عبد المجيد تبون وقيس سعيد. الاثنين 4 جويلية 2022، الجزائر.

شهدت العلاقات التونسية الجزائرية خلال الفترة الماضية فتورا بعد فترة من الاتصالات المباشرة والزيارات الرسميّة التي تواصلت على مدى الأشهر الأولى التي تلت اتّخاذ الرئيس التونسي قيس سعيد للإجراءات الاستثنائيّة. ففي شهر ماي الماضي، أشار الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون خلال زيارته لروما إلى اتفاق بين الجانبين الإيطالي والجزائريّ لمساعدة تونس على تجاوز المأزق الذي وقعت فيه والعودة إلى المسار الديمقراطيّ، خلال الندوة الصحفية التي انعقدت في العاصمة الإيطالية. هذه التصريحات سعت عديد الأطراف الرسميّة الجزائريّة إلى توضيح فحواها على أنّها لا تُعدّ مسًّا باستقلاليّة القرار الوطني التونسيّ.

يُمكن قراءة هذا التوجه كأحد ملامح التخوّف الجزائريّ من خضوع استراتيجي لتونس في اتجاه تحالفات إقليميّة لا تُرضي صانع القرار الجزائريّ. كما أن عديد الأوساط التونسيّة من جهة أخرى لا تخفي بعض التوجّس من زيارة وزير الخارجيّة الأمريكي أنتوني بلينكن إلى الجزائر يوم 30 مارس الماضي، بل ونظرت إلى تصريحات تبون في روما ضمن سياق تفاهمات جزائريّة أمريكية قد يتعلق بعضها بالملف التونسي تحديدا. ضمن هذا الإطار، أتت دعوة الرئيس الجزائريّ لنظيره التونسي بمناسبة الاحتفالات بعيد الاستقلال الجزائريّ كمحاولة من الجزائر لفهم أعمق للسياق التونسي الحالي قبيل استفتاء 25 جويلية ولسبر الموقف التونسي من بعض التحولات الإقليمية التي تعتبر الجزائر معنيّة بها بشكل رئيسي.

 

مناورات الأسد الإفريقي

 

انتظمت خلال شهر جوان الماضي مناورات الأسد الإفريقي 2022 بإشراف القيادة العسكريّة الأمريكيّة لإفريقيا “أفريكوم” والتي شملت مناورات لاثنين وعشرين تمرينا لقيادة القوات العمليّة المشتركة بمشاركة أكثر من 7000 عسكري من عديد الدول الإفريقية والأوروبية، من بينها تونس والمغرب، استضافت أراضيهما عددا من العمليّات، تمّت إحداها يوم الثلاثاء 21 جوان في منطقة “كراير البيهي” بجهة المحبس على الحدود الجزائريّة المغربية قرب تندوف، والتي دارت فيها مناورات بالمدفعيّة الثقيلة وقصف بواسطة نظام صواريخ المدفعية ذاتي الحركة “هيماريس” التابع للجيش الأمريكي، وعربات “الهاوتزر” القتاليّة ذاتيّة الحركة التابعة للقوات المسلّحة المغربيّة.

لم تكن درجة الاقتراب من الحدود الجزائرية هي الهاجس الوحيد، إذ أن العنصر الأهم في سلم المخاطر بالنسبة إلى الجزائريّين تمثّل في الحديث عن مشاركة عسكريين من جيش الاحتلال الاسرائيلي لأول مرة في هذه المناورات، حسب تقرير لوكالة أسوشايتد برس الأمريكية، رغم نفي عديد المصادر الأخرى لذلك، بعد أكثر من عام ونصف من تطبيع العلاقات بين المملكة المغربية وإسرائيل.

هذا التخوّف الجزائريّ من الحضور الإسرائيليّ على الحدود الغربيّة بدأ في التحول كذلك تجاه الحدود الشرقيّة. إذ تعبّر عديد الأوساط الجزائريّة عن قلقها الصريح من محاولات إسرائيليّة لاختراق الساحة التونسيّة حاليا، استدلالا بعديد المؤشرات، من بينها مشاركة وزير الدفاع التونسي في قمة عسكريّة لحلف الناتو إلى جانب وزير الدفاع الإسرائيلي يوم 26 أفريل الماضي بمدينة رامشتاين الألمانيّة. كما تحدث الأمين العام للاتحاد العام التونسيّ للشغل نور الدين الطبوبي في المؤتمر العادي للاتحاد الجهوي بالقيروان يوم 21 جوان عن وجود “حملات تقوم بها صفحات على شبكات التواصل الاجتماعيّ وتقودها روبوتات إلكترونية من اللوبي الصهيوني والمخابرات الأجنبية، باطنها مصالح جيوسياسيّة تتعلّق بمحاور إقليميّة، تونس اليوم جزء لا يتجزأ منها، خاصة بعد تطبيع المغرب مع الكيان الصهيوني، في مساع لإخضاع تونس للتطبيع محاصرة للجزائر”.

من الواضح أيضا أن التقارب الذي تحققه منظومة ما بعد 25 جويلية مع مصر والسعودية والإمارات يثير قلق الجزائر في عدد من الملفات الإقليميّة، خصوصا الملف الليبي الذي تقف فيه الجزائر بشكل واضح مع حكومة عبد الحميد الدبيبة. كما تشير بعض الآراء في الجزائر إلى أنّ هذا المحور قد يدفع بتونس بشكل تدريجيّ إلى خندق التطبيع مستغلّا الأزمة الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تمرّ بها البلاد رغم تأكيد الرئيس التونسي مرارا أنّ التطبيع خط أحمر وإعلان وزارة الخارجيّة في عديد المناسبات، آخرها في شهر جوان الماضي، من أن تونس غير معنيّة بإرساء علاقات دبلوماسية مع إسرائيل كإجابة عن بعض التقارير الصحفية التي تحدثت عن وجود اتصالات دبلوماسيّة بين الجهتين.

 

إغلاق الحدود ثم فتحها: الفرج بعد الشدة

 

أثار إغلاق الحدود بين تونس والجزائر في 16 مارس 2020 سيلا من الانتقادات على اعتبار أن الحجة التي كان دائما ما يتمّ اعتمادها، وهي الوضع الصحي في تونس نتيجة انتشار وباء كورونا، أضحت غير مقنعة بعد تراجع الموجات الوبائيّة إلى حدّ بعيد. ورغم تواصل حالة الغموض حول الأسباب الحقيقية وراء الإجراء، إلا أن استقراء عديد المؤشرات على المستوى الاستراتيجي والسياسي والاقتصادي، خصوصا من الجانب الجزائريّ، قد تسمح لنا بفهم مجمل العوامل الدافعة إلى استمراريّة هذا الوضع.

من الناحية الإستراتيجيّة، وكما أشرنا آنفا، هناك تخوّف جزائريّ حقيقيّ من توجه تونسي مستقبلي نحو التطبيع، لذلك ربما تكون ورقة الحدود إحدى العناصر التي يمكن بها الضغط على الجانب التونسي لمراجعة أيّ تمشّ جديد قد ترى فيه الجزائر تهديدا للمعادلة الإقليميّة الحاليّة. يُضاف إلى ذلك اختلاف وجهات النظر بين تونس والقيادة الجزائريّة حيال عدد من القضايا، كقضية الصحراء الغربيّة التي تحاول تونس أن تتخذ فيها موقفا براغماتيّا لا يُعادي الطرف المغربيّ، وهو ما لا يرضي الجزائر حاليا.

كما تشير بعض التقارير إلى انزعاج جزائريّ من التقارب التونسي المصريّ، ومن بينه تأييد الرئاسة التونسية بشكل تامّ للموقف المصريّ من قضية سدّ النهضة، وهي نفس القضية التي كان فيها للجزائر رأي مختلف تماما. أما على مستوى العلاقات الثنائيّة، فتشكل طريقة إدارة قيس سعيد للحكم في تونس حاليا مصدر شكّ للنظام الجزائري حول مدى ضمانه للاستقرار السياسي المطلوب داخليا على مدى أبعد، وهو ما أثر على الموقف الجزائري الذي حاول في مرحلة سابقة الاستفادة من المسار الحالي.

اقتصاديّا، تسعى الجزائر إلى توظيف غلق الحدود لدفع السياحة الداخليّة وتطويرها، حيث بلغ عدد السياح الجزائريّين الذين زاروا تونس ثلاثة ملايين سائح سنة 2019، أضحت الشواطئ والمناطق السياحية الجزائريّة وجهة أغلبهم اليوم. إلا أن عديد الصعوبات تمنع الجزائر من الاستفادة الكاملة من ذلك، من بينها أساسا التقاليد العريقة التي تمتلكها تونس في القطاع السياحي وتنوع المنتوج، وغلاء تكلفة الإقامة بالنزل الجزائريّة. وقد كان أثر غياب السوق الجزائريّة واضحا على السياحة التونسيّة حيث أعلن المجلس الوطني للجامعة التونسيّة للنزل في اجتماعه يوم الخميس 30 جوان عن غياب موسم سياحيّ لهذه السنة، مبرزا أن تواصل غلق الحدود التونسية الجزائريّة كان من أهم الأسباب التي ساهمت في ذلك. هذا فضلا عن تراجع السياحة الاستشفائية في تونس التي كانت تستقطب عددا كبيرا من الجزائريّين في السنوات الماضية.

ويتمثل أحد الأهداف الأخرى، التي يبدو أن الجزائر تسعى إليها من خلال غلق الحدود، في تعزيز احتياطي العملة الأجنبيّة لديها، سواء المبالغ التي كان من المفترض أن يحملها السياح الجزائريون إلى تونس بالعملة الصعبة، أو منع شبكات التهريب من نقل عدد من المواد المدعّمة مثل الوقود، أو بعض المواد الغذائيّة التي تشتريها الجزائر بالعملة الصعبة كالقمح مثلا، وهو ما مكّن حسب مصادر جزائريّة من استقرار أسعار بعض هذه المواد داخليا.

إلا أن تواصل غلق الحدود يحيل على جملة من التداعيات السلبيّة على كلا البلدين يمسّ أبرزها لمّ الشمل بين العائلات التي يتوزع أفرادها على طرفي الحدود، حيث ارتفعت تكلفة الرحلات الجوية بين تونس والجزائر (وصل سعر التذكرة بالطائرة إلى 1200 دينار تونسي) مقارنة بالتنقل البري الذي كان أقل كلفة من الناحية المادية. كما أثر الوضع الحالي سلبا على المناطق الحدودية التونسية والجزائريّة على حدّ السواء وساهم في ركود اقتصاديّ بارز للعيان ضمن القرى والبلدات التي تقع ضمن مناطق العبور، مسّ بشكل خاص أصحاب المشاريع الصغرى والأطراف المشتغلة في “الترانزيت” الحدودي مثل أصحاب الشاحنات وسيارات الأجرة. وهو ما دفع السكان في هذه المناطق للقيام بوقفات احتجاجيّة للتعبير عن رغبتهم في إعادة فتح المعابر وعودة شريان الاقتصاد الحدودي إلى سابق عهده.

بذلك تتنزل زيارة قيس سعيد إلى الجزائر ضمن معادلة أعمق، لا تنحصر فقط في ملف العلاقات الثنائيّة، بل تبلغ مدى إقليميّا شاملا. فاحتفالات الجزائر باستقلالها هذه السنة أخذت إطارا يشبه القمة المصغرة، بحضور الرئيس الفلسطيني محمود عباس ووفد عن حركة حماس يرأسه إسماعيل هنية إضافة إلى عدد من قادة الدول من بينهم الرئيسة الأثيوبية ورئيس الكونغو. التواجد الفلسطيني في الاحتفالات بشقَّيه، يعبّر عن الموقف الجزائري الصريح من التطبيع والتأكيد على دعم القضية الفلسطينية قبيل زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى منطقة الشرق الأوسط. أما عن دعوة الرئيس التونسي والأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي ففيها جوانب متعددة من الأهمية، أرادت بها الجزائر أن تكون محمّلة بالعديد من الرسائل، بداية من الاستقبال اللافت للرئيس التونسي وإشراف الرّئيسين على تدشين “معلم الحرية” في منطقة سيدي فرج بالعاصمة الجزائر، وهو المكان الذي دخلت منه أولى كتائب الجيش الفرنسي سنة 1830 ثمّ رُفع فيه العلم الجزائري عند الإعلان عن الاستقلال في 5 جويلية 1962. وفي الحدث نوع من التأكيد على رمزية النضال المشترك بين الشعبين ضدّ المستعمر الفرنسي.

إلا أن عديد القضايا الراهنة ستكون محاور للنقاش بين الجانبين، من بينها الموقف من الأزمة الليبية ومستقبل العملية السياسية في البلاد، وتوضيح الموقف التونسي من موجة التطبيع، فضلا عن دور جزائري مفترض في التوسط بين رئاسة الجمهورية التونسية والاتحاد العام التونسي للشغل وتجديد المباحثات في الملف الطاقي بين البلدين، الذي يعاني من إشكاليات تبقى في انتظار حل سياسي.