في رأيك، لماذا يجب الحذر دائمًا من الكلاب؟
”احذر دائمًا من الكلاب“ ليست مجرد مقولة تحذيرية، بل هي استعارة فلسفية تجسد ثنائية معقدة في طبيعة الإنسان والمجتمع. الكلب هنا لا يرمز فقط للطاعة العمياء، بل يمثل أيضًا قوى خفية تحمي الأساطير الكبرى، تلك التي تمثل الركائز الأساسية للنظام الفكري والاجتماعي. إنه الكائن الذي يقف على عتبة العقل الجمعي، حارسًا للخطوط الحمراء التي تمنع أي محاولة لتجاوز المحرمات أو نقد المقدسات.
من هذا المنطلق، يصبح الكلب رمزا للسلطة القمعية، سواء كانت دينية، تاريخية، أو سياسية. إنه حارس الأسطورة الذي يمنع انهيارها أمام تيار العقل النقدي، كما وصفه جاك دريدا في تأملاته حول الحراسة والحقيقة. الحذر من الكلاب هنا هو تحذير من الخضوع للسرديات المسيطرة التي تصوغ الواقع وفق مصالح نخبوية، مستعينة بالخوف كأداة لضمان استمرار الهيمنة.
في سياق الرواية، الكلب ليس مجرد رمز بل كيان يعيد إنتاج الخوف عبر تعزيز الأوهام وتحويلها إلى ”حقائق“ مقدسة. الرسالة المركزية هنا هي التشكيك بكل ما يبدو منيعًا وغير قابل للتفكيك، لأنها دعوة لتمزيق حجاب الخوف ومواجهة ما يقبع خلفه.
في ”اِحذر دائماً من الكِلاب“، يحاكي الإنسان والحيوان معاً عبثية السعي الأعمى وراء السلطة والثراء. ما المغزى من أنسنة البهائم في روايتك الجديدة؟
أنسنة البهائم ليست مجرد تقنية سردية في الرواية، بل أداة فلسفية تسلط الضوء على تناقضات الإنسان في مواجهة الطبيعة والحقيقة. الشخصيات الحيوانية مثل ”تيموثي القديمة“ و”الفأر يحيى“ تحمل أبعادًا رمزية عميقة. إنهم انعكاس للجانب البدائي والبريء في الإنسان، الذي يحاول التكيف مع عالم يعج بالأوهام والأساطير.
هذه الشخصيات الحيوانية تتجاوز الإنسان في حكمتها الفطرية، وتفضح عجزه أمام أسئلته الوجودية الكبرى. في استلهام واضح من أعمال أدبية مثل ”كليلة ودمنة“ و”مزرعة الحيوانات“، تسعى الرواية إلى تفكيك الأساطير البشرية عبر استخدام الحيوانات كأدوات تحليلية.
الفلسفة هنا تتجاوز الرمزية إلى النقد المباشر. الحيوان ليس مجرد مرآة للإنسان، بل شريكًا نقديًا يكشف هشاشة وجوده، حيث تظهر الرواية أن الإنسان كثيرًا ما يستعبد نفسه عبر معتقدات صنعها بنفسه.
تهيمن الغرابة بشكل ظريف على روايتك هاته. من هي تلك السلحفاة المُسِنّة، ”تيموثي القديمة”“، صاحبة المقولة الشهيرة ”لا أعرف على وجه الدقة اسم الذي كتب حياتي، لكنه فاشل بلا شك“، وحفيدها، ”تيموثاوس الصغير“، الذي قالت له أنه لم يخلق إلا ليحمل ”اسما بشريا لرجل سبّل حياته ليبلغ رسالة الرحمة والطيبة“؟
السلحفاة ”تيموثي القديمة“ ليست مجرد شخصية رمزية في الرواية، بل هي استعارة متعددة الطبقات تعكس الحكمة الإنسانية الممتدة عبر الزمن، لكنها في ذات الوقت تمثل نوعًا من السخرية الوجودية تجاه مفاهيم القدرية والتاريخية. جملتها الشهيرة: ”لا أعرف على وجه الدقة اسم الذي كتب حياتي، لكنه فاشل بلا شك“، هي إعلان واضح لرفض الامتثال للأدوار المفروضة من قبل الأنظمة الاجتماعية والسياسية. تيموثي، التي تمتد حياتها لأكثر من قرن، تتحول إلى شاهد صامت على عبثية الوجود الإنساني، حيث تنكشف هشاشة الأساطير البشرية أمام صمود الطبيعة. ارتباطها بحفيدها ”تيموثاوس الصغير“ يمثل استمرارية هذه الحكمة، لكنه يعبر أيضًا عن مواجهة جيل جديد لصراعات معقدة بين موروثات الماضي ومتطلبات الحاضر. أما بالنسبة لـ ”تيموثاوس“، بجانب ”يحيى“، فيشكلان مع تيموثي ثلاثية رمزية تجمع بين الماضي والحاضر والمستقبل. إنهم أدوات نقدية للرواية، يفتحون نافذة للتفكير في الأزمات الفكرية والاجتماعية التي تعاني منها المجتمعات العربية والإسلامية، خاصة تلك المتعلقة بتقديس التراث والأسطورة. تيموثي القديمة ليست فقط شاهدة على التحولات، بل هي أيضًا رمز للمقاومة الصامتة التي تكشف زيف السرديات الكبرى.
ما أحب أن أقوله هو أن الذي يجعل تيموثي وحفيدها أكثر من مجرد شخصيات رمزية هو تداخل حياتهما مع تفاصيل تاريخية واجتماعية دقيقة في الرواية. الرواية تستخدم تيموثي لتفكيك علاقة الإنسان مع الماضي، حيث تظهر كيف يمكن للتاريخ أن يكون قيدًا بدلًا من مصدر إلهام، وكيف أن التمرد على القدرية ليس مجرد فعل فردي، بل ضرورة جماعية لكسر قيود السلطة.
أوصت ”تيموثي القديمة“ حفيدها ”تيموثاوس الصغير“ بالتمكن من ناصية القراءة لمعرفة التاريخ الحقيقي ل”ثورة البهائم“ التي لا يزال البشر يرفضون أن يدرجونها ضمن مقررات التاريخ، زاعمين أنها مجرد سرديات ”أدبية“ مسليّة لا أساس لها من الصحة. ما حكاية هذه الثورة وفيما تكمن أهميتها بالنسبة للسلحفاة العجوز وحفيدها؟
”ثورة البهائم“ في الرواية ليست مجرد استعارة عن التمرد، بل هي إعادة قراءة لأحد أهم الأعمال الأدبية العالمية، وهي رواية ”مزرعة الحيوان“ لجورج أورويل. إذا كانت رواية أورويل تقدم نقدًا لفساد السلطة بعد الثورات، فإن ”ثورة البهائم“ في رواية سمير قسيمي تذهب إلى أبعد من ذلك، لتنتقد ليس فقط فساد الثورة بل أيضًا استغلال التاريخ لتبرير الظلم. هذه الثورة تسلط الضوء على استبداد النظام القائم، لكنها أيضًا تعري الطريقة التي تُقصى بها السرديات البديلة لصالح روايات المنتصرين. إنها محاولة لكشف الآليات التي يستخدمها الأقوياء لإعادة كتابة التاريخ بما يخدم مصالحهم، وإقصاء كل ما يهدد شرعيتهم.، فقد حاولت جعل الرواية تفتح باب التساؤل حول دور المثقف والإنسان العادي في مواجهة هذه السرديات. إنها دعوة لإعادة النظر في الروايات الرسمية التي تكتب التاريخ بشكل انتقائي، حيث يتحول المهمشون إلى مجرد حاشية أو شذرات في كتاب السلطة.
الهدف من إحالتي على ”مزرعة الحيوان“ لجورج أورويل، هو أن تتجاوز الرواية مفهوم الثورات الفاشلة إلى نقد أعمق لفكرة التغيير ذاتها، موضحة أن أي ثورة لا تعيد صياغة علاقتها بالأسطورة والتاريخ محكوم عليها بالفشل. الرواية تدعو القارئ إلى التمعن في كيفية بناء السرديات الكبرى، وكيف تتحول المقاومة نفسها إلى أداة للسيطرة.
أعطيت أهمية كبيرة في روايتك لمدينتين: الجزائر العاصمة وكنينتون الإنجليزية. ما هي العلاقة التي تربط هاتين المدينتين؟
الجزائر العاصمة وكنينتون الإنجليزية في الرواية هما رمزان لعالمين متناقضين ظاهريًا، لكنهما مترابطان في العمق. الجزائر تمثل الصراع مع الذات والهوية، بينما تعكس كنينتون المنفى والغربة، وربما فرصة البداية من جديد. أعتقد أن هذا التناقض يعبر عن معاناة الإنسان بين انتماء لا يرحم وغربة تضيق الخناق على الروح.
عبد المؤمن حلوفة، بطل روايتك، فرد ذو شخصيّة هشّة ومسكون بالضغينة و الرغبة اللذيذة في الانتقام من سلطة كثيرا ما اتهمها بسرقة أحلامه. لماذا؟
أعتقد أن عبد المؤمن يمثل صورة الإنسان الذي وجد نفسه عالقًا في شباك خيانات مزدوجة: خيانة السلطة وخيانة الذات. ضغينته ضد السلطة ليست مجرد انعكاس لإحساسه بالظلم، بل هي نتيجة تراكمات طويلة من الخيبة والإحباط، حيث يعبر عن جيل كامل فقد الثقة في الأنظمة الحاكمة التي تدعي تمثيله.
تعود جذور ضغينة عبد المؤمن إلى اكتشافه المبكر أن السلطة ليست فقط قوة فوقية تتحكم في مصائر الأفراد، بل هي نظام معقد يتغلغل في كل جوانب الحياة، يتحكم في السرديات الكبرى، ويقمع أي محاولات للتمرّد أو التفكير النقدي. بالنسبة له، السلطة ليست فقط النظام السياسي القائم، بل هي منظومة فكرية واجتماعية تحافظ على القهر عبر آليات متشابكة، تشمل التاريخ المزور، المؤسسات الفاسدة، والخوف.
شخصية عبد المؤمن تحمل أبعادًا فلسفية عميقة، حيث تمثل إنسانًا يتصارع مع إرثه الشخصي والمجتمعي. اكتشافه أن والده كان محتالًا انتحل صفة مناضل وطني، صدمه ودفعه إلى التشكيك في كل ما يُقدَّم له على أنه حقيقة. هذه الصدمة جعلته يدرك أن السلطة ليست فقط مصدر القهر، بل هي أيضًا صانعة للأوهام التي تقيّد الإنسان.
الرواية تصور عبد المؤمن كشخصية تعيش تناقضًا داخليًا عميقًا. فهو من جهة يحمل رغبة في الانتقام من السلطة التي يعتبرها مسؤولة عن معاناته، ومن جهة أخرى يجد نفسه عاجزًا عن التحرر الكامل منها، لأنه يدرك أن هيمنة السلطة ليست فقط قهرًا خارجيًا، بل هي أيضًا قيد داخلي يتغلغل في بنية الذات.
لماذا ذهب عبد المؤمن حلوفة لمرسيليا عند نسرين نايت خوجة وسجل معها حديثا دام تسع ساعات وما الشيء الجديد الذي طرأ في حياته بعد تعرفه عليها؟ هل مكّنته حقاً من أن يصبح أغنى رجل في البلاد في غضون بِضع سنوات؟
رحلة عبد المؤمن إلى مرسيليا هي بحث عن الحقيقة، لكنها تنحرف إلى محاولة استغلال الماضي لتحقيق مكاسب شخصية. نسرين نايت خوجة تمثل الذاكرة التاريخية المفقودة، التي يحاول عبد المؤمن استغلالها كأداة للابتزاز، وهو ما سينجح فيه لكن ليس على النحو الذي تخيله، بل فقط بالنحو الذي يُسمح له بذلك، فالحقيقة التي يتمكن من الوصول إليها تصبح أداة للتحكم وليس وسيلة غايتها التحرر. إن هذا النوع من الحقائق لا يلد في مجتمعات سوية، بل فقط في مجتمعات تعمل السلطة فيها على تخمير الوهم والكذب في سبيل ضمان استمراريتها وبقائها.
ما هي العلاقة التي تربط الضابط صالح برجيل، الذي كان شرطيا في وقت الاستعمار، مع ”المجاهدة“ نسرين نايت خوجة، التي كانت تدير بيت دعارة في الحقبة المذكورة آنفا وتلعب دورين متناقضين جعلا منها عميلا مزدوجا بين فرنسا وجبهة التحرير؟ لماذا اشترى السيّد برجيل كل أملاك هذه المرأة حين قرّرت الاستقرار في مرسيليا؟
العلاقة بين برجيل ونسرين تجسد التشابك الأخلاقي في فترات الاستعمار. برجيل هو رمز السلطة المتواطئة التي تعيد إنتاج نفسها، بينما نسرين تعيش في منطقة رمادية بين الولاء والخيانة. هذه العلاقة تبرز استمرارية القمع في أشكال جديدة. لك أن تقول إنها علاقة السيد بالعبد، لا أقل ولا أكثر.
دام الثراء السريالي للسيد حلوفة خمس سنوات. كيف تحولت جنّة ”الفتى الذهبي“ الوهمية إلى كابوس؟ بموجب أي تهمة تم إيقافه ومحاكمته من طرف ”عدالة“ تُقرّر مُسبّقا من البريء والمذنب دون احترام قرينة البراءة ولماذا قرر بعدها ”الرجل الشبيه صوته بصوت السيد برجيل“ بتبرئة عبد المؤمن؟
ثراء عبد المؤمن في الرواية كان قائمًا على تحالف هش مع منظومة السلطة المستبدة التي تتشابك مصالحها مع شبكات المال الفاسد ورجال الأعمال الانتهازيين. هذه العلاقة القائمة على استغلال الماضي وترسيخ الأوهام كشفت عن طبيعة الفساد الذي يعيد إنتاج نفسه داخل الأنظمة الاستبدادية. عبد المؤمن لم يكن مجرد مستفيد من هذه المنظومة، بل كان جزءًا منها، حيث استغل سرديات مضللة حول النضال الوطني لترسيخ مكانته الاجتماعية والاقتصادية.
السلطة المستبدة في الرواية تظهر كقوة تعمل على شرعنة المال الفاسد، مما يخلق بيئة تسمح لرجال الأعمال الفاسدين مثل عبد المؤمن بالنمو والازدهار. لكن هذا الثراء كان يعتمد على أسس واهية، حيث أن أي تصدع في العلاقة بين المال والسلطة يؤدي إلى انهيار سريع لكل ما تم بناؤه. في حالة عبد المؤمن، يظهر انهياره الحتمي كإدانة رمزية لمنظومة الفساد التي تحكم المجتمعات، حيث أن المال الذي يعتمد على استغلال الظلم والخديعة لا يمكنه الصمود أمام أزمات حقيقية.
الرواية تضع عبد المؤمن كنموذج للإنسان الذي تخلّى عن المبادئ الأخلاقية لصالح الطموح الشخصي، ليجد نفسه في نهاية المطاف محاصرًا داخل شبكة فساد لا ترحم، تتخلى عن أعضائها عند أول فرصة تهدد استقرارها. انهياره يكشف عن هشاشة التحالفات القائمة على المصالح الشخصية، ويبرز كيف يمكن للمال الفاسد أن يتحول من أداة قوة إلى قيد خانق يؤدي إلى السقوط.
هل يصح القول إنك كتبك رواية عن التلفيق التاريخي وما ينتج عنه من ظلم و مظلومية؟
نعم، الرواية تتناول موضوع التلفيق التاريخي بوصفه أداة مركزية في يد النظام الأحادي، الذي يسعى للهيمنة والسيطرة من خلال خلق سرديات مشوهة تخدم مصالحه. التلفيق في الرواية لا يقتصر على إعادة كتابة الماضي بشكل انتقائي، بل يمتد ليشمل الحاضر، حيث يمارس النظام عمليات تزييف واسعة على المستويات السياسية، الدينية، والاجتماعية.
التلفيق التاريخي، كما تصوره الرواية، ليس مجرد محاولة لتغيير الوقائع، بل هو وجه من أوجه الوهم والكذب الممنهج الذي يمارسه النظام الأحادي لتثبيت شرعيته. هذه الأنظمة تسعى إلى تقديم صورة متماسكة ومثالية عن الماضي، حيث يتم طمس الأصوات المعارضة وتهميش السرديات البديلة. لكن الرواية تكشف هشاشة هذه السرديات، وتظهر كيف أن الماضي المفبرك يُستخدم لخلق واقع حالي مقيد بالأوهام والأساطير.
سعيتُ في هذه الرواية إلى إظهار كيف أن هذا التلفيق يمتد ليصبح بنية شاملة، تحكم الراهن السياسي من خلال فرض سرديات زائفة عن الوحدة الوطنية أو النضال التحرري، وتؤسس لسلطة دينية قائمة على تأويلات متحيزة للنصوص، كما تعيد إنتاج قيم اجتماعية رجعية تسحق الفردية والفكر النقدي.، فالرواية تدعو القارئ إلى تفكيك هذه الأكاذيب من خلال التأمل النقدي في التاريخ الرسمي وفي الحاضر الذي تفرضه السلطة. فالتلفيق هنا ليس مجرد خلل في السرديات الكبرى، بل هو أداة قمعية تعيد إنتاج نظام اجتماعي وسياسي يقتل الإبداع والحرية، ويمنع تطور المجتمعات عبر إبقائها في دائرة الوهم والخضوع.
”اِحذر دائماً من الكِلاب“. هل هي نصيحة العبودية المختارة التي يوجهها السيّد لِعبده من أجل ضمان استمرارية خضوعه لسُلطَانِ سردياته السُلطويّة الكاذبة؟
النصيحة تعكس النظام الذي يبني هيمنته على الخوف والطاعة. الكلاب هنا هي أدوات النظام التي تقمع العقل النقدي وتكرس العبودية. الرواية تسلط الضوء على كيف تتحول الأسطورة إلى قيد يمنع التحرر، وتدعو القارئ إلى التشكيك في كل ما يبدو غير قابل للنقد.
iThere are no comments
Add yours