مع تزايد الهمجيّة الصهيونية خلال عدوانها على قطاع غزّة، تتزايد مساعيها لطمس الحقيقة وتقديم رواية جيشها المحتّل إلى العالم بلعب دور الضحيّة مستفيدة من تبنّي الحكومات الغربية وجزء من الرأي العام لسرديّتها. وهنا، ولأنّ المعركة لا تقتصر على السلاح، بل أيضا على كشف الحقيقة وتعرية الجرائم الصهيونية وفضح وجهها الحقيقيّ، يقف الصحافي الفلسطيني جنبا إلى جنب مع المقاومين للعب دور لا يقلّ أهميّة عن دورهم ويدفع الصحفيّون الفلسطينيّون يوميا الثمن من دمائمهم. في هذا السياق، حاورت نواة الصحفي الفلسطيني والمدرّب في الصحافة الاستقصائية والقصة الصحافية واخلاقيات الإعلام، الأستاذ فتحي صباح لينقل لنا من قلب غزّة صورة عن جرائم الاحتلال ومعاناة الصحفيّين الفلسطينيّين خلال هذا العدوان.

كيف تصف الوضع العام والإنساني في غزة؟

دعني أخبرك أمرا قد يبدو غريبا بعض الشيء. اليوم تعجز اللغة العربية عن وصف المشهد والتعبير عما يجري في قطاع غزة من دمار. كلمة مأساوي غير كافية. كيف نسمي عمليات القتل الوحشية. أظنّ أن أكثر مصطلح مناسب هو الإبادة الجماعية وهو المصطلح الأدّق. هي ليست جرائم حرب بل إبادة جماعية أو تطهير عرقي. إضافة إلى القصف والقتل نحن نعيش بلا ماء و كهرباء بعد أن قطع الكيان المحتّل امداداتهما وشدّد خنقه للشعب الفلسطيني في غزة بإغلاق المعابر. قطاع غزة منطقة سكانية صغيرة جدا جغرافيا مساحتها 365 كم² وقد هجّروا كلّ سكان المنطقة الشرقية والشمالية الواقعة مع حدود فلسطين المحتلة سنة 1948. الحدود الشرقية طولها تقريبا 45 كم. لمسافة كم أو كيلومترين. أي نحن، كما أجبروا سكان شمال غزّة ومدينة غزة على النزوح، نتحدث هنا عن عملية تهجير جماعي لثلثي مساحة القطاع. أصبح الآن 2 مليون نسمة تقريبا موجودين في جنوب القطاع في مساحة لا تزيد عن 120 كم² دون ماء أو كهرباء أو غذاء أو أي نوع من الخدمات. هناك آبار ارتوازية، ولكنها لا تكفي، لذلك نستورد الماء من الكيان الصهيوني الذي في الأساس هو من يسرق مياهنا.

لو ننتقل الى مستشفيات القطاع، هل يمكن أن تقدّم لنا صورة عن واقع المنظومة الصحيّة الآن وبعد 10 أيّام من القصف والحصار التّام ومنع دخول المساعدات من مواد طبية وأدوية؟

لدينا فقط 3 مستشفيات كبيرة، بمقاييسنا نحن هي مستشفيات كبيرة، ولكن في الواقع وبالمعايير العالمية هي مستشفيات صغيرة جدا. هناك مستشفى الشفاء في مدينة غزة، مستشفى ناصر على اسم الزعيم المصري والعربي الراحل جمال عبد الناصر في مدينة خان يونس إضافة إلى المستشفى الأوروبي الواقع بين رفح وخان يونس. هذا المستشفى قريب من الحدود وهي منطقة خطرة كما تعرضت بوابته لقصف الطيران الصهيوني. وهناك عدد من المراكز الصحية المجتمعية الصغيرة إضافة إلى عدد من العيادات التي تشغّلها الأنروا وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيّين. منذ 3 أو 4 أيام نفذت كلّ الاسرّة في مستشفيات قطاع غزّة رغم استمرار قوافل الشهداء والجرحى حتّى اللحظة. ويتمّ إعادة الجرحى الذين حالتهم فوق المتوسّطة إلى بيوتهم لإفساح المجال لغيرهم ممن يعانون جراحا خطيرة، كما تمّ نصب خيام لإيواء الشهداء والجرحى أيضا.  هذا ولم يبق متّسع في ثلاّجات حفظ الموتى، لذلك صار الشهداء يوضعون في ثلاجات الآيس كريم والبرادات الغذائية. حتّى قبل الحرب كنا نعاني من نقص حاد في المواد الطبية والأدوية.

أنا الآن موجود في مستشفى ناصر في خان يونس، والمستشفى بعد أن امتلأ بالجرحى وبجثامين الشهداء، يعجّ الآن بالعائلات التي نزحت من أحيائها ومنازلها هربا من القصف الهمجي والوحشي لكلّ شبر في قطاع غزّة ليتحوّل أيضا إلى ملجأ لعشرات الرجال والنساء والأطفال.

هل هناك أرقام حول عدد الشهداء والجرحى حتى هذه اللحظة؟

حتى اليوم العاشر من بداية العدوان الوحشي على قطاع غزّة، بلغ عدد الشهداء قرابة 3000 شهيد وأكثر من 11000 جريح إضافة إلى بلاغات بوجود أكثر من 1200 شهيد مدفونين تحت الأنقاض وبالطبع مئات الشهداء من المقاتلين الذين نفّذوا الهجومات البطلة داخل الأرض المحتلّة ومازال الكيان الصهيوني يحتجز جثامينهم، إذ دخل إلى الأرض المحتلّة ما بين 1000 و1500 مقاتل وسيطروا على المستوطنات واستبسلوا في الدفاع عن مواقعهم.

كيف يواجه الصحفيّون الفلسطينيون هذا العدوان خصوصا مع تصاعد استهدافهم؟

يوم أمس الثلاثاء، استشهد الصحفي محمد بعلوشة إثر قصف منزله، ليبلغ عدد الشهداء من أبناء هذا القطاع حتّى الآن 15 شهيدا. أمّا عن ظروف العمل فهي مأساوية بأتمّ معنى الكلمة. صحفيون وصحفيات يفترشون الأرض ويلتحفون السماء لتغطية ما يجري، إضافة إلى الاستهداف المباشر لهم الذي هو سياسة قديمة وممنهجة.

الكيان الصهيوني بدء أولى عمليات اغتيال الصحفيّين باستهداف الكاتب والأديب والصحفي اللامع غسّان كنفاني في 8 جويلية 1972، بوضع قنبلة في سيارته واستشهدت معه لميس ابنة شقيقته فايزة، وبعدها بدأ هذا المسلسل. فمنذ سنة 2000 حتى هذه الحرب، استشهد 50 صحفيّا إضافة إلى شهداء العدوان الحالي. هذه الأرقام تؤكد أنها سياسة ممنهجة وليست مجرّد “أخطاء”.

أسوق لك مثالا آخر، منذ أيام انطلق ثلاثة زملاء صحفيّين وهم سعيد الطويل، محمد صبح أبو رزق وهشام النواجحة لتغطية قصف عمارة تلقّت إنذارا بالقصف. ليقفوا على بعد 150 مترا تحت عمارة ينتظرون لتغطية الحدث. أتت الطائرات ولم تقصف العمارة المعنيّة، بل تلك التي كان يقف تحتها الصحفيون ليستشهدوا في الأبّان إضافة إلى مدني آخر في العمارة نفسها.

نعلم أنّ الصحافي قد يستشهد عندما يكون قريبا من أماكن القصف أو الاشتباك، لكنّ واقع الحال هنا مغاير تماما، فهم يقصفون الصحفيين بشكلّ متعمّد.

هل هناك اتصالات بين الصحافيين في غزة مع الاتحاد الدولي للصحافيين، أو منظّمات، أو نقابات عربية أو دولية؟ أم أنّكم متروكون وحدكم في المعركة؟

حقيقة، لم يتصل بنا أحد حتّى هذه اللحظة. فقط هناك مجموعة على تطبيق الواتس آب، أنشأتها نقابة الصحافيين الفلسطينيين تضم صحفيين من جنسيات مختلفة ونقباء لاتحادات صحفية عربية، من ضمنهم الزميل والمدير التنفيذي للنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، الفاهم بوكدّوس. وطُلب من صحافيين ونقباء من دول أخرى انشاء مجموعات مماثلة حتى يتمّ إيصال أصوات الصحفيين الفلسطينيّين تحديدا. إذن هدف هذه المجموعة رصد الانتهاكات ضد الصحفيين فقط. كما أنه لا يمكن التواصل مع أحد بسبب الانقطاع المستمر للكهرباء والانترنت وتدمير شبكة الاتصالات وقصف مقر شبكة الاتصالات الفلسطينيّة منذ اليوم الثالث للعدوان.

الصحفي فتحي صباح أثناء زيارته إلى تونس سنة 2013

كيف تعلّق على مواقف الغرب وتعاطي وسائل إعلامهم مع العدوان الصهيوني على قطاع غزّة؟

للأسف الشديد، الموقف الرسمي الغربي، على غرار الموقف الأمريكي والفرنسي والألماني، ومؤسساته الإعلامية مخز ووصمة عار حقيقيّة. هناك انحياز أعمى ودعم مطلق للكيان المحتّل في عملية الإبادة الجماعية التي يشنها على الفلسطينيّين في قطاع غزّة. لم يقتصر ذلك على المواقف أو خطابات الدعم أو زيارة الأرض المحتلة، بل تجاوزه إلى الدعم العسكري المباشر بالجنود والسلاح والأموال لمؤازرة الجنود الصهاينة في ذبح شعبنا، إضافة على تعطيل الجهود الدولية لوقف القصف، بل وتهديد أطراف اقليميّة ومنعها من التدخّل بتحريك بوارجها الحربية وحاملات طائراتها.

وأودّ هنا أن أعرّج على الموقف العربيّ الرسمي المتخاذل. فعدا الموقف التونسي الواضح، والموقف الجزائري إضافة إلى الموقف المصري الذي يسعى إلى ادخال المساعدات عبر معبر رفح، تبدو الأنظمة العربية في حالة عجز كامل وارتباك وهي التي لم تستطع أن تضغط على الصهاينة لإدخال شاحنة مساعدات واحدة إلى القطاع، في مقابل اصطفاف شبه كامل للزعماء الغربيين مع الكيان المحتّل. 

أمّا على صعيد التناول الإعلامي للعدوان الهمجي، فهو عرّى زيف القيم التي يتحدّثون عنها من دعمهم لحقوق الانسان وتقديس الحرمة البشرية والدفاع عن الديمقراطية. إذ يتمّ منذ السابع من أكتوبر سحل الفلسطينيّين في اعلامهم وتضليل متابعيهم عبر نشر الأخبار الزائفة ومحاولات طمس الحقائق والتلاعب بالمصطلحات والمفاهيم. كما أنّ جميع المراسلين الأجانب يُمنعون من دخول القطاع ويرصدون العدوان من تل أبيب أو القدس المحتلّ أو برفقة القوات الصهيونية التي تحاصر القطاع وينقلون الصور من وراء مدافعهم. هم يتحدّثون عن استهداف مقاتلي حماس، وهنا أجيبهم هل أنّ ال 1200 طفل الذين استشهدوا هم من مقاتلي حماس؟

إنّ الاعلام الغربي يتبنّى بشكل كامل رواية جيش الاحتلال وأخباره المضلّلة رغم أنّها تكون مفضوحة بشكل كبير، ولا يتراجع حتى لو أخطأ في نقل الحقيقة. فعدا تلك الصحفية الأمريكية التي اعتذرت عن ذلك المقطع المفبرك، لم نسمع أي صحافي تراجع عن خبر نقله. أقول هنا ختاما؛ فقط، الصحافيون الفلسطينيون هم من يقفون وحدهم وسط هذا الدمار وينقلون صور الدمار والجرائم الصهيونية.

مع التلويح الصهيوني ببدء مرحلة الهجوم البرّي، هل تتوقّع أن ترتفع وتيرة الجرائم ضد الشعب الفلسطيني في القطاع؟ وهل يرتفع منسوب استهداف الصحفيين؟

نحن نتوقّع أن يحدث الهجوم البرّي عاجلا أو آجلا، وسيكون عبر عملية اجتياح بالدبّابات والعربات المدرّعة مصحوبة بغطاء جويّ كثيف للغاية. وتاليا، سيكون حجم الدمار غير مسبوق، تماما كأعداد الضحايا من جرحى وشهداء مع إصرار أهل غزّة على الثبات على أرضهم.

في المقابل، ستعمل قوّات الاحتلال على محاولة طمس جرائمها ومذابحها عبر استهداف الصحفيّين الفلسطينيّين والتضييق على حركتهم ومنعهم، وإن بالاغتيال قصفا أو بالرصاص، من نقل جرائم الكيان إلى العالم وتعرية وحشية هذا الكيان وضربه عرض الحائط بكلّ المواثيق الدولية التي تحمي المدنيين والصحفيين على حدّ السواء.

لكن، اسمح لي كصحفي فلسطيني، أن أؤكّد أنّا ماضون في أداء واجبنا ودورنا المهني والوطني في تعرية المجازر التي ترتكب في حرب الإبادة الجماعية ولن نهرب إلى الجحور أو الملاجئ وسنحاربهم بكاميراتنا ومصادحنا. لم نتراجع سابقا ولن نتراجع الآن أو مستقبلا.


** تنويه: تمّ إجراء هذا الحوار سويعات قبل الجريمة البشعة التي تمثّلت في قصف مستشفى المعمداني مساء يوم الأربعاء 17 أكتوبر 2023، واستشهاد أكثر من 500 فلسطيني وفلسطينية خلال دقائق