام التي وضعتها.

وأدّت عمليات التجييش والحشد التي قام بها ترامب عبر تغريداته إلى اقتحام أنصاره يوم الأربعاء الماضي لمبنى الكونغرس، وذلك أثناء جلسة المصادقة على فوز جو بايدن في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وقبل تسلّمه السلطة بشكل رسمي يوم 20 جانفي الجاري. وقد تسبّبت أعمال الاقتحام والفوضى التي أحدثها أنصار ترامب في مقتل خمسة أشخاص، وأثارت موجة استياء واستهجان على المستوى الدولي.

تقويض الانتقال السلمي

شركة فايسبوك حذت حذو شركة تويتر واتخذت، يوم الجمعة 8 جانفي الجاري، الإجراء ذاته بغلق الصفحة الرسمية للرئيس ترامب، وقال مؤسس فايسبوك مارك زوكربارغ على صفحته الرسمية ” تبيّن الأحداث المروعة التي وقعت في الساعات الأربع والعشرين الماضية بوضوح أن الرئيس دونالد ترامب ينوي استخدام الوقت المتبقي في منصبه لتقويض الانتقال السلمي والمشروع للسلطة إلى خليفته المنتخب جو بايدن”. واعتبر أن تصريحات ترامب لا تتماشى والقواعد التي وضعها فايسبوك، لذلك “أزلنا هذه التصريحات البارحة لأننا حكمنا على أن تأثيرها -ومن المرجح أن نيتها- ستكون إثارة المزيد من العنف”. وأضاف أنه وعلى مدى السنوات العديدة الماضية، سمح للرئيس ترامب باستخدام منصة فايسبوك “لأننا نعتقد أن للجمهور الحق في الوصول إلى أوسع قدر ممكن من الخطاب السياسي، بل حتى وإن كان خطابا مثيرا للجدل. لكن السياق الحالي مختلف الآن جوهريا، حيث ينطوي على استخدام منصة لدينا للتحريض على التمرد العنيف ضد حكومة منتخبة ديمقراطيا”.

وقد أثارت هذه الإجراءات جدلا كبير حول معايير وحدود حريّر التعبير في المجال الرقمي، وفي ظل سيطرة المواقع الاجتماعية الأمريكية بالأساس. ففي الوقت الذي يعتبر فيه مؤسس فايسبوك أن “التحريض على التمرد العنيف ضد حكومة منتخبة ديمقراطيا” هو سبب قوي لحجب رئيس دولة وشخصية مثل ترامب، وفقا لمعايير وقواعد استخدام، فإن هذه المعايير تغيب في فايسبوك وتويتر حينما يتعلق الأمر ببلدان أخرى غير الولايات المتحدة حين تتعرض ديمقراطيتها للتهديد. حيث تواصل هذه المنصات حماية الخطابات العنيفة، الداعمة للإرهاب والكراهية، والتي تنتهك حقوق النساء وحقوق الإنسان بشكل عام تحت مبرر حماية حرية التعبير.

ماذا عن التطرف والإرهاب؟

تنشط في المنطقة العربية، على سبيل المثال، تيارات دينية متشددة تدعو للعنف والكراهية والقتل أحيانا، دون أن تتأثر معايير وشروط استخدام تويتر وفايسبوك. ويطرح اليوم بشكل جدي مسألة تعديل المواقع الاجتماعية، التي لا تخضع إلا لسياسات مؤسسيها أصحاب الشركات، هذه الشركات التي تعتبر الأغنى والأكثر مداخيلا في العالم.

لم يعد فايسبوك وتويتر وغيرهما من المواقع الاجتماعية اليوم مجرّد شركات اتصال، على الرغم من الأرباح المهولة التي تحققانها، وإنما وأساسا جزء أساسي من الفضاء العام ومن المتحكّمين في النقاش العام السياسي والاجتماعي والثقافي، ليس في الولايات المتحدة وحسب، وإنما على مستوى الكرة الأرضية. هذا الفضاء العام الذي يؤثر بشكل أساسي وحاسم في سياسات بلدان العالم وفي العلاقات الدولية، ويطرح أكثر من أي وقت مضى مسألة السياسة التعديلية، التي من شأنها حماية حرية التعبير بشكل متساوي بين الجميع، وفي نفس الوقت المحافظة على السلم والأمن وإقصاء خطابات العنف والكراهية والتمييز.

تستقطب مواقع مثل غوغل وفايسبوك وتويتر المليارات من البشر في الجهات الأربعة من العالم، وهي قادرة بذلك من خلال توجيه المحتويات ودعم بعضها وصنصرة بعضها الآخر من التحكم في البشرية. السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو من أعطى الحق لبعض الشركات الأمريكية لرسم حدود حرية التعبير، وتحديد ما يجوز قوله ونشره وما لا يجوز؟ عند تعاطيها مع تدوينات ترامب، رأت هذه الشركات، أن خطاباته تحرّض على العنف والإضرار بالديمقراطية الأمريكية. ماذا عن بقية بلدان العالم؟ مصير كثير من البلدان الديمقراطية وغير الديمقراطية أصبح رهين هذه المواقع الاجتماعية. فكيف يمكن أن تفوّض البشرية لبعض الأفراد من أصحاب الشركات لرسم حدود ما يقال وما لا يقال؟

منذ بداية القرن العشرين، ومع تنامي دور الصحافة المكتوبة، ثم بعد ذلك مع ظهور الراديو والتلفزيون، خضعت وسائل الإعلام التقليدية إلى التعديل والتعديل الذاتي، واستند تنظيم النقاش العام في الإعلام التقليدي إلى القوانين، كما حددت المجموعة الدولية وبعد الحرب العالمية الثانية جملة المعايير الضامنة لحرية التعبير. مع ظهور الميديا الرقمية بشكل عام والمواقع الاجتماعية، بشكل خاص، أصبح مجال النقاش العام موجّها أكثر إلى هذا الفضاء عوضا عن الإعلام التقليدي، وأصبح من الضروري البحث عن معايير موضوعية تحمي حرية التعبير، ولا ترتهن لسياسات بعض الشركات الأمريكية.