ربيع سنة 2010، كان الاستبداد النوفمبري يرى نفسه عملاقا وكنا نراه برجلين من صلصال. كان العملاق المزيف باسطا رعبه في قلوب غير المسيّسين، المواطنين الصالحين بمنظار السلطة، غير المعنيّين بمعركة الحقوق والحريات، ليصنع منهم احتياطيا لمحاصرة الأصوات والأقلام الحرة، حتى أن المغرّد خارج هذا السرب كان يشعر بالغربة في وطنه ويتساءل عن جدوى النضال والتضحية دفاعا عمن جُبل على السمع والطاعة.

هذا الواقع دفع الآلاف من الشباب إلى ترك الشارع والفضاء العام للبوليس والتوجه نحو شبكة الانترنت، خاصة بعد أن ذاع صيت شبكات التواصل الاجتماعي وأزهرت “البلوغوسفار” مدونات تونسية تخوض في كل المواضيع وتنتقد انعكاسات الاستبداد على المجتمع ولو بحذر شديد أحيانا. طبعا لم يكن الإبحار على الانترنت من تونس حرا، بل كان خاضعا لبوليس الأنترنت، الذي سلحه النظام ببرمجية “سمارت فيلتر” الأمريكية من أموال دافعي الضرائب، ليغلق مواقع وصفحات المعارضة والصحافة الجادة. ولما فعل جنون العظمة فعله بالعملاق المزيف وضاق ذرعا من تسرّب أصوات المعارضة إلى شبكة المدوّنات التونسية، قرّر في قفزة بهلوانية غير محسوبة العواقب عدم الاكتفاء بضرب مدوّنات المعارضين، بل تعدّاها إلى غلق العشرات من المدونّات التي لم تخض يوما في السياسة، مدونّات طبية علمية وأخرى أدبية شعرية وحتى مدونات البستنة والطبخ لم تسلم من بوليس الانترنت.

كانت صدمة الرقيب هائلة ونتيجة همجيّته عكسية، فبدل أن يتضاعف الرعب والخوف تحوّل بوليس الانترنت والعملاق المزيف إلى أضحوكة المبحرين على النت وبدل أن تزيد عزلة المعارضين تبنّى الشباب دعواتهم للالتحاق الفعّال بمقاومة الرقيب ورداءته. فظهرت حملات واسعة لمقاومة الحجب ولقب بوليس الانترنت بعمار404 ومع حلول شهر ماي من سنة 2010 تحوّل الاحتجاج إلى الشارع بمناسبة نهار على عمار يوم 22 ماي. ورغم بولسة شارع الحبيب بورقيبة يومها ومحاصرة النشطاء والتنكيل ببعضهم فقد نجحت الحركة في نزع غطاء الخوف وكشف حقيقة العملاق المزيّف أبو رجلي صلصال، ثمّ تسارعت المحطات حتى ديسمبر 2010 وانزياح كابوس حكم بن علي وأصهاره.

14 سنة بعد ما سبق ذكره، أعادت السلطة الجديدة-القديمة الخطأ ذاته بتوسيع دائرة ضحاياها واستهداف صحفيّين ومعلّقين عُرفوا بتوازنهم وحرصهم على التنسيب كما حصل مع الصحفي مراد الزغيدي، علّها تبثّ الرعب في باقي النفوس لتضمن اصطفافهم وراء قيس سعيد في الانتخابات الرئاسية المقبلة. وكما حصل سنة 2010، مثّل الحكم في حقّ الزغيدي، بسجنه سنة نافذة مع زميله على خلفية آراء وتعاليق صحفية زلزالا حرّر الألسن والأقلام بدلا عن تكبيلها. ليتوارى صراخ جوقة تبييض الاستبداد وتصدح الحناجر بشعارات تندّد بعودة دولة البوليس والتعذيب وقضاء التعليمات واستسهال الالقاء بالمواطنين في السجون وكأنهم مجرّد أرقام تزيّن التقارير والوشايات البوليسية التي اطلع الرأي العام على سخافة بعضها وإيغالها في مستنقع نظرية التآمر المدمرة.

وكما تبخرت جحافل التجمعيّين يوم 14 جانفي 2011 واختفت البلطجية الزرقاء فجأة ليلة 25 جويلية 2021، لن يكون مصير غوغاء الاستبداد والحقد العنصري مختلفا، حتى أن بعضهم اختار تكتيك أنصاف الاعتذارات بحثا عن تموقع وحصان جديد يركبونه لبثّ أحقادهم المستقبلية. في المقابل بدأ الخوف بتغيير مواقعه، فكلّما اشتد الظلم انقلب على عرّابيه، وكلّما زاد عبث الاستبداد تحوّل إلى مسخرة ومصدر تندّر ولكم في دروس التاريخ القريب والبعيد أسوة حسنة، أفلا تعقلون؟