أتت الزيارة أيضا في فترة تشهد فيها تونس شبه عزلة دوليّة مع تتالي الانتقادات من الدول الغربيّة للمسار السياسيّ وآخره ما تمّ خلال اجتماع لجنة الشؤون الخارجيّة للاتحاد الأوروبي يوم 11 ماي الماضي.
إن المتتبع لمسار العلاقات التونسيّة المصريّة ليُلاحظ زخما لافتا في التواصل الثنائيّ الرسميّ بين البلدين منذ سنة 2020 إلى اليوم، خصوصا مع إعلان الرئيس التونسي قيس سعيّد تدابيره الاستثنائيّة في 25 جويلية 2021. فقبل حوالي 4 أشهر من ذلك الحدث، شكّلت زيارته الشهيرة إلى القاهرة في الفترة بين 9 و11 أفريل مقدّمة لمسار من التحالف الوطيد بين رأسي البلدين، ليس من العسير اقتفاء أثره ضمن المواقف المتقاربة حيال عدد من الملفّات الإقليميّة وخصوصا منها الملفّ الليبي. داخليا، قُرئت العمليّة على أنها استقواء قام به سعيّد ضدّ خصومه السياسيّين، وخاصّة الأطراف الداعمة لحكومة هشام المشيشي حينها. أمّا اليوم فتأتي زيارة الوفد الذي يقوده رئيس الحكومة المصريّ مصطفى مدبولي بعد مرور أكثر من سنة من ذلك، مع ظهور تطوّرات جديدة حاسمة في طبيعة العلاقات بين الطرفين.
ما بعد 2020: حالة من التكثّف في العلاقات التونسية المصرية
أخذت العلاقات المصريّة التونسيّة بعدا أكثر مأسسة منذ سنة 1988، تاريخ إرساء اللجنة الثنائيّة العليا بين البلدين عقب سنوات من الخلاف السياسي، حيث تتالت على إثر ذلك هياكل التنسيق الدبلوماسي على غرار اللجنة المشتركة للتشاور السياسي في أفريل 1992 التي يرأسها وزيرا خارجية البلدين، واللجنة الوزاريّة للمتابعة سنة 2005 واللجنة القنصليّة المشتركة. إلا أن السنتين الأخيرتين تحديدا شهدتا نسقا محموما من المباحثات، خصوصا خلال فترة عضويّة تونس لمقعد غير دائم ضمن مجلس الأمن وكذلك عقب إجراءات 25 جويلية.
كلا الاهتمامين يبدو واضحا من خلال التحوّلات التي يمرّ بها دور مصر الإقليمي، فتوفّر حليف لوجهة النظر المصريّة حيال ملفّ سدّ النهضة خاصّة والملف الليبيّ كذلك كان عاملا في تواتر اللقاءات والمباحثات بين دبلوماسيّتي البلدين. يكفي لذلك أن نستند لحجم المباحثات التي أجراها وزير الخارجيّة المصري سامح شكري بنفسه مع المسؤولين التونسيّين خلال السنة الأخيرة، والتي ازدادت زخما إثر 25 جويلية، لندرك عمق هذا التوجه. فعلى هامش مؤتمر برلين 2 حول الأزمة الليبيّة في جوان 2021، تباحث الوزير المصري مع نظيره التونسي حول المسائل ذات الاهتمام المشترك ثم التقى يوم 5 جويلية 2021 في نيويورك مع المندوب التونسيّ لدى الأمم المتحدة طارق الأدب للتنسيق حول ملف سد النهضة، قبل أن يقوم بزيارة إلى تونس يوم 4 أوت عقب إعلان سعيد عن اتخاذ التدابير الاستثنائيّة حاملا رسالة من الرئيس المصريّ إلى الرئيس التونسي قيس سعيّد تعبّر عن دعم مصر للإجراءات التي تمّ اتخاذها، إضافة إلى لقاءات أخرى جمعت سامح شكري بوزير الخارجيّة التونسي عثمان الجرندي خلال اجتماعات الدورة 76 للجمعيّة العامّة في نيويورك يوم 21 سبتمبر 2021 وعلى هامش الدورة 48 لمجلس وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلاميّ في العاصمة الباكستانيّة إسلام أباد في 22 مارس 2022.
مصالح لطرف واحد؟
كان من نتائج زيارة مصطفى مدبولي التوقيع على 11 اتفاقية ومذكّرة تفاهم في مجالات التعاون الدولي والاستثمار والصادرات، والاشتراك في المعارض والأسواق الدولية، والرقابة المالية، والتعليم العالي والبحث العلمي، والزراعة، والتشييد والبناء، إضافة إلى الأرصاد الجوية والمناخ، وتكنولوجيا المعلومات، والاتصال، والبريد، والمرأة والأسرة والمسنين. كما تم التطرّق إلى تعزيز دور القطاع الخاصّ في الاستثمار الاقتصادي بين البلدين وتعزيز التبادل الثقافي، خصوصا مع إعلان سنة 2021-2022 كعام للثقافة المصريّة-التونسيّة. إلا أن عديد التساؤلات مازالت تُطرح حول قدرة هذه الاتفاقيات على إضفاء مزيد من النجاعة حيال هذا التعاون الثنائيّ وبالأخصّ مدى تحقيقه لشكل من التوازن ضمن المبادلات التجاريّة لصالح الطرف التونسي تحديدا.
فوفق أرقام صادرة عن مكتب التمثيل التجاري المصريّ بتونس سنة 2019 بلغ حجم التبادل التجاريّ بين البلدين 572 مليون دولار، لم تشكّل منها الصادرات التونسيّة إلى مصر سوى عُشر حجم التبادلات العامّة (قرابة 60 مليون دولار) في حين استأثرت الصادرات المصريّة إلى تونس بـ500 مليون دولار، حيث تستورد تونس من مصر المنتجات النفطيّة والقماش القطني والحديد والصلب والأجهزة الكهربائيّة والمواد البلاستيكية والزجاجية.
لا يقتصر اختلال التوازن هنا على الجانب الاقتصاديّ فقط، إذ كان لدعم القيادة المصريّة لإجراءات 25 جويلية مقابل سياسيّ مهمّ، انعكس خاصّة في الملف الليبي حتى على حساب المصالح الإستراتيجيّة لتونس. فبعد أيام قليلة من زيارة الوفد المصريّ إلى العاصمة التونسيّة، جدّت محاولة فاشلة في طرابلس لاستلام السلطة من قبل فتحي باشاغا الذي سبق أن صوت البرلمان الليبي على حكومته في جلسة مثيرة للجدل، كبديل عن حكومة الوحدة الوطنية القائمة برئاسة عبد الحميد الدبيبة. كانت مصر أكبر الداعمين الإقليميين لحكومة باشاغا، لكنّها لم تؤثر على احتضان حكومته على أراضيها أو تسهيل مباحثات رئيسها مع الأطراف الخارجية، بل كان مقر عمل باشاغا من العاصمة التونسية لفترة طويلة. وقد كان الأمر عموما سابقة خطيرة قد مسّت بمبدأ الحياد الإيجابي الذي اتبعته تونس في الملف الليبي منذ بداية الأزمة، بل وصل إلى حد تهديد الأمن القومي التونسي أثناء محاولة فتحي باشآغا دخول ليبيا انطلاقا من الحدود التونسيّة.
كل هذا يدفع إلى التساؤل عن مقابل الدعم السياسي المصري لقيس سعيد وعن حدود التعاون الثنائيّ خصوصا عندما يتعلق الأمر باستقلاليّة القرار الوطني وبالعلاقات الدبلوماسية التونسيّة مع فاعلين إقليميين آخرين، خصوصا الجزائر التي لديها احترازات حقيقيّة من التقارب المصري-المغربي مؤخرا ومن السلوك السياسي المصريّ إزاء الأزمة الليبية.
iThere are no comments
Add yours