أعادت أحكام المحكمة الإدارية خلال الفترة الممتدة بين أيّام الثلاثاء والخميس والجمعة منافسين جديّين للرئيس المنتهية ولايته قيس سعيد. لكن ذلك الحكم لم يكن حاسما بالنسبة للهيئة العليا المستقلة للانتخابات، حيث لاحت ما يشبه المعركة القانونية بين الهيئة التي سبق أن أعلنت ولايتها الكاملة على الانتخابات، وبين الأحكام التي أصدرتها المحكمة الإدارية. إذ من الممكن أن تصدّر الهيئة تلك المعركة إلى القضاء العدلي، ليصدر أحكامه الباتّة في حق الزنايدي الذي صدرت في حقه أحكاما غيابية، وفي حق عبد اللطيف المكي الذي حُكم عليه بثمانية أشهر سجنا والحرمان من الترشح مدى الحياة. وتدفع الهيئة العليا المستقلة للانتخابات نحو أحقيّتها الكاملة في رفض أو قبول ملفات الترشّحات باستعمال كل الفصول والتأويلات القانوني التي تشبه الألغام.
طريق قانوني شائك
بعد صدور قرار مجلس المحكمة الإداري الذي مكّن من عودة منذر الزنايدي لسباق الانتخابات، صرّح فاروق بو عسكر، رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات أمس، أنّ مجلس الهيئة سيطلع على تفاصيل أحكام المحكمة الإدارية ”وحيثياتها وتعليلها“. لضيف أنّ المجلس سيأخذ بعين الاعتبار النصوص التي صدرت عن المحكمة الإدارية. وبالتوازي مع أحكام المحكمة الإدارية، سيأخذ المجلس بعين الاعتبار الأحكام الجزائية الصادرة في حق المترشّحين بتهم تدليس التزكيات، وأنّ مجلس الهيئة سيتخذ قراره بعد اجتماعه على ضوء السياق القضائي في القضاء العدلي والإداري. مبيّنا أنّ مجلس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات هو ”الجهة الدستورية الوحيدة التي ائتمنها الدستور على ضمان سلامة المسار الانتخابات“.
أثار تصريح بوعسكر جدلا دفع رفقة مباركي رئيسة اتحاد القضاة الإدرايين، للقول في تدوينة لها على حسابها بفيسبوك إنّ ”الكلمة الأخيرة للقضاء الإداري والقول بخلاف ذلك هو من باب العبث“، وذلك بعد أن لمّح رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بإمكانية عدم الالتزام بقرار المحكمة الإدارية بخصوص ملفي منذر الزنايدي وعبد اللطيف المكي.
يوم 5 أوت، قضت الدائرة الجناحية الصيفية بالسجن ثمانية أشهر والحرمان من الترشح مدى الحياة في حق عبد اللطيف المكي. قرار طرح عدّة أسئلة بخصوص الفاعلية القانونية لهذا الحكم بعد قبول ملف ترشح المكي، خاصة أن الحكم المدني للمحكمة الإدارية باتّ وغير قابل للطعن.
يقول المحامي رضا الرداوي في تصريح لنواة ”ما هو جزائي لا يمكن أن يتحوّل لرهينة المدني، فالحكم المدني لا يلغي الحكم الجزائي، أي أنّ للحكم الجزائي علويّة على الحكم المدني. في قضية عبد اللطيف المكي، هناك إشكالية وهي ما هو الحكم الذي سيسقط الآخر؛ هل هو الحكم المدني البات بقبول ترشحه الصادر عن المحكمة الإدارية والذي يعتبر حكما تعقيبا باتّا، أو الحكم الجزائي القاضي بسجنه وحرمانه من الترشح. في حالة المكي فإنّ الحكم الإداري يعلو على الحكم الجزائي الذي صدر في الطور الابتدائي ولم يصدر بالنفاذ العاجل. وهو ما يحيل إلى علوية الحكم المدني القاضي بقبول ترشحه، وذلك لأن الحكم الجزائي ما يزال في طوره الابتدائي، أما حكم المحكمة الإدارية فهو بات ونهائي، وتاليا، لا يمكن إسقاط ترشّح المكي“.
جاء في الفصل 41 من قانون عدد 40 لسنة 1972 المتعلّق بالمحكمة الإدارية:
توجّه كتابة المحكمة نسخة من القرار القاضي بتأجيل التنفيذ أو توقيفه إلى الأطراف خلال الأربعة والعشرين ساعة الموالية للتصريح به. وعلى الجهة الإدارية المصدرة للمقرّر المطعون فيه أن تعطّل العمل به فور اتصالها بالقرار القاضي بتأجيل التنفيذ أو توقيفه. وهذه القرارات تحفظيّة ولا تقبل أي وجه من أوجه الطعن ولو بالتعقيب.
ونصّ هذا الفصل صراحة على أن الجهة الإدارية ملزمة بتطبيق قرار المحكمة الإدارية، وهو ما ينطبق على الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التي يجبرها هذا القانون بالالتزام بقرار المحكمة الإدارية في علاقة بالمترشحين مندر الزنايدي وعبد اللطيف المكي.
يقول شادي الطريفي عضو الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان في تصريح لنواة إن ما جاء على لسان فاروق بوعسكر رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات ينذر بنزاع قانوني خطير في ظل غياب للمحكمة الدستورية التي كان بإمكانها الحسم في هذا الجدل. ويضيف الطريفي ”استنادا للمسار القانوني للبحث في التقاضي المدني والإداري فإنّ الحكم المدني هو الذي يعلو على الحكم الابتدائي الصادر في حق مترشح أو أكثر. لكن بحكم قراءتنا للواقع السياسي، يمكن أن يتمّ التسريع في مسألة القضية العدلية في حق عبد اللطيف المكي قبل 6 أكتوبر حتى يتم إسقاط علوية حكم المحكمة الإدارية، رغم أنّ مسألة الحرمان من الترشّح مدى الحياة تخصّ الانتخابات التشريعية وفق ما نص عليه الفصل 21 من المرسوم عدد 55 لسنة 2022 المتعلق بالانتخابات والاستفتاء. وفي كل الأحوال ليس للهيئة العليا المستقلة للانتخابات الحق في البت في مسألة العلوية، بل هذا الدور موكول للجنة فصل النزاع الإداري والعدلي، خاصة في غياب المحكمة الدستورية، لذلك فإنّه على الهيئة أن تلتزم بقرار المحكمة الإدارية“.
من جهته يصف طارق قفراشي الخبير في الانتخابات، تصريح فاروق بوعسكر الذّي لمح لعدم التزام الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بالخطير، ويقول لنواة أنّه ليس من مسؤوليّتها البتّ في الترشحات بعد حكم المحكمة الإدارية، حتى بوجود حكم عدلي صادر بحرمان الحق في الترشح للانتخابات مدى الحياة. ويضيف قفراشي ”بعودة عبد اللطيف المكي الذي صدر ضدّه حكم بالسجن ثمانية أشهر وحرمانه من الترشّح مدى الحياة، فإنّ هناك مسارين؛ الأوّل بخصوص حرمانه من الترشّح، الذي يبدأ تنفيذه في انتخابات 2029، أما حكم السجن في حقّه، فإنه في حال فوزه بالانتخابات لا يمكن تنفيذه إلا بإجراءات رفع الحصانة ضدّه، وهو مسار معقد“.
ألغام قانونية في جُعبة بوعسكر
في جوان 2023، أعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات عن قيامها بعملية التقسيم الترابي الجديد والذي تحددت على ضوئه الدوائر الانتخابية بالنسبة لانتخابات المجالس المحليّة. ويعطي الفصل عدد 10 من المرسوم عدد 10 المؤرخ في 8 مارس 2023، الهيئة صلاحية تقسيم المعتمديات التي يقلّ عدد عماداتها عن خمس عمادات، فيما تُضبط عملية تقسيم الدوائر الترابية بمقتضى أمر. في المقابل لم يصدر الأمر من السلطة التنفيذية إلا يوم 21 سبتمبر العام الماضي، وهو ما دفع منظمات باتهام الهيئة بتوسيع هامش صلاحيتها المخالف للمرسوم عدد 10.
يقول الخبير في الشأن الانتخابي طارق قفراشي لنواة إن قيام الهيئة العليا المستقلة للانتخابات قد أسندت لنفسها مهمة التقسيم الترابي للدوائر الانتخابية وهي مهمة لم يحدّدها لها القانون، وأن ذلك التقسيم كان بمثابة لغم انفجر خلال الانتخابات الرئاسية وأحد أسباب النزاع القانوني للمترشحين في علاقة بالتزكيات. ويضيف قفراشي ”لا أحد يعلم لماذا اختارت الهيئة ضرورة توفر عشرة دوائر في علاقة بالتزكيات، إضافة إلى ذلك لم يحدّد الفصل 41 من قانون الانتخابات هل هي الدوائر التشريعية البالغ عددها 161 بما في ذلك دوائر الخارج، أم هي دوائر المجالس المحلية البالغ عددها 2129 دائرة؟ لقد أسندت الهيئة لنفسها ما يعرف بالتدبير الحرّ مستغلة الولاية العامة على المسار الانتخابي الذي أسندته لنفسها. في المقابل كان بإمكانها توضيح الغموض لتجنّب الجدل وذلك الاعتماد على التقسيم الإداري للأقاليم مثلا في جمع التزكيات في الانتخابات الرئاسية، والذي يمكن أن يكون حلّا لأكثر تمثيلية للسكاّن“.
تتعدد سيناريوهات يوم 6 أكتوبر القادم التي تحيطها قنابل قانونية موقوتة. حيث يطرح الفصل 90 من الدستور التونسي لسنة 2022، إمكانيّة تمديد المدّة الرئاسية في حال تعذّر إجراء الانتخابات في موعدها بسبب خطر داهم. إذ ينصّ هذا الفصل على أنّه ”إذا تعذّر إجراء الانتخابات في الميعاد المحدّد بسبب حرب أو خطر داهم، فإنّ المدّة الرّئاسيّة تمدّد بقانون إلى حين زوال الأسباب التي أدّت إلى تأجيلها“. كما يعطي الفصل 143 من المرسوم عدد 8 لسنة 2023 المتعلّق بالانتخابات والاستفتاء وإتمامه الحقّ للهيئة العليا المستقلة للانتخابات في إلغاء نتائج الفائزين بصفة كلية أو جزئية ”إذا تبيّن لها أنّ مخالفتهم لهذه الأحكام قد أثّرت على نزاهة العملية الانتخابية وعلى نتائج التصويت، وتكون قراراتها معللة. وفي هذه الحالة يقع إعادة احتساب النتائج دون الأخذ بعين الاعتبار الأصوات التي تمّ إلغاؤها وترتيب المترشحين بناء على ذلك“، ويعطي المرسوم عدد 55 لسنة 2022 المتعلق بالانتخابات والاستفتاء وإتمامه، الصلاحية ذاتها للهيئة. حيث ينصّ الفصل 161 مكرّر على أنّه ”يعاقب بالسجن من سنتين إلى خمس سنوات كل مترشّح يتعمّد النيل من عرض مترشّح آخر أو كرامته أو شرفه أو من انتمائه الجهوي أو المحليّ أو العائلي، ويمكن للهيئة في حال ثبوت ذلك إلغاء الأصوات التي تحصل عليها“.
iThere are no comments
Add yours