تعمل القنوات التلفزية التونسية الخاصة بالأساس وفق آلية المقايضة بالإشهار أو ما يعرف بالـ”Bartering. وتقتضي هذه الآلية قبول القناة التلفزية بث مسلسل أو برنامج، على أن يتولى منتج العمل استقطاب داعمين، ويتم الاتفاق بين القناة والمنتج على اقتسام عائدات الإشهار التي ستبث خلال فترة المسلسل أو البرنامج. وذلك في معزل عن أي آلية علمية موضوعية تضمن المنافسة النزيهة كقيس نسب المشاهدة. وهنا، يجدر الذكر أن الإحصائيات التي تنشرها شركات كسيغما كونساي وإمرود كونسلتينغ ليست قيس نسب المشاهدة وإنما عمليات سبر آراء تفتقر للدقة.

المقايضة بالإشهار، آلية تعجيزية

في العشر الأواخر من شهر رمضان، كان هناك اتفاق بين قناة الحوار التونسي وبين منتجي مسلسل “زينة وعزيزة” للمخرج زياد ليتيّم، لكن قُوّض ذلك الاتفاق، وبحث المنتجان عن قناة أخرى لبث المسلسل في الأيام العشرة الأخيرة من شهر رمضان، لكن الرد الذي وصل للمخرج ولفريق العمل كان أن المسلسل لن يبث لأنهما لم يجدا داعمين له، وذلك حسب تصريح ربيع بن دبابيس مدير تصوير العمل.

تعتمد قنوات تلفزية كثيرة في العالم على آلية المقايضة بالإشهار، وبدأ العمل بها في تونس منذ بداية الألفينيّات بين قناة تونس 7 وشركة كاكتوس برود التي يمتلكها بلحسن الطرابلسي وسامي الفهري آنذاك. وتم تعميمها بعد ذلك لتصبح المنوال الأكثر تداولا في تونس .مما تسبب في خلط بين عمليتي الإنتاج والتسويق وجعل قدرة المنتجين الشركاء على جلب المستشهرين معياراً محدداً في التعاقد معهم من عدمه. لا كفاءتهم وجودة منتوجهم.  .

وحسب تحقيق نشره موقع  “نواة” سنة 2017، أُبرمت صفقات بين القناة الوطنية التونسية وبين شركة كاكتوس برود بين العامين 2005 و2010 لاقتسام عائدات الإشهار، حيث بلغت قيمة مكاسب شركة الفهري والطرابلسي من الصفقة أكثر من 22 مليون دينار، وهي قيمة التجاوزات في المساحات الإشهارية حسب تقدير الخبراء، حيث كان الاتفاق يقضي بأن تتنازل الوكالة الوطنية للنهوض بالقطاع السمعي  البصري والتلفزة الوطنية عن عائدات الإشهار لصالح شركة كاكتوس برود، وإعطائها حصة 16 دقيقة وثلاثين ثانية كحد أقصى للإشهار، والذي تجاوزته الشركة بكثير عند بث برامجها “وحدك ضد 100″ و”دليلك ملك” و”آخر قرار” ومسلسل “مكتوب1”.

انتعاشة إشهارية مقارنة برمضان الماضي

تغنم القنوات التلفزية التونسية الخاصة من الإشهار في رمضان، مئات الآلاف من الدينارات، وحسب تقرير أصدرته الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري (هايكا)، تضاعف عدد ساعات الإشهار في ثلاثة قنوات خاصة وهي “التاسعة” و”قرطاج+” و”الحوار التونسي” وقناة عمومية وهي القناة الوطنية الأولى، بنسبة 101 بالمائة مقارنة برمضان العام الماضي.

كان النصيب الأكبر لقناة “التاسعة” التي ارتفع نصيبها من الومضات الإشهارية، دون الأخذ في الحسبان الأنواع الأخرى من الإشهار، حيث ارتفع عدد ساعات الإشهار في الأسبوع الأول من شهر رمضان، من 4 ساعات وسبع دقائق و57 ثانية إلى سبع ساعات وثلاث وثلاثين دقيقة، بنسبة تقارب 83 بالمائة، حيث تبث القناة المذكورة معدل ساعة من الومضات الإشهارية، في فترة خمس ساعات فقط، وهي العينة الزمنية للرصد التي اختارتها الهايكا والتي تمتد بين الثامنة مساء ومنتصف الليل.

وارتفع نصيب قناة “قرطاج+” من أربع دقائق وثلاثين ثانية العام الماضي إلى ثلاث ساعات وخمس دقائق وسبعة عشر ثانية، أي بنسبة 4000 بالمائة، تليها قناة “الحوار التونسي” التي ارتفع نصيبها من عدد ساعات الومضات الإشهارية من ساعة و51 دقيقية و12 ثانية إلى ساعتين وثلاث وعشرين دقيقة وسبع وأربعين ثانية أي بنسبة تقارب 29 بالمائة، في حين كان نصيب القناة الوطنية الرسمية من الومضات الإشهارية ساعة وأربع وثلاثين دقيقة وإحدى عشر ثانية الذي ارتفع بنسبة 30 بالمائة مقارنة برمضان الماضي.

مخالفات وانتهاكات بالجملة

هذه العائدات الضخمة للقنوات التلفزية الخاصة التي تحصدها من الإشهار تكفيها لتسديد رواتب مقدمي البرامج وضيوفهم الدائمين، والتي تصل إلى عشرين ألف دينار، كما هو الحال بالنسبة للمنشط علاء الشابي حين كان في الحوار التونسي. في المقابل، لا يتجاوز الأجر الصافي لبعض الصحفيين في قناة التاسعة مثلا التسعمائة دينار، وهو أقل من الأجر الأدنى الذي نصت عليه الاتفاقية الإطارية المشتركة للإعلام المحدد بمرتب شهري خام لا يقل عن 1400 دينار.

علاء الشابي

وتقدم هذه المعطيات صورة واضحة لتوجه بعض القنوات التي تتسابق لحصد أكبر عدد من الشاهدين عن طريق الإثارة وبالتالي الحصول على أكبر عدد من المستشهرين، وذلك على حساب المضامين الاعلامية الجديّة والمحترفة.

ورغم احتكارها للنصيب الأكبر من الإشهار، ارتكبت قناة “التاسعة” مخالفات في بث المضمون الإشهاري استوجب تسليط عقوبة مالية عليها قيمتها عشرون ألف دينار حسب تصريح هشام السنوسي عضو الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري لموقع “نواة”.

وقالت ندى قبوبي، راصدة في الهيئة، لـ”نواة” أن الهايكا التقت بممثلين عن القنوات التلفزية قبل رمضان لتفسير القواعد السلوكية للإشهار، لكن رغم ذلك سجلت الهيئة تجاوزات قامت بها هذه القنوات خاصة من بينها قناة التاسعة التي تجاوزت الزمن المسموح به لبث الومضات الإشهارية.

وتقول القبوبي “خلال الأسبوع الأول من شهر رمضان، رصدنا خروقات كثيرة، فكل برامج الطبخ مثلا لا تحترم القانون، إضافة إلى برامج أخرى يختلط فيها المضمون الإعلامي بالإشهاري مثل برنامج “فكرة سامي الفهري” وبرنامج “ديما لا باس”. كما رصدنا بث الإشهار الممنوع وهو أساسا متعلق بالإعلانات الخاصة بالمكملات الغذائية، وهي منتوجات يمنع الإشهار لها”. وتضيف قبوبي أن التجاوزات المرصودة تتمثل في عدم التنصيص على أن المضمون إشهاري قبل بثه، وتجاوز الوقت المسموح به في بث شارات الرعاية الإعلانية.

ضعف الدور التعديلي للهايكا

لم تقم الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري بتكثيف المراقبة على القنوات التلفزية واكتفت برصد ما أسمته بأوقات الذروة بعد الإفطار في حين أن برامج الطبخ تمر قبل وقت الذروة.

وينتقد الصادق الحمامي، الأستاذ الجامعي المختص في علوم الإعلام والاتصال أداء الهيئة، وقال في تصريح لموقع “نواة” أن الهيئة لا تقوم بدورها التعديلي كاملا.وأضاف

التعديل هو منظومة تضعها الدولة لتحقيق احتياجات الجمهور وهي إعلام متنوع يحتوي على الأخبار الجيدة وبرامج الترفيه والثقافة وذلك حتى لا تتحكم قوة معيّنة بمنطق معين في قناة معينة. هناك قطاعات  تنظمها الدولة، حتى في المجتمعات الرأسمالية، مثل النقل والصحة والاتصالات والتربية والإعلام أيضا . ومهمة الدولة في تنظيم قطاع الإعلام تتمثل في وضع مجموعة من الضوابط للحصول على إجازة البث من جهة ووضع ضوابط البرمجة، لكن الهايكا تخلت عن دورها الثاني وأصبحت تغطي عن عجزها في أداء مهمتها كاملة بخوض معارك إسناد الإجازات من عدمها.

يرى الحمامي أن المشهد الإعلامي في تونس تتحكم فيه قوتان، الأولى قوة تجارية والثانية سياسية تستعمل القوة الأولى من أجل التحكم في المضامين الإعلامية. وهو ما أدّى لنسف المضمون الإعلامي وسلعنته، لأن البرمجة برمتها أصبحت تصمم لغاية الحصول على الإشهار، فتنسف معها منظومة التعديل.

ويقول الحمامي “لقد حاربت مدرسة فرانكفورت منطق سلعنة المضمون الإعلامي وهي فلسفة كاملة قائمة على حماية الإعلام من تحكم المستشهرين فيه، لكن ما يحصل في تونس هو العكس، وإذا صحت الاستعارة من المفكر اليساري هربرت ماركوز، الذي كتب “الإنسان ذو البعد الواحد”، فإنه يمكننا القول إننا في تونس نعيش مشهدا ذي بعد واحد”.

كما يربط الأستاذ الصادق الحمامي بين رداءة المضامين التلفزية والإذاعية وبين تحكم المستشهرين فيها، معتبرا أن السياق الحالي يصح عليه القول الشائع “الإعلام في تونس لم ينعتق بعد وأن حرية الإعلام هي مجرد وهم”.

إن توظيف آلية المقايضة بالإشهار بين القنوات التلفزية الخاصة ومنتجي الأعمال الدرامية والتحكم في المضامين الإعلامية من خلال تحالف المال والسياسة وتراجع الهايكا عن القيام بدورها التعديلي أدّى  إلى سلعنة المضمون الإعلامي وضرب جودته ليحيد في نهاية المطاف عن رسالته في التثقيف والتوعية.