قبل الشروع في كتابة هذه الأسطر، نفذت هيئة الانتخابات حملة هرسلة على بعض وسائل الإعلام المكتوبة والإذاعية عبر توجيه مراسلات للتنبيه عليها بعدم “التشكيك في المسار الانتخابي والإساءة لهيئة الانتخابات”، وعندما الإطلاع على المواد الصحفية موضوع التنبيه اتضح أنها مجرد مقالات رأي أو تحليل صحفي أو مداخلات إذاعية تنتقد المسار الانتخابي وهيئة الانتخابات ولا تتضمن أي خرق للقانون أو لقواعد التغطية الصحفية. أي أن هيئة الانتخابات تبذل جهودا جبارة في تتبع مقالات الصحفيين، عوض بذل الجهود لتلافي تقصيرها في إشاعة المصداقية حول قراراتها وتصريحات أعضائها.
تنازع الصلاحيات بين هيئة الانتخابات والهايكا
دأبت كلّ من هيئتَي الانتخابات والسمعي البصري فيما مضى على إصدار قرارات مشتركة تحدّد قواعد إجراء الحملة الانتخابية عبر وسائل الإعلام. لكن الخلاف بين الهيئَتَين أدّى هذه المرة إلى إصدار كلّ منهما قرارًا منفردًا.
حيث أصدرت الهيئة العليا المستقلة للإتصال السمعي البصري قرارا توجيهيا بتاريخ 16 نوفمبر حول تغطية الحملة الانتخابية، أشارت فيه إلى وجود “بعض الاختلافات في وجهات النظر بين الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري والهيئة العليا المستقلة للانتخابات حول التمشي الذي يؤدي إلى صياغة القرار المشترك الضامن لقيم التعدد والتنوّع وحق النفاذ إلى وسائل الاعلام”. وتستند الهايكا في موقفها إلى الباب الرابع من المرسوم 116 الصادر في 2 نوفمبر 2011.
من جهتها، اختارت هيئة الانتخابات هذه المرّة الاستحواذ على صلاحيات الهايكا عبر قرارها عدد 31 لسنة 2022 المؤرخ في 18 نوفمبر الجاري، والذي يضبط القواعد والشروط التي يتعين على وسائل الإعلام التقيد بها خلال الحملة الانتخابية وحملة الاستفتاء. عبر هذا القرار، أعلنت هيئة الانتخابات ولايتها الكاملة على الشأن الانتخابي دون سواها استنادا على الفصل 134 من دستور 2022، رغم تمسك “الهايكا” بصلاحياتها وإصدارها بيانا في 19 نوفمبر، معتبرة قرار هيئة الانتخابات توجها خطيرا يهدد شفافية التغطية الإعلامية للانتخابات ونزاهتها وسلامتها في خرق صارخ للدستور والقانون.
شرعية قيس سعيد على المحك
يجمع المتابعون للشأن العام وخاصة المسار الانتخابي منذ الحملة الانتخابية لاستفتاء 25 جويلية 2022 إلى حدود انتخابات 17 ديسمبر أن هيئة الانتخابات كانت أحد أبرز نقاط ضعف “المسار التصحيحي” الذي أعلنه الرئيس قيس سعيد قبل سنة من الآن. ضعف كبير في نسب المشاركة (حوالي 11%) وانعدام القدرة على تحسيس الناخبين وتشجيعهم على التصويت، من الطبيعي أن نفسر نسبة المشاركة الهزيلة بالمسار الانفرادي الذي اتخذه قيس سعيد وعدم قدرته على إصلاح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية مع غلاء الأسعار والمعاناة اليومية الذي يتعرض له المواطن من أجل الظفر بالحليب والسكر والوقود، ولكن هيئة الانتخابات تتحمل جزءًا من المسؤولية من خلال تصريحاتها المتضاربة وعدم قيامها بدورها. صحيح أن الانتخابات السابقة كانت مليئة بالتجاوزات عبر تسللّ المال السياسي والتأثير على الناخبين من خلال وسائل الاعلام، لكن تجمع المنظمات المعنية بملاحظة الانتخابات أن 17 ديسمبر هو تاريخ أسوأ انتخابات عاشتها تونس بعد الثورة.
رغم الإجماع الحاصل حول ضعف نسب التصويت وعدم تمثيلية البرلمان القادم للشعب التونسي ومطالبة قيس سعيد بالتراجع عن مساره الانفرادي، إلا أن السلطة -ومعها هيئة الانتخابات- خيّرت الهروب إلى الأمام ومواصلة نهج الهجوم واعتماد نظرية المؤامرة واتهام كل من يقدم قراءة لنتائج الانتخابات وتأثيرها على الوضع السياسي بالتآمر وخدمة أجندات معادية للشعب والوطن.
وهنا تقتضي القراءة الموضوعية لمنعرج 25 جويلية القول إن هذا المسار بلغ مداه ولا يستجيب لتطلعات التونسيين ولم يقدم حلولا للوضع الاقتصادي والاجتماعي المتردي ولم ينجح في وضع حياة سياسية سليمة قائمة على التعددية والمشاركة السياسية وحرية الرأي والتعبير والتنظم، ولم يحقق العدالة والمحاسبة وواصل في نهج تكريس الإفلات من العقاب فضلا عن التباين الكبير بين تصريحات رئيس الدولة عن مجتمع القانون وضمان الحريات والممارسات القمعية ومحاكمات الرأي وارتفاع نسب انتهاكات حقوق الانسان.
كل ما تقدم يستوجب من السلطة القيام بخطوة إلى الوراء ومراجعة مسارها وطريقة تعاطيها العبثية مع الشأن العام، وهذا غير متاح للأسف نظرا لاعتماد الرئيس سياسة الهروب إلى الأمام. حتى مطالبة داعميه قبل معارضيه بتنظيم انتخابات رئاسية مبكرة لم تلقَ القبول منه حسب تصريح زهير المغزاوي، الأمين العام لحركة الشعب، التي تعتبر أبرز داعمي رئيس الجمهورية. وهو ما يعني أن الرئيس ماض في مشروعه دون اعتبار، كالعادة، للأصوات المخالفة والمنبهة من خطورة هذا المسار الانفرادي الهلامي على الدولة والمجتمع، أي أنّ البلاد التي تنتظرها تحديات اقتصادية واجتماعية خطيرة من المنتظر أن يواجهها رئيس منعزل تماما عن الواقع وعن المشهد السياسي المحلي والإقليمي والدولي.
عبث انتخابي
لا تبتعد إدارة العملية الانتخابية عن إدارة “مسار التصحيح” الذي أطلقه الرئيس قيس سعيد في 25 جويلية 2021، فقد اتسمت بالارتجال والقرارات غير المدروسة فضلا عن وجود قانون انتخابي ساهم في إقصاء جزء هام من التونسيين من الترشح للانتخابات بسبب التقسيم الجديد للدوائر الانتخابية وشروط الترشح المجحفة، وهو ما وضعنا اليوم إزاء دوائر انتخابية بلا مترشحين فضلا عن دوائر انتخابية أخرى بمرشح وحيد ودون منافسة انتخابية في ظل تسجيل رقم قياسي من حيث أضعف نسبة مشاركة في التصويت. وغابت مظاهر الاستعداد للانتخابات عن الشارع التونسي خلافا للاستحقاقات الانتخابية السابقة التي تميزت بالحركية والتنافس الشديد، فباستثناء بعض المترشحين الذين يقومون بحملاتهم عن طريق الاتصال المباشر والتجول في الأسواق والأحياء، لا يمكن لأي متجول في الشارع أن يدرك أن البلاد عاشت حملة انتخابية تشريعية أرادتها السلطة مصيرية ومحددة في تاريخ البلاد.
منذ إعلان الرئيس قيس سعيد عن خارطة الطريق للخروج من الإجراءات الاستثنائية إلى النظام السياسي الجديد، طالبت القوى السياسية، المعارضة لقيس سعيد والموالية له، ومنظمات المجتمع المدني فضلا عن الدول الكبرى -خاصة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وبقية الدول السبع- بضرورة إصدار قانون انتخابي يضمن المشاركة الواسعة للناخبين والقوى السياسية. إلا أن قيس سعيد واصل في نفس التوجه الانفرادي في صياغة المراسيم والتشريعات، وصاغ دستورا بمفرده دون استشارة القوى السياسية والمدنية، وفرض قانونا انتخابيا على الأفراد على دورتين وغيّر تركيبة هيئة الانتخابات التي فشلت في إقناع التونسيين بالمشاركة في الانتخابات وفشلت حتى في إثبات مصداقيتها للرأي العام خاصة من خلال التصريحات والأرقام المتضاربة حول الانتخابات ونسب المشاركة، فضلا عن انتهاجها منهج التبرير المضحك للأرقام الهزيلة بخصوص نسبة المشاركين في التصويت.
كانت انتخابات 17 ديسمبر وفية لما سبقها من مسار انفرادي وقرارات عبثية اتخذتها السلطة منذ 25 جويلية 2021، زادت هيئة الانتخابات من تشويهها عبر الارتجال والتهديد والتصريحات والأرقام المتضاربة التي رفعت الناس للتشكيك في مصداقيتها، وهي أيضا انتخابات فتحت المجال أمام التشكيك في شرعية الرئيس قيس سعيد ومطالبته بالتنحي عن منصبه وتنظيم انتخابات سابقة لأوانها والقطع مع يعتبره الرئيس مسارا لتصحيح التاريخ.
iThere are no comments
Add yours