عدى بعض المارة والأكشاك المفتوحة كانت مدينة القيروان وكأن الأشباح تسكنها، درجة الحرارة فاقت الثلاثين عند التاسعة صباحا، ولا مجال للقادمين إليها إلا لقضاء شؤونهم والرحيل، لا مؤشرات على وجود حياة داخل سور المدينة العتيقة وخارجها.

الحجر الصحي الذي حددته الحكومة بأسبوعين شمل غالبية المتاجر والمطاعم والمعامل ودور العبادة، أما المدن والأرياف الأخرى فتلك قصة أخرى، “جئنا من ريف الوسلاتية. زوجتي مرضت مؤخراً واليوم عائلة بأكملها حاملة للفيروس، لولا الإسعاف الذي نقلهم ما كنا لنحظى بالرعاية”، قال لن  مواطن وجدناه مفترشا الحصى واضعا رأسه بين يديه يدعمه جدار قديم قبلة المستشفى الميداني الذي وضع لمعاضدة مستشفى ابن الجزار.

وعن سبب انتقال العدوى خارج القيروان المدينة، قال لــ”نواة” : “سبب العدوى التسيب والنقل الريفي والأسواق المفتوحة والاكتظاظ والمحلات التجارية. عندما تركب في النقل الريفي، لا تميز بين مرضى الكورونا من الأصحاء، وفي هذا الجو تحصل العدوى”.

عند وصولنا للمستشفى الميداني، كان الوضع هادئا. لا اكتظاظ خارج المستشفى ولا طوابير انتظار أمامه، لم يكن هنالك ما يوحي بوجود كارثة صحية تنتظرنا في مستشفى آخر. عناصر من الجيش كانت بصدد إقامة خيم علاجية جديدة بجانب نظيراتها المنتصبة منذ قرر رئيس الجمهورية تركيز مستشفى عسكري بالقيروان في 19 جوان الجاري “لمواجهة هذا الوضع الصحي ولمعاضدة الجهود التي يبذلها الإطار الطبي و شبه الطبي بالجهة”، حسب ما جاء في بلاغ لرئاسة الجمهورية.

حقيقة المستشفى الميداني

المستشفى الميداني لمرضى الكوفيد أقيم داخل قاعة رياضية مغطاة. الوضع داخله هادئ، لم نلاحظ مؤشرات أزمة ولا تشكيات، “الوضع الصحي بدأ ينفرج منذ السبت الماضي (19 جوان). لا يوجد مريض دون أوكسيجين ولا يوجد مريض ملقى على الأرض بدون سرير” بحسب عادل المانع، ناظر المستشفى الميداني.

وأضاف المانع لــ”نواة” : “قبل يوم السبت، طاقة الاستيعاب في المستشفى الميداني وجميع الأقسام الطبية والإنعاش في ابن الجزار والأغالبة تجاوزت 120 % لأن هنالك أقساما لم نستغلها لمرضى الكوفيد من قبل مثل  قسم العيون في مستشفى الأغالبة وأقسام أخرى. لقد سخرنا كل طاقات الاستيعاب العلاجية لمرضى الكوفيد”.

بالرغم من نبرة الطمأنة في كلام ناظر المستشفى الميداني، إلا أننا أحسسنا بوجود قلق عميق من احتمالية تدهور الوضع في أي وقت دون توفر القدرة والإمكانيات على مجابهته.

كما لم يخفي عادل المانع تذمره من بعض المرضى “ثمة ناس لا تتجاوز نسبة انتشار الكورونا في رئتيها 20% ولا تشكو أمراض مزمنة وقادرة على كراء الأوكسيجان، ومع ذلك يريدون أخذ مكان على حساب من هم في أمس الحاجة للأسرة والأوكسيجان. نحن ننصحهم بكراء الأوكسيجان. مع الأدوية المناسبة، بمقدورهم التعافي لوحدهم”.

وعن إحصائيات الوفيات، أفادنا بأن 80% من حالات الوفاة تجاوزت سن الـ70 سنة، وبأن أغلب الضحايا  يعانون من أمراض مزمنة.

من جانبها، أوضحت الدكتورة حنان الحليوي، طبيبة منسقة بالمستشفى الميداني، لــ”نواة” أن معدل الوفيات في المستشفى الميداني يقدر بـ3 وفيات فقط على 350 مريض ، مقارنة بابن الجزار الذي وصلت الوفيات فيه لقرابة 20 في اليوم.

وأشارت الحليوي إلى أن عدد المرضى في ارتفاع. ويدخل كل يوم ما بين 15 و20 مريض. “بسبب ازدياد عدد المرضى، صرنا نقبل من استعجالي ابن الجزار مباشرة ليصل عددهم 65 مريض منذ أسبوع، ما يجبرنا على إخراج بعض المرضى نعطيهم آلات أوكسيجانconcentrateur  ليكملوا العلاج في بيوتهم، خصوصا الحالات التي تتجه نحو الشفاء”.

ابن الجزار…عنوان المجزرة

الصورة شبه الوردية التي حملناها من المستشفى الميداني المدني وصورة المستشفى الميداني العسكري، الذي عاضد مجهود الرعاية الصحية لابن الجزار والأغالبة بقبوله حالات كوفيد تتطلب الإنعاش القلبي أو الكلوي، هذه الصورة تلاشت تقريبا عندما وقفنا على عتبة قسم الاستعجالي بمستشفى ابن الجزار. كان يستقبل مرضى كوفيد ومرضى آخرين يشتكون من أمراض مختلفة من نفس المدخل الذي اختلط فيه الحابل بالنابل: شيوخ، مسنات، امرأة حامل، كهول، يحتضنون قوارير الأوكسيجان لمن وجد إليها سبيلا. أخذ عينات الدم يتم في ممر الدخول. المرضى وعائلاتهم في اختلاط وتزاور.

لا فصل بين المرضى والأصحاء والذين يعانون من أمراض أخرى. لا يوجد إرشاد في مدخل المستشفى ولا سائل تعقيم تكون مجبرا على استعماله ولا مقياس حرارة. فوضى في كل مكان والممرضات كالنحل يتنقلن من مكان لمكان لتغطية النقص في الإطار الطبي والشبه طبي. رائحة الموت تنبعث في كل مكان كأننا في ساحة حرب حقيقية: حرب ضد الوباء وحرب ضد قلة الإمكانيات والتجهيزات وحرب  ضد الإهمال والتعتيم. حرب في كل مكان وعلى عدة واجهات تختزلها تلك الأمتار المعدودات بين باب الدخول مرورا بـ”سقيفة” المستشفى ووصولا إلى قاعة الانتظار.

محمد علي الحمدي، مدير مستشفى ابن الجزار، نبّه لخطورة الوضع الصحي في القيروان، مشيرا إلى أن طاقة الاستيعاب وصلت لـ100% من الأسرة.

لدينا اليوم 182 مريض مقيمين بابن الجزار موزعين بين المستشفى الميداني والمستشفى الميداني العسكري وقسم الكوفيد وقسم الصدرية-كوفيد وقسم الجراحة الذي ألحقناه بالأقسام المخصصة لكوفيد و20 سرير إنعاش نسبة الإشغال فيها مائة بالمائة.

إلا أنه استدرك بالقول “في نهاية الأمر، مريض كوفيد سيجد حلا سواء داخل ابن الجزار أو في مستشفيات أخرى في القيروان أو نرسله لمستشفيات أخرى خارج القيروان إذا اقتضى الأمر”.

للحد من الأزمة وإبطاء انتشار الكوفيد بالقيروان، دعا محمد علي الحمدي في حديثه  لـ”نواة” إلى استراتيجية تقوم على تكثيف عمليات التلقيح داخل وخارج الولاية والزيادة في الإطار الطبي وخاصة الشبه الطبي لدعم العمل في القسم الميداني وقسم الكوفيد. وتوقّع مدير المستشفى أن يكون هنالك ضغط أكثر من الضغط الحالي على الأوكسيجين في شهر أوت وهو ما سيتطلب تزويد المستشفى بخزان أوكسيجين إضافي.

أزمة الأوكسيجان والأجهزة والممرضين

مازلنا في قاعة انتظار استعجالي كوفيد. على الرغم من ضغط العمل والمرضى وحالة الفوضى المنظمة التي تُسيّر “فترينة” المستشفى الداخلية، وجدنا تفاعلا من إطارات شبه طبية عاملة بالمستشفى للإجابة عن عشرات الأسئلة التي تغزو أذهاننا في ذلك الوقت. “ارتفع عدد المرضى أكثر من اللازم والمعقول. فعندما يأتي 15 أو 20 مريض في نفس الوقت، وكلهم حالات تتطلب فحوصات وأشعة، أخذا في الحسبان قلة الأسرة والتجهيزات والأوكسيجان، ويلتحق بهم مرضى آخرون، عندها تصبح الأمور في غاية الصعوبة”، هكذا تحدثت مروى، ممرضة متعاقدة في مستشفى ابن الجزار لــ”نواة”. وأضافت “هنالك نقص كبير في الأطباء والممرضين لأن المرضى الوافدين أكثر من طاقة الاستيعاب، وهذا النقص موجود من قبل لكنه ارتفع الآن مع الموجة الجديدة لكوفيد”.

هذا التقييم دعمتها فيه زميلتها، ممرضة رئيسية في صيدلية مستشفى الأغالبة تم جلبها منذ أسبوعين لتعزيز القسم الاستعجالي ابن الجزار، والتي أفادت بأنه ليس لديهم الإمكانيات الكافية لتوفير الأوكسيجان. “فقط 06 أسطوانات وأضافوا لنا اسطوانتين اليوم لكن يبقى هنالك نقص متواصل في الأوكسيجان”.

وتابعت : “الأسطوانات الموجودة لا تغطي عدد المرضى الذين يأتون للعلاج من كوفيد 19، فمثلا لدينا داخل قاعات العلاج ما بين 6 أو 7 أسطوانات أوكسيجين في حين تجد في قاعة الانتظار ما بين 10 و15 مريض ينتظر بلا أوكسيجين. وبالتالي، الإشكالية الأولى التي نجدها مع المواطنين هي الأوكسيجان والإشكالية الثانية هي نقص الأسرة”.

“لدينا نقص في أجهزة مراقبة دقات القلب والأوكسيجان.Saturomètre  نعمل بجهاز جلبته زميلتنا من بيتها، ولدينا جهاز واحد لمراقبة الإشارات الحيوية عند المريض(moniteur de surveillance) “.   

اختلاط مرضى الكوفيد ببقية المرضى

النقص في الأطباء والممرضين والتجهيزات الذي يعاني منه مستشفى ابن الجزار لم ينعكس فقط على طاقة استيعاب المرضى، بل الأخطر من ذلك تداخل أقسام الإنعاش الخاصة بالكوفيد وقاعات الانتظار باستعجالي الإنعاش الخاص بالأمراض الأخرى وبمن تعرضوا لنوبات قلبية أو فشل في الكلى أو غيرها من الأزمات الصحية التي تتطلب الإنعاش والتدخل الطبي السريع”.

“يأتي مرضى أحيانا لديهم نوبات قلبية وغيرها من الأمراض ثم يغادرون وهم مرضى بالكوفيد لأن الاستعجالي يقبل جميع الحالات”، هذا ما كشفته لنا إحدى الممرضات ممن استجوبناهم في قسم الاستعجالي.

وقالت بتحسّر : “في السابق، كنا نقوم بالفرز بين من لديهم كوفيد ومن لديهم أمراض أخرى. الآن لم نعد قادرين على ذلك. حاليا، لا نفكر إلا في إنقاذ المريض”.

من جانبه، نفى مدير مستشفى ابن الجزار، محمد علي الحمدي، لــ”نواة” تداخل مرض الكوفيد وباقي المرضى في الاستعجالي أو في الإنعاش، وبأنه لا مجال لنقل العدوى بين المرضى بهذه الطريقة. وقال : “المريض الذي لا نجد له مكانا في إنعاش الكوفيد، ننسق ونجد له سرير في مكان آخر”.

أزمة انقطاع الكهرباء

أثارت حادثة انقطاع التيار الكهربائي في القيروان الكثير من الغبار حولها، وتعددت الروايات سواء تلك التي تؤكد انقطاع الكهرباء عن مستشفى ابن الجزار أو تلك التي تنفي هذه الرواية وتؤكد أن المولدات اشتغلت مباشرة إثر انقطاع الكهرباء.

مدير مستشفى ابن الجزار نفي في حديثنا معنا حصول انقطاع للتيار الكهربائي في المستشفى، وهو ما أكده لــ”نواة” نبيل رئيس قسم الصيانة الذي نفى قطعيا أن يكون “انقطاع الكهرباء في القيروان تسبب في مشكلة داخل المستشفى”، وأوضح أن “المولدات اشتغلت بشكل آلي مباشرة إثر انقطاع الكهرباء”.

هذه الرواية لم يكن حولها إجماع، ونفى عدد من أهالي المرضى اشتغال المولدات الكهربائية مباشرة إثر انقطاع الكهرباء في المدينة. كما أن مقطع فيديو تم تداوله بشكل واسع على مواقع التواصل الاجتماعي يظهر على امتداد 6 دقائق حالة انقطاع الكهرباء داخل مستشفى ابن الجزار ومعاناة المرضى جراء ذلك.

في المقابل، أفادنا ناظر المستشفى الميداني بأن التيار الكهربائي لم ينقطع لأن لديهم مولد كهرباء وضعه الجيش على ذمتهم، “كما أن وحدات العناية المركزة موجودة في خيم الجيش الذي يحوز على مولدات كهربائية ولم تعترضهم أية مشكلة في ذلك”.

عود على بدء… لماذا انتشرت العدوى في القيروان

أغلب الأشخاص الذين استجوبناهم أكّدوا لنا أن عدم وجود التزام بإجراءات الوقاية من كوفيد وعدم احترام ضوابط الحجر الصحي هما السببان الرئيسيان في انتشار الفيروس بهذه الكثافة.

إلى ذلك، قالت المديرة العامة للمرصد الوطني للأمراض الجديدة والمستجدة، نصاف بن علية، في مداخلة لها في نشرة الأخبار الرئيسية على الوطنية الأولى، أن التطور الوبائي الخطير جدا في ولاية القيروان، تسببت فيه السلالة المتحورة البريطانية، ومن الممكن سلالة خطيرة من نوع آخر بالإضافة إلى عدم الالتزام بالإجراءات الوقائية ضد الفيروس.

من جانبه قال عادل المانع لــ”نواة” أنه لا يوجد التزام بالحجر الصحي “والشرطة البلدية لم أراها تقوم بدورها. فالأسواق مفتوحة بشكل عادي و”الفريب” (سوق الملابس المستعملة) كذلك. حتى المقبرة تشهد حركية وكأن فيها عيدا أو مولدا نبويا. النصابة والناس داخلة خارجة”. وتساءل بحنق “ويني الشرطة البلدية؟ وينو وعي المواطنين بالحجر وقت الناس تتسوق كل يوم”.

وتابع “سبب آخر لانتشار العدوى يعود لاحتفالية العيد الصغير. لم نأخذ بعين الاعتبار أحواز القيروان بوحجلة، نصرالله، الوسلاتية، الشراردة، سيدي علي بالعون، الذين احتفلوا بطهوراتهم وعروساتهم بمناسبة حلول العيد الصغير، ثم جاؤوا بعد أسبوع أفواجا مصابين بالكوفيد بعد انتشار العدوى”. وأضاف : “الوسلاتية لوحدها أتانا منها قرابة 50 شخص كل يوم أغلبهم كبار في السن وحالات مستعجلة”. وتابع موضحا : “في الوسلاتية، المقاهي مفتوحة. ولا يوجد غلق للمقاهي ولا للمطاعم مثلما هو حاصل في القيروان”.

وتوقع ناظر المستشفى الميداني أن تحدث كارثة أخرى في العيد الكبير إذا لم يتم أخذ الاحتياطات والالتزام بالحجر الصحي. “يجب على الشرطة القيام بدورها والردع حتى لا ينتشر المرض مرة أخرى”. نفس التقييم يتقاطع معه مدير المستشفى الميداني، محمد علي الحامدي، الذي خلص للقول “إن انضباط الناس بالحجر الصحي سيكسر حلقات العدوى، لكن مواصلة الاحتفال الجماعي بالأعراس والمناسبات الاجتماعية سيزيد الوضع سوءا”.

بعد يوم طويل وشاق، غادرنا القيروان. على طريق الخروج وعند تخوم المدينة، كان باعة الشاي باللوز الأخضر الندي منتشرين على الأسفلت والأرصفة، يبيعون مشروباتهم الساخنة بألوانها المتنوعة…في كؤوس بلّورية…والناس يشربون!

للأزمة الصحية في القيروان عدة عناوين تشترك فيها الدولة بنصيب كبير بسبب قلة الإمكانيات والأجهزة والموارد البشرية وشبه غياب مؤسساتها المسؤولة عن إدارة الحجر الصحي وتطبيق القانون على المخالفين. لكن العامل المجتمعي والإهمال واستهتار المواطنين بإجراءات الوقاية والابتعاد عن التجمعات، كلها عوامل أدت لانتشار الوباء وحصد أرواح الأبرياء. المسألة عامة ولا تقتصر على القيروان، والقادم أصعب حسب خلاصات اللجنة العلمية والمؤشرات الميدانية.