منذ إحالة منصف الكشو على شرف المهنة بعد بلوغه السن القانونية للتقاعد بقي منصب الرئيس الأول لمحكمة التعقيب، وهي أعلى درجة في ترتيب التقاضي، شاغرا. لتبسيط مآلات ذلك الشغور، وجب تفكيك دور ذلك المنصب داخل المجلس الأعلى المؤقت للقضاء والمجلس المؤقت للقضاء العدلي.
في الواقع لم يكن الشغور في منصب رئاسة محكمة التعقيب فحسب، بل تسببت شغورات أخرى في شلل المجلس الأعلى المؤقت للقضاء وأدى ذلك الشغور إلى بسط السلطة التنفيذية يدها على القضاء وهو ما يطرح الجدل بخصوص استقلاليته الفعلية.
المجلس الأعلى المؤقت للقضاء في دوامة الفراغ
ينص مرسوم المجلس الأعلى المؤقت للقضاء عدد 11 لسنة 2022 الذي أصدره الرئيس قيس سعيد في 12 فيفري 2022، إلى تركيبة المجلس الذي جاء على أنقاض المجلس القديم بعد حله، وحسب المرسوم ذاته يشرف المجلس المؤقت على شؤون القضاء العدلي والإداري والمالي، ويتقاسم تركيبته بالتساوي 21 قاضيا من المجلس المؤقت للقضاء العدلي والمجلس المؤقت للقضاء المالي والمجلس المؤقت للقضاء الإداري. وحسب المرسوم عدد 11 لسنة 2022، يترأس الرئيس الأول لمحكمة التعقيب المجلس الأعلى للقضاء.
يتكون المجلس الأعلى المؤقت للقضاء من المجالس الثلاث للقضاء العدلي والمالي والإداري، وتتألف تركيبة المجلس العدلي من : الرئيس الأول لمحكمة التعقيب رئيسا للمجلس ووكيل الدولة العام لدى محكمة التعقيب بصفته نائب رئيس ووكيل الدولة العام مدير المصالح العدلية مقررا ورئيس المحكمة العقارية عضوا، إضافة إلى ثلاثة قضاة متقاعدين، أما المجلس المالي فيترأسه رئيس محكمة المحاسبات ووكيل الدولة العام بصفة نائب رئيس ووكيل الرئيس الأول لمحكمة المحاسبات مقررا ورئيس الدائرة الاستئنافية الأقدم في الخطة بصفته عضوا وثلاثة قضاة ماليين متقاعدين.

عند تصفح الموقع الرسمي للمجلس الأعلى المؤقت للقضاء، تظهر قائمة أعضائه شغورا كبيرا داخله، فالمجلس دون رأس بسبب شغور في منصب الرئيس الأول لمحكمة التعقيب الذي رأس بدوره المجلس الأعلى المؤقت للقضاء، فباستثناء التركيبة الكاملة للمجلس المؤقت للقضاء الإداري، وهو أحد مكونات مجلس القضاء إلى جانب المجلس المؤقت للقضاء العدلي والمجلس المؤقت للقضاء المالي، يعيش القضاء العدلي والقضاء المالي في حالة تشبه التجميد حيث لا تتضمن تركيبة المجلس الأول سوى ثلاثة أعضاء من ضمن سبعة، وهو الأمر ذاته بالنسبة لمجلس القضاء المالي، الذي أُحيل رئيسه على التقاعد منذ عامين، والذي يترأس بدوره رئاسة محكمة المحاسبات، ولم يتم تعويضه داخل المجلس، وحسب بيان نشرته جمعية القضاة التونسيين في فيفري الماضي، لم يحدد الرئيس قيس سعيد موعدا لجلسة أداء اليمين التي نص عليها القانون لأعضاء المجلس المؤقت للقضاء المالي الذين تم تعيينهم بصفتهم، وهم الوكيل الأول لرئيس محكمة المحاسبات ووكيل الدولة العام لدى ذات المحكمة وأقدم رئيس دائرة استئنافية به.
منذ الإعلان عن حل المجلس الأعلى للقضاء من مبنى وزارة الداخلية، استهدف نظام الرئيس سعيد بطريقة آلية متواصلة السلطة القضائية عبر خطابات متشنجة سرعان ما ترجمت إلى نصوص ومراسيم وقرارات عزل ونقل تعسفية. بمناسبة مرور سنتين على عزل 57 قاضيا، التقت نواة الأستاذ احمد صواب لنقاش الحالة التي أصبح عليها المرفق القضائي.
بعد الحركة القضائية لسنة 2024 2025، تم تعيين القاضية نرجس السلامي، والتي قام الرئيس سعيد في فيفري 2024 بتسميتها عضوا في المجلس المؤقت للقضاء المالي وبالتالي عضوا في المجلس الأعلى المؤقت للقضاء بصفتها أقدم رئيس محكمة استئناف في محكمة المحاسبات، في سبتمبر الماضي في خطة وكيل الدولة العام، ولكنها لم تُدع لتأدية اليمين أمام رئيس الدولة، وبالتالي خلق تعيينها في خطة جديدة شغورا في تركيبة المجلس المالي وذلك بعد شغور في خطة أقدم رئيس دائرة في محكمة الاستئناف في القضاء المالي.
التسميات التي صدرت بموجب أمر رئاسي وتسببت في شغور لم يتم تلافيه، لم تجن على المجلس المؤقت للقضاء المالي فحسب، بل إن التسميات التي صدرت بموجب أمر ختمه الرئيس قيس سعيد بتاريخ 29 أوت 2023، قضم من تركيبة المجلس المؤقت للقضاء العدلي وبالتالي المجلس الأعلى المؤقت للقضاء وذلك حين تم تعيين أحمد الحافي الذي كان رئيسا للمحكمة العقارية، في خطة رئيس دائرة بمحكمة التعقيب ونقلة القاضي فتحي عروم الذي كان وكيل الدولة العام لدى محكمة التعقيب ليصبح رئيسا أولا لمحكمة الاستئناف ببنزرت.
ينص الفصل 27 من المرسوم عدد 11 لسنة 2022 على أن ”يجتمع كل مجلس مؤقت للقضاء بحضور خمسة من أعضائه على الأقل وإذا لم يتوفر النصاب المذكور يعاد توجيه الدعوة لانعقاد الجلسة خلال عشرة أيام. وتنعقد الجلسة بحضور أربعة أعضاء على الأقل. يتخذ المجلس قراراته بأغلبية أعضائه الحاضرين وفي حالة تساوي الأصوات يكون صوت الرئيس مرجحا“ وفي حالة مجلسي القضاء العدلي والمالي، يستحيل الاجتماع بما أن تركيبة كل منهما تتكون من ثلاثة أعضاء فقط بسبب الشغورات داخلها.
قد يبدو الأمر معقدا لغير المتابعين لعمل المجلس الأعلى المؤقت للقضاء الذي خط الرئيس قيس سعيد قانونه بيده، لكن يمكن تبسيطه بمعادلة سهلة وهي أن مجلس القضاء لا يمكنه القيام بدوره بسبب شغور في تركيبته المترتب عن خلل كبير في تركيبة مجلسي القضاء العدلي والقضاء المالي، وهما من مكوناته الثلاثة إلى جانب مجلس القضاء الإداري، كان سبب هذا الخلل هو شغور في منصب رئيس أول لمحكمة التعقيب الذي يضطلع بدوره بخطة رئاسة المجلس الأعلى للقضاء ومجلس القضاء العدلي، وفي خطة رئيس محكمة المحاسبات الذي يترأس مجلس القضاء المالي بعد تقاعدها، ولم يقع سد ذلك الشغور منذ 2023، أما بقية الشغورات في المجلسين فقد تسببت فيها تسميات في خطط جديدة للقضاة المنتمين لهما بالصفة، ولم يقع دعوة من يعوضهم لأداء اليمين أمام رئيس الدولة الذي يحتم عليه القانون ذلك الدور.
يد السلطة التنفيذية على القضاء
ينص الفصل 19 من قانون المجلس الأعلى المؤقت للقضاء على أنه في حالة الشغور النهائي في أحد المجالس المكونة للمجلس الأعلى المؤقت للقضاء، يعاين المجلس حالة الشغور النهائي ويعلم بها رئيس المجلس المعني الذي يتولى بدوره إعلام رئيس الحكومة، غير أنه في حالة مجلسي القضاء العدلي والمالي، لا يمكن القيام بهذه الخطوة لأنهما دون رئيس.
ووفقا للمرسوم ذاته، فإنه في حالة الشغور النهائي في تركيبة المجلس، تتم إحالة قائمة الترشحات إلى رئيس الجمهورية في أجل لا يتجاوز 21 يوما من تاريخ حصول الشغور النهائي. إذا انقضى هذا الأجل دون تعيين، لرئيس الجمهورية تعيين من يراه مناسبا ممن تتوفر فيهم الشروط المنصوص عليها في المرسوم.
يقول أنس الحمايدي رئيس جمعية القضاة التونسيين في تصريح لنواة إنه تم اقتراح مجموعة من أسماء القضاة مرشحين لسد الشغور في المجلس المؤقت للقضاء المالي وذلك بعد إحالة الرئيس الأول لمحكمة المحاسبات على التقاعد شأنه شأن الوكيل الأول وممثل النيابة العمومية في المحكمة ذاتها، غير أنه لم يجب على أي اقتراح، كما أن سعيّد لم يدع القاضي الذي يشغل خطة أقدم رئيس دائرة استئنافية بمحكمة المحاسبات لأداء اليمين وذلك بعد تسمية القاضية نرجس السلامي في خطة وكيل الدولة العام في المحكمة ذاتها، وهو ما أدى إلى شلل في المجلس المؤقت للقضاء المالي بأن تركيبته منقوصة. ويضيف الحمايدي:
يعاني المجلس الأعلى المؤقت للقضاء من صعوبة في أداء مهامه بسبب عدم استكمال التركيبة القانونية لمجلسي القضاء العدلي والمالي، وبالتالي أصبح القضاء مسيّرا عن طريق مذكرات عمل تصدرها وزيرة العدل التي تقوم بالتسميات بصفة غير قانونية عن طريق مذكرات تصدرها على طول العام. كما أنه ليس من المعقول أن يظل المجلس المؤقت للقضاء المالي مجمّدا بإرادة السلطة خاصة أن محكمة المحاسبات هي الهيكل القضائي المكلف بالرقابة على المال العام وفي ظلّ محطة انتخابية مهمة عاشتها تونس دون هيكل قضائي مالي مستقل. تتحمل السلطة التنفيذية هذا الشلل المتعمد لأن قرار التعيين والدعوة لأداء اليمين في يدها، وعوض سد الشغورات في المجلس الأعلى المؤقت للقضاء، استولت على مهامه في التعيين وفي الترقية والنقل وقامت بالنقل التعسفية وترقيات المكافآت لمن يقبل بأوامرها وهي وضعية منذرة بالخطر والانهيار.
في سبتمبر 2023، انتقدت جمعية القضاة التونسيين في بيان لها عدم احترام السلطة التنفيذية للقانون الأساسي للمجلس الأعلى المؤقت للقضاء وذلك بتسميتها المتفقد العام بوزارة العدل والرئيس الأول لمحكمة الاستئناف بتونس والوكيل العام لدى محكمة الاستئناف، وهي خطط قضائية سامية تقتضي حسب المرسوم عدد 11 لسنة 2022 فتح باب الترشح لها حيث تقع التسمية بناء على ترشيح من المجلس المؤقت للقضاء العدلي الذي ينص عليه الفصل 19 من المرسوم.

ينص المرسوم عدد 11 لسنة 2022 المنظم للمجلس الأعلى المؤقت للقضاء الذي أصدره الرئيس قيس سعيد على أن المجلس يعتمد عند النظر في المسار المهني للقضاة على ”مبادئ تكافؤ الفرص والشفافية والكفاءة والحياد والاستقلالية“ ويشرف المجلس عن طريق المجالس القضائية الثلاثة المكونة لتركيبته على شؤون القضاء حيث يحدد كل مجلس من المجالس الثلاثة كل فيما يخص احتياجات المحاكم والشغورات الحاصلة في الخطط والوظائف القضائية وينظر في مطالب النقل والترقيات، كما يعلن المجلس الأعلى للقضاء عن ”الحركة القضائية مرة واحدة في السنة في أجل أقصاه موفى جويلية من كل سنة ويمكن للمجلس عند الاقتضاء إجراء حركة استثنائية خلال السنة القضائية“. كما أن من مهام المجلس الأعلى المؤقت للقضاء تعيين أربع أعضاء بالمحكمة الدستورية، وبقائه على حاله يجعل مهمة تركيز المحكمة الدستورية مسألة صعبة المنال.
يمثل المجلس الأعلى المؤقت للقضاء أحد الضمانات القوية لاستقلالية القضاء، غير أن الشغور المتعمد في تركيبته يجعل مسألة ضمان استقلالية القضاء محل تشكيك خاصة أن السلطة التنفيذية ممثلة في وزارة العدل ورئاسة الجمهورية لم تستجب إلى مطالب الهياكل المهنية لسد الشغور في المجلس. وقائع وتفاصيل قد تبدو خارج دائرة اهتمام عموم المواطنين، لكنها تشرح بدقة كيف ركّعت السلطة القضاء وحولته إلى وظيفة تترجم رغبات الحكم وتغلفها باسم الشعب عند اصدار أحكامها.
iThere are no comments
Add yours