يوم 4 نوفمبر 2022، أدّت حياة قطاط وزيرة الثقافة زيارة إلى الجزيرة على هامش القمة الفرنكفونيّة، لتشيد بمشروع الجزيري أمام الصحافة المحلية قائلة إنّ “صاحبه التزم بالحفاظ على المحيط البيئي والطبيعي”. تصريح أثار غضب النشطاء البيئيين ووجه أصابع الاتهام الى سياسة المحاباة والتطبيع مع الاعتداء على المحميات البيئية. ورغم رفض الإدارة العامة للغابات، إلاّ أنّ رخصة إنشاء هذا المركز على محمية رطبة أُسندت لصاحب المشروع في ظروف غامضة.

المناطق الرطبة محميّة وطنيّا ودوليّا

تعرّف المنطقة الرطبة وفق منظمة الأمم المتّحدة بأنها كلّ منطقة يكون فيها الماء العاملَ الرئيسي الذي يؤثر على البيئة وتكاثرها الحيوي. وللمنطقة الرطبة دور رئيسي في دورة الكربون والمياه، يعيش ويتكاثر فيها حوالي 40% من الأنواع النباتية والحيوانية، لتقدّر قيمتها الاقتصادية بما يزيد عن خمس أضعاف قيمة الغابات الاستوائية.

وحسب تقرير حول الآفاق العالميّة للمناطق الرّطبة أعدّته كتابة اتفاقيّة رامسار، فإنّ العالم قد خسر 87% من المناطق الرطبة لأسباب مناخية وديمغرافية، بالإضافة إلى زحف المناطق الحضرية. عوامل تهدد ربع الأنواع الحية بخطر الانقراض حسب تقرير للأمم المتحدة سنة 2019 متعلق بالتنوع البيولوجي.

سنة 1971، أعلن عن ميلاد اتفاقية رامسار، أو اتفاقية الأراضي الرطبة ذات الأهمية العالية، وهي معاهدة دولية للحفاظ والاستخدام المستدام لهذه المناطق، هدفها وقف نزيف فقدان المناطق الرطبة، تمّت المصادقة عليها في مدينة رامسار بإيران. سنة 1981 انضمت تونس إلى تلك المعاهدة وفقا للقانون عدد 9 لسنة 1980 المتعلق بالترخيص لانخراط البلاد التونسية في الاتفاقية المتعلقة بالمناطق الرطبة.

منطقة بين الوديان التي يقع بها مركز الفنون لصاحبه فاضل الجزيري، دخلت تحت مظلة معاهدة رامسار سنة 2007، ضمن 41 موقعا تونسيا محميا بموجب هذه الاتفاقية. رغم ذلك، تمكّن الجزيري من تغيير صبغة الأرض ومن الحصول على رخصة لبناء مشروعه متجاهلا الخطر الذي يمكن أن يلحق بالكائنات الحية التي تلجأ إلى تلك المنطقة.

مسار التحايل على القانون

تعود الأرض التي أقيم عليها مركز الفنون إلى ملكية فاضل الجزيري منذ منتصف التسعينات. ويقول مصدر من إدارة الغابات بمدنين إن المخرج قدم سنة 2005 طلبا لتغيير صبغة الأرض المعنية ولكنّه قوبل بالرفض. في أوت 2011 وحسب الأمر عدد 1149 ، المنشور بـالرائد الرسمي، نص الفصل الأول على “تغيير صلاحية قطعة الأرض الفلاحية التابعة للرسمين العقاريين عدد 21356 مدنين وعدد 21355 مدنين والمُرتّبة ضمن المناطق الفلاحية الأخرى والكائنة بمنطقة قلالة من معتمدية جربة أجيم من ولاية مدنين والمبيًّنة بالمثال الملحق بهذا الأمر، لغرض إقامة مشروع ترفيهي ثقافي سياحي”، والحال أن منطقة تربلة بين الوديان التي أُقيم عليها مركز الفنون تتبع إداريا بلدية جربة ميدون.

في تصريح لنواة، فسّر مصدر من بلدية جربة ميدون تحفّظ على ذكر هويته بأن تصنيف منطقة تربلة بين الوديان على أساس أنها تابعة لبلدية جربة أجيم ارتكز على مشروع غير مصادق عليه، تم إعداده في التسعينات من أجل إعادة ترسيم الحدود بين البلديتين، تصبح بموجبه منطقة تربلة تابعة لبلدية أجيم. ويضيف المصدر المذكور أنه لم تتم المصادقة على قرار تغيير الحدود بين البلديتين، وبالتالي فإن منطقة تربلة بين الوديان التي أُقيم عليها مركز الفنون لصاحبه فاضل الجزيري تتبع ترابيا بلدية جربة ميدون لا بلدية جربة أجيم كما نص على ذلك القرار الصادر بالرائد الرسمي.

بعد الخطوة الأولى في تغيير صبغة الأرض الرطبة المصنفة ضمن “رامسار”، سعى الجزيري إلى الحصول على رخصة بناء، لكنه لم يتمكّن من ذلك إلا بعد قرابة ست سنوات من تاريخ تغيير صبغة الأرض التي أقام عليها مشروعه، رغم أنّ الفصل السابع من الأمر  عدد 710 لسنة 2001 المتعلق بتركيبة وسير اللجان الفنية الاستشارية الجهوية للأراضي الفلاحية، ينصّ على أنّه “في صورة عدم الشروع في إنجاز المشروع موضوع تغيير الصبغة الفلاحية خلال سنة قابلة للتجديد مرة واحدة، يتم إلغاء الأمر المتعلق بتغيير صبغة الأرض المعنية”، وهو ما يعني أنّ قرار تغيير صبغة الأرض الذي ارتكز عليه فاضل الجزيري للحصول على رخصة لبناء مسرحه لاغٍ منذ العام 2013. ومع ذلك، تمكن من الحصول على رخصة بناء من بلدية جربة أجيم بتاريخ 25 أكتوبر 2017، وفق القرار عدد 175/2017، وبالتالي ارتكبت بلدية جربة أجيم مخالفتين، تتمثّل الأولى في إسناد رخصة لأشغال في منطقة لا تتبع حدودها البلدية مرتكزة على مشروع قرار غير مصادق عليه وبالتالي هو قرار غير موجود قانونيا. أمّا التجاوز الثاني فهو مخالفة الأمر عدد 710 والترخيص بالبناء فوق أرض عادت إلى صبغتها الفلاحية، بالإضافة إلى كونها أرضا رطبة وفق اتفاقية رامسار.

القانون تحت أقدام فاضل الجزيري

في إجابة على مطلب نفاذ للمعلومة تقدم به أحد نشطاء المجتمع المدني بجربة إلى بلدية ميدون، تقول البلدية إن إسناد الرخصة لفاضل الجزيري من أجل بناء مركز الفنون الكائن بمنطقة تربلة بين الوديان تمّ من قبل بلدية جربة أجيم لا جربة ميدون وذلك بعد تفعيل الفصل 400 من مجلّة الجماعات المحلية لسنة 2018، والذي ينص على أن “ديوان قيس الأراضي والمسح العقاري والمركز الوطني لرسم الخرائط والاستشعار عن بعد يتوليان وضع علامات حدود المجال الترابي للبلديات كلما اقتضت الحاجة ذلك على أن يتم إقرار ذلك بأمر حكومي”، مع الإشارة إلى أنّ الرخصة أسندتها بلدية جربة أجيم في 2017، قبل صدور مجلّة الجماعات المحلية. كما تقدّمت البلدية نفسها بإجابة للنشطاء يوم 6 نوفمبر 2020 بأنها فتحت تحقيقا إداريا وقانونيا حول المشروع والأشغال مع التثبت في حدود المجال الترابي الفاصل بين بلدية ميدون وبلدية جربة أجيم وتحديد الجهة الإدارية المعنية لرفع اللبس الحاصل بصفة نهائية”. وكانت بلدية أجيم قد أقرت في إجابة أخرى بخصوص إسناد رخصة بناء على أرض تتبع بلدية ميدون، أن منطقة تربلة تابعة لبلدية أجيم وأن إسناد الرخصة تم بعد موافقة لجنة رخص البناء المتكونة من ” مختلف الوزارات
ذات النظر (الفلاحة، التجهيز، أملاك الدولة …..)” حسب نص الإجابة.

لكن بغض النظر عن الخلاف القائم بخصوص المنطقة البلدية التي تتبعها منطقة تربلة بين الوديان، واصل فاضل الجزيري تجاهله للقانون. يقول مصدر من المندوبية الجهوية للفلاحة بمدنين رفض الكشف عن هويته في تصريح لموقع نواة إن الإدارة العامة للغابات رفضت في 16 أكتوبر 2018 طلب الجزيري الذي أحالته بلدية جربة أجيم بخصوص مشروعه على رسم عقاري ثان بمنطقة بين الوديان المصنفة منطقة رطبة والخاضعة لاتفاقية رامسار.

وحسب وثيقة موجهة من المدير العام للشؤون القانونية والعقارية بوزارة الفلاحة إلى المندوب الجهوي للتنمية الفلاحية بمدنين:

تبعا لإحالتكم بالمرجع أعلاه المتعلقة برغبة السيد محمد الفاضل الجزيري إقامة مسرح للهواء الطلق على قطعة أرض تمسح 1 هكتار 75 آر موضوع الرسم العقاري عدد 48980 مدنين كائنة بمعتمدية جربة أجيم من ولاية مدنين، أتشرف بإعلامكم أنه باستشارة الإدارة العامة للغابات في الغرض تبيّن أن قطعة الأرض المطلوبة توجد بمنطقة جربة بين الوديان المدرجة كمنطقة رطبة ضمن الاتفاقية العالمية للمناطق الرطبة رامسار وطبقا لأحكام الفصل 226 من مجلة الغابات فإنه لا يمكن ردم أو تجفيف منطقة رطبة إلا لأسباب ذات مصلحة وطنية كبرى. وعليه، فإنه تتعذر الاستجابة لطلب العارض.

⬇︎ PDF

ويقول مصدر من المندوبية الجهوية للفلاحة إنه رغم الرفض الذي توصل به  فاضل الجزيري وبلدية جربة أجيم، فإن المقاول واصل الأشغال. ويضيف:

عاينت إدارة الغابات المخالفات التي ارتكبها الجزيري وحررت ثلاث محاضر أُحيلت إلى المحكمة الابتدائية بمدنين بتاريخ 12 نوفمبر 2020 و17 نوفمبر 2021 و5 أكتوبر 2022، أما المحضر الأخير الذي حرر في أكتوبر 2022 فيخص شركة أورنج التي مكنها الجزيري من مساحة في أرضه وهي مصنفة بدورها منطقة رطبة، لتحرر ضد الجزيري خطية بـ500 دينار. لقد خالف الجزيري الإجراءات ولم يتحصل على التراخيص اللازمة لتنفيذ مشروعه.

فاضل الجزيري ينفي الاتهامات

في المقابل، نفى المخرج محمد الفاضل الجزيري في تصريح لموقع نواة كل التهم بتجاوز القانون في علاقة ببناء مشروعه الثقافي، وقال:

أملك رخصة. سنة 2011 التقيت بالحاج (المقصود فؤاد المبزع حين تولى رئاسة الجمهورية) وطرحت مشروعي الثقافي حينها تم تغيير صبغة الأرض حتى أتمكن من البناء،

ورغم تصريح مسؤول في المندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية بمدنين بخصوص رفض إدارة الغابات إقامة المشروع على أرض رطبة مصنفة رامسار، إلا أن الجزيري أصر على أن إدارة الغابات بمدنين منحته رخصة. يقول الجزيري:

لا أعلم لماذا تصر إدارة الغابات في مدنين على أنها رفضت مشروعي، ربما هناك شِقّان في تلك الإدارة. مشروعي قانوني ولو افترضنا صحة الادعاءات بأن مندوبية التنمية الفلاحية بمدنين رفضت أن يقام المشروع على أرض رطبة، فما كانت لتمكّنَني من عداد للماء بما أن شركة توزيع المياه تتبعها إداريا. كل ما قيل هو ادعاء باطل من مجموعة صغيرة من “الجهلة” وأفترض أن من يحرّك تلك المجموعة القليلة أشخاص من المركز يرفضون تركيز مشروع في الجنوب.

ورغم أن البناء في أرض رطبة يمكن أن يهدد الكائنات خاصة الطيور المهاجرة التي تعتبرها مأوى لها، إلا أن الجزيري يقول إن مشروعه قائم على احترام البيئة، ويستند في ذلك على أنّه قام بتنظيف مدخل الأرض التي أقيم عليها مسرحه من فضلات البناء ومن جثث الكلاب الميتة حسب قوله، مؤكدا أن هناك مشروع تعاون بينه وبين وزارة البيئة من أجل التعريف بالكائنات الحية في الجهة مثل الطيور المهاجرة والنباتات. وأضاف الجزيري “لدينا مرصد للطيور المهاجرة. أنا مرابط في جربة منذ عامين وما تزال الطيور المهاجرة تزور المنطقة ولا تهديد لوجودها عكس ما يزعم البعض”.

وصف فاضل الجزيري نشطاء المجتمع المدني بالجهلة وردد لعنات متكررة في وجوههم مدة دقائق داعيا المثقفين إلى الوقوف بدلا عمن وصفهم بالجهل.

الثقافة على حساب البيئة معادلة مغلوطة

يبدو أن الجدل الذي أطلقته نداءات النشطاء البيئيين لم يلق صدى لدى الجهات الحكومية. يقول إسماعيل الكنيالي وهو ناشط في المجتمع المدني بجربة، في تصريح لنواة، إن مجموعة من النشطاء تواصلت مع وزيرة البيئة وراسلت وزارة الداخلية ووزارة الثقافة ولا من مجيب. في المقابل، عقد المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون المعروف ببيت الحكمة اتفاقية تعاون مع الجزيري، انتظمت بمقتضاها تظاهرة بالمركز المذكور لتذوق أكلات تونسية وتقديم دراسات حولها. يقول محمود بن رمضان رئيس بيت الحكمة في إجابته على استفسارات نواة، “إن النشاط الذي أقيم بمركز الفنون بجربة تمّ الاتفاق عليه مع الجزيري قبل أن يبلغنا النشطاء بموضوع الخلاف البيئي”، مضيفا أن الأمر موكول للقضاء ليحسم فيه وأن بيت الحكمة سيلتزم بما تقرره العدالة.

المصدر debatunisie.com

إضافة إلى بيت الحكمة حرص الجزيري على عقد اتفاقيات مماثلة مع دار الكتب الوطنية والمسرح الوطني التونسي. تقول الدكتورة رجاء بن سلامة، مديرة دار الكتب الوطنية، في إجابتها لنواة:

قبل نحو عام عقدت المكتبة الوطنية اتفاقية مع الجزيري تشجيعا للامركزية وللاستثمار الخاص في الثقافة بعد أن أكد لنا صاحب المشروع قانونيته وعدم تعديه على الخصوصيات البيئية للمنطقة وطيورها المهاجرة. وأطلب من النشطاء البيئيين ومحمد الفاضل الجزيري الجلوس إلى طاولة الحوار للتوصل إلى اتفاق يحترم خصوصية المنطقة المحمية الرطبة ويوفر للجزيرة مركزا ثقافيا هاما.

تنصّ اتفاقية رامسار في فصلها الرابع على ضرورة التعويض قدر الإمكان عن الضرر البيئي الحاصل وخلق مواطن بديلة للطيور المائيّة وتأمين مواطن عيش شبيهة بموطنهم الأصلي، في صورة انتزاع جزء من الأراضي الرطبة أو التقليص من مساحتها تحقيقا لمصلحة وطنية كبرى. ولكنّ صاحب المشروع تغاضى عن هذا الجانب ومضى قُدمًا في تنفيذ برنامجه، بمباركة طيف من الفنّانين والإعلاميّين الّذين عملوا على تبييض صورة هذا المشروع والتغافل عن الانتهاكات التي تمسّ خصوصية الأرض وتهدّد التوازن البيئي للمنطقة.

فهل تستقيم الثقافة في صورة انتهاكها للتوازن البيئي؟ وهل يعقل أن يغيب الوازع البيئي عن بعض المثقفين والإعلاميين بدل أن يكونوا رأس حربة الدفاع عمّا تبقى من بيئة متوازنة يورّثونها للأجيال القادمة؟ تساؤلات طرحها النشطاء البيئيون لتبقى دون جواب، ما دفعهم إلى قرار تشبيك النضال بين مختلف الجمعيات والتنسيقيات البيئية، قبل الاتفاق على نقل هواجسهم إلى العاصمة وعقد مؤتمر صحفي بعد أن تجنبهم جل الإعلاميين أثناء التحرك الاحتجاجي الذي خاضوه أمام مركز الجزيري يوم تدشينه بجربة.