منذ صدور القانون المنظم لهذه الشركات الأهلية، لم ينقطع الجدل حول هويتها وأهدافها وعلاقتها بالاقتصاد التضامني، ومدى واقعيتها وقدرتها على إبداع منوال تنموي اجتماعي جديد يحقق العدالة ويخلق الثروة.
وبين متحمس للفكرة من بين أنصار رئيس الجمهورية وأعضاء حملته وبين منتقدين ومعارضين لها من مختلف الألوان والتوجهات والمواقع، تبدو الفكرة مغرية للبحث في خلفيتها وآليات عملها ومدى انسجامها مع المنظومة الاقتصادية التونسية، ودورها في كسر الاحتكار والبيروقراطية ونظام الرخص.
ما حقيقة الشركات الأهلية؟
تصنّف الشركات الأهلية ضمن “خانة الشخصية المعنوية” التي يتم إحداثها من طرف أهالي جهة أو منطقة معيّنة وتعمل على تأسيس العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروات من خلال ممارسة جماعية للنشاط الاقتصادي، بحسب ما جاء في الفصل الثاني من المرسوم الرئاسي الخاص بتأسيس الشركات الأهلية.
وتهدف هذه الشركات، بحسب الفصل الثالث من المرسوم، إلى “تحقيق التنمية الجهوية وأساسا بالمعتمديات وفقا للإرادة الجماعية للأهالي وتماشيا مع حاجيات مناطقهم وخصوصياتها”.
وتنحصر وظائف الشركات الأهلية في بعث المشاريع الاقتصادية استجابة إلى احتياجات المتساكنين في المنطقة التي يتم فيها بعث هذه المشاريع والمساهمة في مسار التنمية بآليات وقوانين ومبادئ جديدة، مثلما أوضح لـ”نواة” الناشط السياسي وعضو حملة قيس سعيد في الانتخابية، رضا شهاب المكي.
من بين الامتيازات التي تتمتع بها هذه الشركات، إلى جانب الاعفاء الضريبي لمدة عشر سنوات، نجد كذلك التصرف في الأراضي الدولية واستغلالها لصالح المشاريع الفلاحية والإنتاج الغذائي، وهو ما دفع البعض من الداعمين لهذه الفكرة للاعتقاد بأن الشركات الأهلية ستحل جانبا من مشاكل نقص التموين الغذائي في تونس مثل النقص في الحبوب والأعلاف وغيرها من المواد الأساسية.
المختص في قانون الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، لطفي بن عيسى، اعتبر أن النص المتعلق بالشركات الأهلية مأخوذ من القانون الأساسي للشركات التعاضدية ومستمد من مجلة الشركات التجارية. وبيّن كذلك في تصريح لإذاعة اكسبراس اف ام أنّ الموارد التي ستتم تعبئتها من الصلح الجزائي سترصد في حساب شراكة لدى وزارة المالية ويقع توزيعها فيما بعد في تمويل المشاريع التي سيتقدّم بها الأهالي بعد المصادقة عليه.
ولئن اعتبر الموقف الرسمي للسلطة هذه المبادرة التشريعية قطيعة مع المنظومة القديمة وتأسيسا لنمط اقتصادي جديد، إلا أن فصولها القانونية ومبادئها وغاياتها تتقاطع مع منظومة الاقتصاد الاجتماعي التضامني التي تم سنها في قانون 30 جوان 2020 التي أرست الإطار العام المنظم لمؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني.
في هذا السياق، اعتبر رضا شهاب المكي، في حديثه لـ”نواة” أن قانون الاقتصاد التضامني كان موجّها للتسويق الخارجي في إطار الدعاية السياسية، في حين أن ما قام به الرئيس هو تنفيذ عملي وملموس لما أسماه بـ “النظام الاقتصادي التشاركي التضامني”.
انتقادات لمشروع الرئيس
من بين الانتقادات التي وجهت لمبادرة الرئيس بإنشاء شركات أهلية هو تدخل الدولة المباشر في نشاطاتها عبر الاشراف والمراقبة وإبداء الرأي في التقارير المالية والاقتصادية والمطالبة بتغييرها إذا لم يرضَ عنها الوالي بالنسبة للشركات المحلية، أو وزير الاقتصاد بالنسبة للشركات الجهوية، وهو ما يرى فيه خبراء وضع عراقيل بيروقراطية إضافية لا تشجع الشباب على الاستثمار فيها لأنها تعطي السلطة المركزية الصلاحية للتدخل العميق في قرارات الشركة والتصرف في نسبة هامة من أرباحها التي ستذهب في دعم الاقتصاد التضامني والتنمية، بحسب الفصول 55 و 67 و68 من المرسوم الرئاسي.
وينص الفصل 69 على كذلك على أنه “يمكن للوزير المكلّف بالاقتصاد (…) طلب سحب المرفق والأملاك العمومية الموضوعة تحت تصرف الشركة الأهلية الجهوية منها بقرار من الوزير المكلّف بأملاك الدولة…).
غير أن المكّي يرى أن تدخل الدولة والصبغة العمومية للشركات الأهلية هي مسائل ضرورية لإيجاد توازن في القطاع الخاص والعمومي، “فالقطاع الخاص لا يكون كذلك إلا إذا كان مشبعا منهمكا في مقتضيات الحياة المجتمعية المشتركة، ولا يكون العامُّ عامًّا إلا إذا تأكد لديه أن للخاص مبادرته وثروته، ولكن عليه أن ينظمها بالقوانين حتى لا يخرج هذا من ذاك”، على حدّ تعبيره.
وأشار الناشط السياسي في حديثه لـ”نواة” إلى أن الحل في سياسة توافق بين القطاع العام والقطاع الخاص”، مبيّنا في ذات السياق بأن “الشركات الأهلية مبنية على هذه الفكرة”.
مطمح مواجهة الإحتكار !
من المسائل الأخرى التي تجعل من الصعب تنفيذ مبادرة الرئيس قيس سعيد على أرض الواقع هي التشريعات الاقتصادية التمييزية في منظومة رخص بعث المشاريع والتي لا يستفيد منها سوى عدد قليل من الأثرياء والعائلات الاقتصادية الريعية بحسب تقارير دولية متطابقة.
وتعد مسألة الرخص بالمنطق القياسي حجر عثرة أمام تنفيذ مشاريع الشركات الأهلية في اختصاصات اقتصادية معينة مثل النقل والبنوك والشركات المالية والائتمانية، حتى أن تأسيس شركة إنتاج واستيراد الأعلاف الحيوانية مثلا تتطلب حسابا بنكيا من الباعث لا يقل عن 300 ألف دينار. وقد حاول فلاحو قرية أولاد جاب الله (مدينة ملولش ولاية المهدية)، في شهادات سابقة لـ”نواة” الاعتماد على مواردهم الذاتية لإنشاء شركة أعلاف تعاضدية بسبب الغلاء المتزايد للأعلاف التي تبيعها الشركات الكبرى المحتكرة لهذا القطاع. إلا أن البيروقراطية الإدارية والاشتراطات التعجيزيّة للحصول على الرخصة والعمل في هذا المجال أثنتهم عن هذا المشروع.
فهل سيتغير الأمر مع الشركات الأهلية في ظل القوانين الاحتكارية ومنظومة الرخص الدارجة؟ وكيف للفقراء والشباب العاطل الانخراط في هذه المبادرة بالولوج لمجالات اقتصادية لا تزال حكرا لحد الآن على أصحاب الثروات من المليارديرات والعائلات الريعية؟
في تعليقه على هذا التحدي المركب أمام مبادرة الرئيس، أفاد رضا شهاب المكي أن الاحتكار موجود داخل منظومة الرّخَص، وأنه بإمكان هذه المنظومة تعطيل تكوين الشركات الأهلية، إلا أن هذه الأخيرة مبنية على المبادرة الحرة وتوليد الشركات من بعضها البعض وبالتالي قادرة على كسر نظام الرّخَص.
فهم مغلوط لطبيعة الأزمة الهيكلية
يرى متابعون أن شروط تأسيس الشركات الأهلية (يجب ألا يقل عدد المساهمين فيها عن 50 فردا ورأس مال جماعي لا يقل عن 10 آلاف دينار بالنسبة للشركات المحلية و20 ألف دينار للشركات الجهوية) تحمل، ظاهريا على الأقل، بذور حلول للشباب العاطل عن العمل.
هذه الرؤية على جاذبيتها تقابل بانتقادات من الفاعلين الاجتماعيين في المجتمع المدني، إذ يرى الناطق باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، رمضان بن عمر، أن التسويق لفكرة أن الشركات الأهلية تقدم حلولا للبطالة وللأزمة الاجتماعية والاقتصادية فيه فهم مغلوط لطبيعة الأزمة الهيكلية التي تعيشها البلاد والمرتبطة أساسا بالخيارات الكبرى للاقتصاد الوطني التونسي.
وأوضح بن عمر، في حديثه لـ”نواة” أن الشركات الأهلية ربما تكون آلية لحل الأزمة على مستوى جهوي ومحلي ولكنها لا تندرج ضمن رؤية متكاملة وشاملة للإصلاح، معتبرا أنها مجرد مواصلة لنفس الشعارات الكبرى التي ترفعها رئاسة الجمهورية منذ 25 جويلية، وذلك عبر الاستحواذ على عناوين جذابة من صميم المطالب الاجتماعية والحقوقية وإفراغها من محتواها.
من جانبه، انتقد عضو المكتب التنفيذي لاتحاد أصحاب الشهائد العليا المعطلين عن العمل، حسيب العبيدي مبدأ الشركات الأهلية، واعتبر في تصريح إذاعي لراديو موزاييك أن مقترح رئيس الجمهورية مجرد وسيلة للهروب من تحمل المسؤولية في إيجاد حل لمشكل البطالة، مشيرا إلى أن هذا الحل “هو بمثابة المسكن الوقتي للاحتجاجات”.
بين من يرى في الشركات الأهلية وغيرها من مشاريع الرئيس آليات لإنتاج العمل والثروة والقضاء على البطالة والتضخم الاقتصادي وبين من يعتبرها حلولا طوباوية غير متجذرة في الواقع الاجتماعي وغير مؤطرة في رؤية سياسية واقتصادية متكاملة، تتدحرج البلاد نحو المجهول كلاعب في وضعية تسلل في الدقائق الأخيرة قبل الوقت الضائع من مباراة مصيرية.
iThere are no comments
Add yours