لا يمكن الحديث عن موضوع ”إحراق الجسد“ كشكل احتجاجي قصووي دون المرور على حادثة الحرق الأشهر والتي غيرت وجه البلد والمنطقة بشكل جذري، تلك الحادثة التي بدأت بخلاف بين بائع متجول وموظفة في الشرطة البلدية واحتدت عندما أضرم البوعزيزي النار في جسده في 17 ديسمبر 2010 لتندلع بذلك شرارة من الثورة والانتفاض متجاوزة ولاية سيدي بوزيد إلى بقية ولايات الجمهورية، اتسعت رقعتها لتشمل دولا عربية أخرى. بل إن دولا مثل مصر والجزائر وتركيا والمغرب والسودان شهدت أيضا حالات مشابهة لحادثة البوعزيزي أقدم فيها مواطنون على إضرام النار في أجسادهم احتجاجا، شكل احتجاجي واصل حضوره في تونس طيلة السنوات التي أعقبت الثورة في أكثر من مناسبة إلى حدود الحوادث الثلاث الأخيرة قبل أيام، لكن تعامل الحكومات لم يخرج عن دائرة الصمت والقمع ونظرية المؤامرة.

نظرية المؤامرة للهروب من معالجة أسباب الظاهرة

عادت ظاهرة إضرام النار في الجسد إلى صدارة اهتمام الرأي العام قبل أسبوع عندما جدت حادثتان متزامنتان تقريبا، الأولى للكهل الأربعيني الذي أحرق جسده أمام مستشفى بمنطقة باب سعدون لأسباب غير معلومة إلى حد الآن، والثانية لشاب سكب على نفسه البنزين وأشعل جسده مباشرة بعد دخوله منطقة للأمن بولاية سوسة. هذه الحادثة الأخيرة، والموثقة بالفيديو، أثارت موجة من الجدل بالإضافة إلى احتجاجات ومواجهات، سرعان ما خمدت، بين الشرطة وشبان محتجين من الجهة. وحسب عائلته فإن سبب إحراق الشاب لجسده هو التضييق البوليسي وتعطيل حصوله على وثائق اثبات الهوية والتمعن في اذلاله كلما قصد مركز الشرطة على خلفية أنه قضى عقوبة سجنية تحولت بعدها حياته إلى جحيم متواصل، وبالنسبة له كان الرد المناسب هو إحراق جسده داخل منطقة الأمن.

 هذه الحادثة حازت على اهتمام أكبر من حادثة الكهل الذي أحرق نفسه أمام مستشفى باب سعدون، ربما لأن ضحيتها وثق العملية بفيديو انتشر بشكل كبير على منصات فيسبوك وتيكتوك، وأيضا لاندلاع احتجاجات واشتباكات بين الشرطة وشبان من الجهة إثر الحادثة. ولكن أيضا لاستغلال هذه الحادثة من قبل موالين للسلطة وتوجيه الاتهام إلى ”دوائر خفية ولوبيات لا تريد الخير لتونس وتسعى لتأجيج الأوضاع وإرباك الدولة عن طريق هذه الحوادث“ التي وصفوها بالمفتعلة، واعتمد أصحاب هذا التوجه على أن للضحية سوابق عدلية لها علاقة بالمخدرات، وهو ما ينفي عليه الطابع الاحتجاجي العفوي حسب قولهم ويدخله في نظرية المؤامرة، خاصة مع وجود شخص قام بتصوير كل لحظات حادثة إضرام النار في جسده، وقد أوقفته الشرطة في نفس اليوم.


نواة في دقيقة: النار و”خُنّار“ الأنصار
– 12 فيفري 2025 –

رفضا لانتهاكات البوليس المتكررة، أقدم شاب من مدينة سوسة في 6 فيفري على اضرام النار في جسده ليفارق الحياة متأثرا بحروقه البليغة. سارعت السلطة إلى اعتقال من صوّر العملية في حين تكفل أنصار الرئيس بترويج خطاب مؤامرتي يذكرنا بما أتاه انصار الاستبداد زمن بن علي.


إن هذا الاقتصار السطحي على نظرية المؤامرة لتفسير ظواهر أو حوادث مؤلمة يذهب ضحيتها مواطنون فاقدون للأمل، هو مواصلة لنفس نهج السلطة الحالية (وهو نفس نهج سابقاتها) والموالين لها باعتماد الخطاب التآمري والاكتفاء بالتعاطي البوليسي والقضائي مع قضايا اجتماعية إنسانية. بالتالي فأي احتجاج أو ردة فعل غاضبة تُواجه بالقمع دون محاولة التعامل مع هذه المواضيع الحساسة بحد أدنى من العقل والبحث في أسباب هذه الظواهر، ولم تكلف نفسها عناء الإجابة عن سؤال بسيط: ما الذي يدفع أحدهم إلى إضرام النار في جسده وتعريض حياته لخطر الموت حرقا؟ هل بلغنا درجة من فقدان الأمل في الحصول على فرص حياة كريمة حتى ينهي بعضنا حياته بهذه الطريقة المأساوية؟

نتذكر جيدا كيف سخّرت ميليشيات التجمع الالكترونية زمن بن علي كل جهودها لتمييع حادثة البوعزيزي وكالت له الاتهامات حتى وهو يحتضر بمستشفى الحروق البليغة ببن عروس، واصلت هذه الميليشيات حملتها المنظمة ضد المحتجين والثائرين في سيدي بوزيد والقصرين وتالة وبقية المدن التي انتفضت ضد دولة البوليس، واعتمدت هذه الميليشيات واجهزة البروباغندا على الخطاب التآمري وما يحمله من مصطلحات التخوين والتحريض ضد التونسيين الذين هتفوا ضد الظلم والقهر والتهميش.

لم تتعظ الحكومات التي أعقبت الثورة من مصير من سبقها، بل انها استعانت بنفس الآليات ونفس الخطاب، أجهزة اعلامية وهجمات فيسبوكية للتخوين والشتم وعصا البوليس للقمع. وهذا نفس ما شهدناه في الأسبوعين الأخيرين حيث تجندت صفحات موالية للسلطة بنفس الخطاب والاتهام سواء ضد من أحرق نفسه أو ضد من تظاهر إثر ذلك غضبا واحتجاجا، ولم نجد أي تفاعل يهدف إلى فهم الظاهرة ومعالجة أسبابها الحقيقية سياسيا واجتماعيا واقتصاديا بعيدا عن المعالجة الأمنية والقضائية.

سيدي بوزيد – مجسم تذكاري لعربة البوعزيزي كرمز لاندلاع ثورة 17/14 – صور كارم يحيى

سلاح اليائسين ضد التهميش والظلم والفقر

مستشفى الحروق البليغة ببن عروس، مشروع صحي كبير تباهى به الرئيس الراحل زين العابدين بن علي واستعمله في الدعاية لحكمه وإنجازاته، وكان أحد آخر الامكنة التي ظهر فيها بن علي علنا قبل هروبه إلى السعودية، لم يعد في أذهاننا مجرد مستشفى اختصاص بقدر ما تحول إلى شاهد على أجساد احترقت بعد صراخ ضد التهميش والظلم. هناك في الضاحية الجنوبية شهدنا الحلقات الأخيرة من حوادث أقدم فيها مواطنون على إضرام النار في أجسادهم، غالبية الضحايا هم من أصحاب العمل الهش الذين يواجهون مشاكل مع السلطات البلدية التي يتهمونها بالانتقائية في تطبيق القانون بمنعهم دون غيرهم من العمل العرضي على الطرقات وقرب الاسواق ويتطور الأمر إلى مواجهات بين الباعة وقوات الشرطة أو ملاحقات قضائية تنتهي بالإيقاف والمحاكمة، لكنها لا تنهي ولا تعالج ظاهرة تجارة الرصيف أو الباعة المتجولين.

 لكن بعض الحالات شهدت ردود فعل يائسة مثل إقدام باعة على إضرام النار في أجسادهم، مثلما حصل مع شاب أحرق نفسه أمام مبنى وزارة الداخلية في سبتمبر 2013 بعد أن منعته الشرطة البلدية من بيع السجائر على رصيف قرب سوق المنصف باي. مثل هذه الحادثة تكررت في أفريل من العام الماضي حيث أضرمت بائعة ملابس مستعملة النار في جسدها بعد محاولة الشرطة البلدية حجز بضاعتها المعروضة في أحد شوارع مدينة صفاقس.

لا تقتصر حالات الحرق على احتجاج الباعة المتجولين رغم أنها تكررت في عدة مناسبات، فقد كان فقدان الأمل في تغيير الوضع الاجتماعي وإيجاد فرص عمل تحفظ الكرامة دافعا كافيا لإقدام الباحثين عن عمل على حرق أجسادهم في رسالة قوية لم تفهم السلطة فحواها. نذكر من بين هذه الحالات إقدام عاطل عن العمل (أب لثلاث أطفال) إضرام النار في جسده تزامنا مع زيارة وفد وزاري يتكون من ثلاث وزراء إلى مدينة قفصة في جانفي 2012، حاول جاهدا الظفر بلقاء أحد الوزراء الذين تجاهلوا طلبه، وحصلت المأساة التي لخصت واقع المدينة التي يعاني أهلها التهميش وغياب فرص العمل والتنمية إضافة إلى الأضرار التي يسببها استخراج الفسفاط. إثر هذه الحادثة جدت مواجهات بين محتجين غاضبين وقوات البوليس، عاد الوفد الوزاري إلى العاصمة لامباليا، وظلت ولاية قفصة وغيرها من مدن الهامش تعاني التفقير والتهميش الاقتصادي والاجتماعي. شهدت مدينة القصرين في ديسمبر 2018 حادثة مؤلمة أخرى عبرت عن نفس الصرخة الرافضة للتهميش حين أقدم المصور الصحفي عبد الرزاق الزرقي على إحراق جسده، حادثة هزت المدينة المهمشة وأحدث صدمة لدى اهله واصدقاءه وزملاءه من الجسم الصحفي، أعلنت نقابة الصحفيين الاضراب العام وحمّلت الدولة مسؤولية الحادث، وتظاهر إثر جنازته المئات من أبناء المدينة الغاضبين لتفرقهم عصا البوليس والغاز الخانق المسيل للدموع.

سيدي بوزيد 17 ديسمبر 2024 – قيس سعيّد يزور ولاية سيدي بوزيد ويلتقي مواطنين من المزونة ومنزل بوزيان والرقاب في ذكرى اضرام البوعزيزي النار في جسده الذي اعتمده الرئيس عيدا للثورة بدلا عن يوم 14 جانفي – رئاسة الجمهورية

لإحراق الجسد عناوين متعددة لعل أبرزها الكرامة، قد لا تتشابه أوضاع الضحايا لكن امتهان الكرامة الانسانية كان دافعا مهما لأغلب حوادث الحرق. فقد توفي جريح الثورة ناجي الحفيان في سبتمبر 2021 بعد أن أضرم النار في جسده بسبب ظروفه الاجتماعية القاسية وللمطالبة بحقه في العلاج حسب ما صرح به والده حينذاك، جريح الثورة الذي أصيب في رأسه برصاص الشرطة قبل سقوط نظام بن علي كان شاهدا على معاناة جرحى الثورة وأهالي شهدائها، ودليل اتهام للحكومات المتعاقبة بتنكرها لحقوقهم الدنيا، لا نتحدث عن تعويضات أو اعتراف، بل عن أدنى مقومات الكرامة وهي الحق في العمل والحق في العلاج. من جهته كانت صرخة لاعب كرة القدم السابق نزار العيساوي مدوية ضد تسلط البوليس، نزار الذي أضرم النار في جسده في أفريل 2023 بمدينة حفوز التابعة لولاية القيروان كتب على فيسبوك أنه ”حكم على نفسه بالإعدام حرقا“ بعد أن اتهمه ضابط في الشرطة بالإرهاب إثر خلاف بسيط في السوق حول ارتفاع أسعار الموز!! وفاة أججت احتجاجات حاشدة في المدينة التي تعاني ارتفاع معدلات البطالة والفقر والانتحار، احتجاجات لم تنجح في لفت انتباه السلطات والحكومات لمأساة أهالي القيروان، تلك المدينة التي تعاني من أعلى معدلات الانتحار في الجمهورية. بعد سنة وفي نفس الولاية توفي الشاب ياسين السالمي بنفس الطريقة ولنفس السبب الذي دفع بنزار العيساوي إلى إحراق جسده، خلاف مع عناصر الشرطة ورفض للظلم والتسلط.

لا يتسع المجال هنا لذكر جميع حالات إحراق الجسد، فهي كثيرة ومؤلمة ومأساوية، رغم تكرر حدوثها في فترات وأماكن وأسباب مختلفة، إلا أن الإرادة السياسية التي لا تقوى على معالجة الأسباب الحقيقية وتكتفي بالحل البوليسي تزيد من رفع منسوب الاحتقان وان بقي دفينا، وقد نستيقظ في يوم آخر على ضحية أخرى، طالما أن الأسباب لا تزال قائمة.