المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

سجّل تقرير صندوق الأمم المتحدة للسكان سنة 2022 عدة حالات لجرائم قتل النساء بتونس، سواء كنّ أمهات أو قاصرات أو راشدات أو حتى مسنات، على يد أب أو أخ أو أي من ذكور العائلة أو دائرة الأصدقاء. وقد أحصى التقرير وقوع 5 جرائم قتل للنساء في 48 ساعة فقط سنة 2019، فيما ذهبت تقديرات على الشبكة إلى ارتفاع الأرقام التي بقيت خارج دائرة الإحصاء.

حرب الذكورية على أجساد النساء: تونس كمثال

 تختلف جرائم قتل النساء عن بقية جرائم القتل لكونها تتغذى بخلفية جندرية بطريركية توهم الجاني بأحقية وصايته على الضحية وجسدها، ما يمنحه نوعا من المشروعية الاجتماعية التي تخوّل له في مرحلة أولى الاقدام على الجريمة ثم تمنحه في مرحلة ثانية ما شاء من الأعذار والمبررات الواهية. خلفية متفشية، ولو بتفاوت صلب العائلات وبين الجهات، تعتبر النساء وأجسادهن مساحة لتطبيق ضروب من الرقابة والعنف السلطوي الذكوري عبر التحكم فيهن وتحويل أجسادهن الى مادة قابلة للملكية ما يجيز العنف الجسدي الذي قد يؤدي إلى القتل.

فبعد أن أقدم رجل في مدينة القيروان بتونس على ذبح زوجته في ثاني أيام عيد الاضحى، تداول التونسيون على موقع التواصل الاجتماعي فايسبوك منشورا يتضمن صورة للجاني بمكان عمله وعلى وجهه ابتسامة عريضة مرفقة بنص يعدّد خصاله الحميدة ويشدّد على سماحة أخلاقه، منشور يؤكد أن ما أقدم عليه من فعل شنيع هو فقط نتيجة ”تراكمات كبيرة“ و ”ضغط رهيب“ يفقدون الشّخص برودة أعصابه. فيصبح بالتالي للجريمة سياق معيّن وظروف خاصة تضفي صبغة تعاطفية مع الجاني وتسهّل تصنيف هذه الجريمة إلى ”زلّة“ أو ”خطأ“.

وعادة ما تغلف هذه الجرائم بعناوين عدة، مثل جرائم الشرف التي تبرر قتل النساء تحت غطاء الحفاظ على العفة وكعقاب لخرق الأعراف الاجتماعية، أو الجرائم العاطفية الّتي تتم رمسنتها حدّ اعتبار الجاني ضحية لمشاعره الفياضة وولهه، والّتي تشكّل في الحقيقة تسميات تستّرية على تملّك مرضيّ للضحية.

وان كانت الركيزة الاولى لارتكاب هذه الجرائم هي تغلغل السلطة البطريركية الذكورية في جل المجتمعات والتطبيع مع فكرة ملكية أجساد النساء، فإن العوامل السياسية لها دورها في نشر وتوسيع نطاق ارتكاب هذه الجرائم.

فتقييد النساء في معظم المجتمعات عبر حرمانهن من حقهن في التعليم ولاحقا في العمل يشكل مظهرا من مظاهر العنف الاقتصادي الذي يجبر الضحية على الاعتماد ماديا على أسرتها وعلى الالتزام بالقيود التي تفرض عليها، خشية أن تُقطع عنها الموارد المادية وتسحب او تهدد بالمنع من الفضاء العام والرضوخ تحت وطأة التعنيف دون التمكن من البحث عن المساعدة.

النساء الفلسطينيات تحت قبضة الابرتايد

 رغم أن نساء من مختلف أنحاء العالم تعانين تبعات قوالب الذكورية الجاهزة، ولو بدرجات، إلا أن بعض التركيبات الاجتماعية تكون مساهمة بطريقة مباشرة وحليفة لمثل هذه الجرائم. و يمثُل الكيان الصهيوني على رأس هذه اللائحة، إذ أنه حتى قبل بدأ  حرب الابادة بغزة التي تستهدف النساء، خاصة الحوامل منهن بغرض تفتيت البنية الاجتماعية و تهديم نسق تكاثف المجتمع الفلسطيني، يقوم الكيان بفرض قوانين تمييزية على الفلسطينيات بالداخل المحتل لمنعهن من التمتع بنفس الحقوق و الحريات المضمونة للمستوطنات، كما يؤسس لمنهجة عزلة اجتماعية تمنع النساء الفلسطينيات من الالتحام بالمجتمع و التمتع بفرص اقتصادية و مهنية، و هي كلها وسائل لفصل النساء الفلسطينيات عن باقي المجتمع و حرمانهن من الإحاطة اللازمة لتسهيل تعريضهن لبطش السلطة الأبوية و منعهن من بناء الروابط الكفيلة بمساعدتهن.

أبرز وسائل التصدي

في تونس، تعمل الحركة النسوية ”أنا زادة“، المستوحاة من حركة ”Me Too“ العالمية، على مناهضة جرائم قتل النساء وتتمثل أبرز مطالبها في تفعيل القانون 58 المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة ودفع الدولة إلى الاعتراف بجرائم قتل النساء ومناهضتها.  خاصة وأن هذه الجرائم لا تزال مغلفة بالصمت القانوني كونها لا تُعدّ كجرائم قتل جنائية متعمّدة، وانّما كردّة فعل أو زلّة، وهي كلّها تبريرات ذكوريّة تصب في واد اعتبار المرأة من كماليات المجتمع لا من أساسياته.

وقد هزت قضية مقتل رفقة الشارني المجتمع التونسي بكل تركيباته، إذ أنها قُتلت على يد زوجها الذي يعمل بجهاز الشرطة من خلال إطلاق 5 رصاصات بسلاحه الوظيفي.  يذكر أن الضحية كانت قد لجأت الى مراكز الشرطة عدة مرات للتشكي من حالات العنف الزوجي دون أن يتم أخذ أي من شكاواها على محمل الجد، ما يحيلنا على فرضيات التستر على الزملاء وتبعاتها الخطرة. فقضية مقتل رفقة الشارني، بما تشكله من أبعاد تشمل مختلف مظاهر العنف السلطوي الذكوري، لا تمثل استثناء، بل هي مثال للتحالف الفكري بين الهيمنة البوليسية التسترية والمنظومة البطريركية التي تستبيح أجساد النساء ووجودهنّ.

اليمين المتطرف وهوس تملّك المرأة

ولإن مثلت هذه القضية محورا للصراعات منذ أجيال، فإن المناخ السياسي الحالي المؤذن بصعود اليمين المتطرف واكتساحه الدول الغربية يشكل تهديدا صارخا لسلامة النساء النفسية والجسدية وإيذانا باستباحة حقوقهن. فعلى غرار اعتراض هذا التيار الأيديولوجي المتطرف على أغلب المشاريع القانونية والاتفاقيات التي من شأنها أن تعمل على حماية النساء من مختلف أشكال التعدّي عليهن، فإن الأفكار الرجعية التي يحملها ويروّج لها هي أفكار ذكورية سلطويّة بحتة تصف ب”اللوبيات“ كل المنظمات التي تعمل على الدفاع عن حقوق الأقليات. تيارات تعمل على ترسيخ نموذج تقليدي للعائلة، تكون الهيمنة فيه للعنصر الذكوري، ما يعزز الخطر المحدق بالمرأة التي ما تكون غالبا معرضة للعنف المنزلي بنسبة أكبر من أنواع العنف الأخرى التي تُمارس عليها من قبل باقي أطراف المجتمع.

إن النضال النسوي هو نضال شائك في صراع أزلي مع مؤسسات الدولة و البُنى الاجتماعية المرتكزة على أسس الذكورية، وهو سعي متواصل لكشف التحالفات بين مختلف الأنظمة الرجعية من أجل تحقيق مطلب بديهي: أن تكون لحياة المرأة قيمة كحياة نظيرها الرجل و أن تسترجع حقها في أن تنعم بالسلام في بيتها أولا و في الشارع ثانيا.

نحن، نساء هذا العالم من كل الخلفيات والانتماءات، لن نرضخ لعبثية الأنظمة الاقصائية التي تعمل على تقييد جل مظاهر وجودنا وان عجزت عن ذلك، فعلى قتلنا. وان ترهيب الأنظمة لن يقوى على حتمية وجودنا.

لن ننسى، لن نسامح، ولن نطبع مع أنظمة القتل الساقطة لا محالة.