عقب الإجلاء الفرنسي للناشطة الجزائرية التي استنجدت بها بصفتها حاملة لجواز سفر فرنسي، سد درك الحدود الجزائري المنافذ على عشرات التونسيين العائدين إلى تونس محملين سلعا جزائرية. في مرحلة أولى، بدأت تونس بترميم الصدع الذي يهدد علاقتها بالحليف الأساسي للرئيس قيس سعيد، بإقالة وزير الخارجية عثمان الجرندي الذي احتفظ بمنصبه مدة ثلاث سنوات، بعد يوم من قضية أميرة بوراوي، لحقتها مكالمتان هاتفيتان رسميّتان في أقل من أسبوع، بين نبيل عمار وزير الخارجية الجديد ونظيره الجزائري رمطان لعمامرة، وبين الرئيسين قيس سعيد وعبد المجيد تبون، إضافة إلى لقاء جمع بين عمار والسفير الجزائري عزوز باعلال يوم 10 فيفري الجاري، تلاه لقاء آخر مع وزير خارجية الجزائر رمطان لعمامرة في القاهرة بعد يوم من لقائه مع السفير الجزائري.
وبعد مرور قرابة أسبوع على قضية الناشطة المعارضة أميرة بوراوي، أرسلت الجزائر تطمينات إلى تونس بخصوص علاقة البلدين، بدأت حين تدخل الرئيس الجزائري الجمعة 10 فيفري موصيا بـ”بعدم إزعاج وعرقلة المواطنين التونسيين الأشقاء في مراكز العبور الراغبين في الدخول أو الخروج من وإلى الجزائر”.
أمر رئاسي تلاه تصريح لمحمد بوسليماني وزير الاتصال الجزائري السبت 11 فيفري، اتهم فيه فرنسا بتعمد ضرب العلاقة بين تونس والجزائر باستعمال قضية أميرة بوراوي، قائلا إن “العلاقات الجزائرية التونسية متينة خاصة في السنوات الثلاث الأخيرة، ولن تزعزعها شطحات إعلامية معلومة الأهداف لوسائل الإعلام الفرنسية التي لم يرق لها ولا لعرّابيها أن تكون الجزائر سيدة قراراتها والجزائر اختارت أن تكون بجانب تونس بكل ما تحمله الكلمة من معنى”.
زيارات متكررة وملايين الدولارات عربون القرب
في أقل من عام، تحصلت تونس على قرض وهبة من الجزائر بقيمة 600 مليون دولار أي ما يعادل 1870 مليون دينار تونسي، وذلك بعد حصولها يوم 9 ديسمبر 2021 على قرض بقيمة 300 مليون دولار من الجزائر تلاه قرض آخر وهبة قدمتها الجزائر إلى تونس في ديسمبر الماضي بقيمة 300 مليون دينار أخرى، قبلها عاد الرئيس التونسي من الجزائر بعد أول زيارة رسمية يؤديها منذ انتخابه على رأس السلطة، بوديعة قيمتها تعادل 470 مليون دينار.
في فيفري سنة 2021، أعلنت الحكومة الجزائرية عن إرسال 11 طنا من المساعدات الطبية إلى قرية ساقية سيدي يوسف الحدودية في أوج انتشار وباء كوفيد 19، تزامنًا مع ذكرى الاعتداء على الساقية سنة 1958، لترسل في أوت 2021 قرابة 200 ألف جرعة من التلقيح المضاد لفيروس كورونا.
منتصف ديسمبر من العام ذاته، وقعت تونس والجزائر على 27 اتفاقية تعاون بينهما في مجالات متعددة مثل الأمن والقضاء والطاقة والصناعة والإعلام، وهي حصيلة أول زيارة يقوم بها الرئيس عبد المجيد تبون إلى تونس في ديسمبر 2021 منذ انتخابه رئيسا. زيارة ردّها متأخرا على زيارة الرئيس التونسي التي أدّاها بداية فيفري 2020 وكانت الجزائر أولى محطاته الرسمية آنذاك.
منذ انتخابه رئيسا لتونس، كان خيار قيس سعيد واضحا في علاقة بالجزائر. فالجارة الغربية تعاملت بشيء من الحذر مع الوضع السياسي الجديد في تونس بعد 2011، لكن بوصول تبون وسعيد إلى الحكم أواخر 2019، سعت تونس إلى استرجاع حسن علاقتها مع الجزائر، لاعتبارات تاريخية واجتماعية وأمنية.
قبل أن يطير سعيد إلى العاصمة الجزائرية، أوفد رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد مصحوبًا برئيس الديوان الرئاسي يوم 8 نوفمبر 2019، ما أثار حفيظة حزب الشاهد تحيا تونس ، معتبرا حضور رئيس الحكومة ضمن وفد يترأسه مدير الديوان الرئاسي سابقة تاريخية لم تحصل منذ 2011 حسب ما ذكره بعض قيادات حزب تحيا تونس. الشاهد صرح حينها أنّ ” زيارته لم تكن مبرمجة ولكنها جاءت بإصرار من الرئيس قيس سعيد وبتكليف منه لتبليغ رسالة صداقة ومودة للشعب والقيادة الجزائرية”.
أصبحت الجزائر فعليا الجدار المتين الذي استند عليه سعيد بكل ثقله منذ اتخاذ ما يسميه التدابير الاستثنائية في 25 جويلية 2021، رغم توجّس الجزائر في البداية من ارتدادات الازمة السياسية في تونس على أمنها القومي، قبل أن تحسم موقفها حين صرح الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون بعد أقل من ثلاثة أشهر على استحواذ قيس سعيد على كل السلطات: “يبدو أن الأمور دستورية عندهم، ونشهد للرئيس قيس سعيد أنه إنسان مثقف وديمقراطي ووطني إلى النخاع، ولا يمكن أن نحكم عليه بشيء آخر”، مضيفًا أنّ “الذي يمس تونس يمسنا، إننا نحرم على أنفسنا التدخل في أمور تونس الداخلية، ومن يهدد أمنها سيجدنا بالمرصاد”.
نقاط استفهام الملف الليبي والتنسيق الأمني
تكثفت الزيارات رفيعة المستوى بين البلدين منذ نهاية العام 2021، بدأت بأول زيارة رسمية للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون مرفوقا بوفد وزاري منتصف ديسمبر 2021، وهي أولى زياراته إلى تونس منذ صعوده إلى الرئاسة، سبقتها زيارة وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة إلى تونس بعد يومين من إجراءات قيس سعيد، إضافة إلى المكالمات الهاتفية الرسمية بين الرئيسين ووزيري الخارجية يومي 24 و 25 جويلية 2021. خلال اجتماع دول جوار ليبيا، التقى الجرندي بلعمامرة في الجزائر كما أدّت رئيسة الحكومة التونسية نجلاء بودن زيارة للجزائر آخر نوفمبر من نفس السنة.
حمل المسؤولون التونسيون والجزائريون خلال زياراتهم المتبادلة والمتكررة مطالب معينة كل من جانبه. فقد وضع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون خلال زيارته إلى تونس في ديسمبر 2021، الملف الليبي على طاولة حديثه مع الرئيس التونسي وهو الملف ذاته الذي حمله أيضا وزير خارجيته رمطان لعمامرة في أكثر من لقاء مع نظيره التونسي. أما الجانب التونسي فكان يطمح إلى إسناد جزائري للخروج من الأزمة الاقتصادية، خاصة بعد توقف تدفق السياح الجزائريين إلى تونس طيلة أكثر من عام ونصف. تطلّع قيس سعيّد أيضا إلى ضمانات بتواصل دعم الجزائر بالغاز في ظل الأزمة العالمية بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، غير أن تلك التطلعات كانت رهينة تبعية غير معلنة للجزائر.
في النصف الأول من العام 2022، ساد شيء من الفتور العلاقات الجزائرية التونسية، خاصة أن الجزائر واصلت إغلاق حدودها البرية مع تونس إلى غاية جويلية 2022 بتعلة فيروس كورونا، قبل قرار إعادة فتحها يوم 4 جويلية الماضي عقب زيارة ثانية لسعيد إلى الجزائر. فتور سبقه الغموض المتعلق بالتنسيق الأمني بين البلدين، ففي أوت 2021 سلمت تونس لجارتها المعارض الجزائري سليمان بوحفص اللاجئ بتونس. ورغم شهادات جيران بوحفص بمنطقة حي التحرير بالعاصمة، التي تحدثت عن اختطاف الرجل على طريقة العصابات، فإن السلطات في تونس التزمت الصمت. صمت تواصل رغم البيانات الحقوقية التي اعتبرت الامر سابقة خطيرة في ضرب حق اللجوء، حتى أن وفد رابطة حقوق الانسان الذي طلب توضيحات من الرئيس فوجئ بوعد الرئيس فتح تحقيق في موضوع لا علم له به.
هذه العملية تزامنت مع القبض في الجزائر على الشقيقين نبيل وغازي القروي الفارين من العدالة التونسية. أغلب القراءات ذهبت وقتها إلى أن التنسيق بين البلدين سيؤدي إلى تسليم الاخوين القروي بعد تسليم بوحفص. إلا أن الجزائر أطلقت سراح الاخوين القروي ليظهرا بعد ذلك بصدد التجول بحرية في اسبانيا ثم فرنسا. حادثة أخرجت الجزائر في صورة المهيمن على التعاون الاستخباراتي، قراءة أكدها قبض الجزائر على الأزهر لونقو، المدير السابق للمخابرات التونسية في جويلية 2022، أثناء محاولته الفرار وتسليمه إلى تونس بعد أيام من التحقيق داخل الجزائر.
تقارب وتنسيق أم تبعية مشروطة؟
أواخر ماي الماضي، وضع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون خلال لقائه مع الرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريلا ملفّ العلاقات التونسية الجزائرية على الطاولة من جديد في تصريح بشأن الوضع السياسي التونسي. وبدت ملامح انشقاق واضح بين الدولتين حين صرح تبون لنظيره الإيطالي بأن “الجزائر وإيطاليا مستعدتان لمساعدة تونس على تجاوز المأزق الراهن والرجوع إلى الطريق الديمقراطي”، وهي رسالة تفيد بتغيّر موقف الجزائر تجاه تمشي الرئيس التونسي الباحث عن فك عزلته الدبلوماسية. تبون طرح خلال لقائه مع ماتاريلا ملف ليبيا أيضا بالقول إن الجزائر وإيطاليا مستعدتان لإيجاد حل للوضع الليبي وبصفتهما “الدولتان الوحيدتان اللتان ليست لهما أي مصلحة في ليبيا”.
هذا التقارب الجزائري الإيطالي على حساب تونس، كان يتجه حينها نحو الاتفاق على خط أنبوب غاز جديد يربط البلدين دون أن يكون له مسار يشق تونس. هذه الرسالة مردّها غضب الجزائر الداعمة لحكومة عبد الحميد الدبيبة المنتهية في ليبيا، والتي دفعت تونس نحو الاعتراف بتلك الحكومة وإصلاح خطئها باستقبال فتحي باشاغا الذي أعلن برلمان الشرق الجزائري عن انتخابه رئيسا للحكومة في ليبيا. وكان باشاغا قد أقام قرابة ثلاثة أسابيع في تونس في مارس الماضي، حيث أعلن عن تشكيل حكومة الاستقرار معتبرا أنها تجسيد لاتفاق الصخيرات الذي رعته المغرب في العام 2015. وجاء رد تونس سريعا باجتماع ضمّ نجلاء المنقوش وزيرة الخارجية الليبية في حكومة الدبيبة ونظيريها رمطان لعمامرة وعثمان الجرندي بحضور قيس سعيد يوم 11 جوان الماضي. وتلى ذلك الاجتماع بعد أقل من شهرين، إعلان الجزائر عن استعدادها لترفيع صادراتها من الكهرباء إلى تونس، رغم أن تقارير إعلامية تحدثت صراحة عن عودة قيس سعيد خائبا من آخر زيارة له إلى الجزائر وفشله في الوصول إلى اتفاق يضمن استفادة تونس من المفاوضات الثلاثية بين الجزائر وإيطاليا وليبيا، في علاقة بخط الغاز الجديد.
أزمات تونس الاقتصادية والسياسية مثلت مدخلا لتقارب تونس مع الجزائر في قضايا اقليمية كقضية الصحراء الغربية. فاستقبال الرئيس التونسي في أوت الماضي زعيم جبهة البوليساريو إبراهيم غالي خلال القمة الفرنكوفونية، أثار جدلا واسعًأ، وهو أول خروج صريح عن الحياد التونسي تجاه هذه القضية. موقف أدخل تونس والمغرب فيما يشبه دوامة التراشق بالبيانات الرسمية.
وتواجه خيارات تونس في علاقة بالجزائر انتقادات من معارضي قيس سعيد. انتقادات تتهم سعيد بالسماح للجزائر بانتهاك سيادة تونس، خاصة بعد تصريح خبير جزائري قال فيه إن تونس “ولاية جزائرية”. ورغم اعتذاره بعد الاحراج الذي خلفه تصريحه، فإن الاحداث المتسارعة بين البلدين منذ 25 جويلية 2021 أظهرت عدم التوازن في العلاقة التونسية الجزائرية، رغم التضارب الذي تنتجه خطابات سعيد الحماسية حول السيادة الوطنية والعلاقة الندية مع الخارج، على قاعدة المصالح العليا لتونس.
iThere are no comments
Add yours