على اختلاف القطاعات والقوانين المنظمة وفي الوقت الذي احترفت فيه السلطة خطاب السيادة الذي يتبخر بمجرد النطق به، ارتفع نسق تتبع النشطاء النقابيين على غرار ما يحصل في قطاع العدل او عدد من الشركات الاجنبية الناشطة في قطاع الخدمات، حيث تتحوّل المطالب المهنية إلى تهديدات، ويعامل التنظيم النقابي كفعل مريب يستدعى بسببه التأديب أو الطرد أو حتى التتبع القضائي.
في هذا السياق، تتنزل المظلمة التي تعرض لها المكتب النقابي لشركة ”أرماتيس تونس“ فبمجرد أن بدأ عدد من العمال التفكير في تأسيس تمثيلية نقابية داخل الشركة انطلقت سلسلة من الإجراءات العقابية، استدعاءات داخلية، تهم جاهزة تتعلق بتعطيل الإنتاج، إقصاء تدريجي من مواقع العمل وصولا إلى الطرد. ليست هذه سوى بعض من الممارسات التي دفعت العاملين إلى خوض معركة مزدوجة من أجل حقوقهم المهنية، ومن أجل حقهم في أن تكون لهم كلمة جماعية داخل المؤسسة.
”البلاتو“ .. مشهد يومي للعزلة وامتهان الكرامة
تُعتبر مجموعة ”أرماتيس“ من أبرز الشركات الأوروبية المتخصّصة في مجال مراكز النداء وخدمات العلاقات مع الحرفاء، حيث تأسست في فرنسا عام 1989، وتوسّعت لاحقًا لتشمل أكثر من 20 مكتبا في أوروبا وأفريقيا، بطاقة تشغيلية تزيد عن 9 آلاف موظف. تقدم المجموعة خدماتها لعدد من كبرى العلامات التجارية في قطاعات مثل الاتصالات، البنوك، الطاقة والتجارة الإلكترونية. في تونس، كانت بداية ”أرماتيس تونس“ سنة 2006، بافتتاح أول فروعها قبل أن توسّع الشركة الفرنسية نشاطها بفتح فرع ثانٍ في العاصمة سنة 2022. تشغّل الشركة اليوم أكثر من 800 عاملة وعامل، يعملون بالأساس في الردّ على المكالمات وإدارة الطلبات باللغات الأجنبية، خصوصًا الفرنسية.
العمل في ”أرماتيس تونس“ أو غيرها من مراكز النداء والعلاقات مع الحرفاء لا يشبه أي وظيفة مكتبية عادية، داخل ما يُعرف بالـ”بلاتو“، قاعة ضخمة أشبه بخط إنتاج بشري، يجلس العشرات أمام شاشات الحواسيب في صفوف متلاصقة، يضعون السماعات طيلة اليوم دون انقطاع. الأصوات لا تتوقف، مكالمات متداخلة، تعليمات متوترة، وأوامر صارمة تصدر من المشرفين بنبرة عالية. الضغط النفسي ليس عرضيًا، بل تحول إلى جزء قار من بيئة العمل، وفق شهادات العاملين التي جمعتها نواة.
ريهام، عاملة سابقة بالشركة، تصف في حديثها مع نواة تلك البيئة بـ”غير الإنسانية“، حيث يغيب أدنى قدر من الاحترام، ويُمارَس التسلط بشكل يومي. ”أن ترى المشرف يصيح في وجه زميل أو زميلة أمام الجميع فهذا سلوك روتيني متكرر، وأحيانًا أثناء المكالمة نفسها، كنا نسمع الكلمات الجارحة بشكل متواصل، وأحيانًا يسمعها الحريف أثناء المكالمة. بعض الحرفاء كانوا يسألوننا إذا كنا بخير، و بعضهم يطلب منا أن ندافع عن أنفسنا وأن نغادر هذا المكان.“ كانت هذه كلمات محدثتنا بنبرة تجمع بين الاستياء والأسى.
الوجع لا يقتصر على الضغط اليومي، بل يمتد إلى سياسة الشركة في التعامل مع العاملين الجدد، والتي وصفتها ريهام بأنها ”إقصائية ومهينة“. بعد فترة التدريب، التي قد تدوم أسابيع، يُفصل العشرات من المتدرّبين دون سابق إنذار، دون تبرير أو حتى تواصل. تُعلَّق قوائم اسمية للمطرودين على الجدران، وكأنهم أرقام انتهت صلاحيتها:
لا يُستدعى أحد، لا يُبرَّر القرار. نذهب صباحًا فنجد أسماءنا على القائمة لا أكثر مجرد ورقة على الحائط تفصل بيننا وبين مورد رزقنا.

داخل هذا النظام المغلق، يتآكل الإحساس بالاستقرار. يشعر العامل أنه مهدّد في كل لحظة، لا فقط بفقدان العمل، بل بفقدان صوته، بكرامته، بانتمائه للمكان. تقول ريهام إنها قررت المغادرة بمحض إرادتها. ”لم أُطرَد، لكنني قررت الخروج من هذه الدوامة.“
شهادة ريهام كغيرها من العاملات والعاملين في أرماتيس والتي تم توثيقها تلقي الضوء على ما هو أبعد من حادثة فردية ترتقي إلى نموذج عمل قائم على الهشاشة، يعيد إنتاج عدم الأمان النفسي والمادي يومًا بعد يوم، ويجعل من مراكز النداء مساحات مغلقة على حقوق من يعملون فيها، ومفتوحة فقط على منطق الأرقام والربح السريع. فهذه المراكز التي تُقدَّم عادة كقصص نجاح في التشغيل والاستثمار، تخفي وراء واجهاتها اللامعة واقعًا مضنيًا ينهك النفس قبل الجسد، ويحوّل العلاقة المهنية إلى علاقة مراقبة وترويض. في غياب أي حماية نقابية فعلية.
تأسيس فرع نقابي بأرماتيس .. بداية النهاية
في يوم بدا عادياً داخل أروقة ”أرماتيس تونس“، قرّر عدد من العاملين اتخاذ خطوة اعتبر أصحابها أنها قرار ومبادرة طبيعية ومؤشر على النضج المهني تحت غطاء دولة تحمي وتكفل الحق النقابي بتأسيس فرع نقابي يُعبّر عن مشاغلهم، ويمنحهم الحدّ الأدنى من التمثيل داخل مؤسسة تتّسع يوماً بعد يوم، بينما تزداد فيها ضغوط العمل وهشاشة العلاقة بين الإدارة والموظف. لم يكن القرار مفاجئًا لمن يعرف واقع الشركة من الداخل، بل كان، بالنسبة إلى من أطلقوه، محاولة لإعادة التوازن إلى علاقة مختلّة بين رأس المال والصوت البشري. لكن هذه الخطوة لم تُقابل بحوار ولا بتحفّظ قانوني، بل بإجراءات طرد جماعي استهدفت أغلب من شاركوا في تأسيس الفرع النقابي دون تمكينهم من أي حق في الدفاع عن أنفسهم أو حتى إخطارهم بقرار رسمي، بل بطُرد بعضهم شفاهيًا ومنعهم من دخول الشركة في ضرب واضح لما تضمنته مجلة الشغل والدستور التونسي من ضمانات للحق النقابي.
يتحدث راشد البرهومي لنواة، وهو المسؤول عن المشاريع القانونية وأحد مؤسسي الفرع النقابي بشركة ”أرماتيس تونس“، عن واقعة الطرد الجماعي التي تعرّض لها مع زملائه المؤسسين، بوصفها لحظة فارقة لا فقط في مسيرتهم المهنية، بل في علاقة المؤسسة بمبدأ التنظيم النقابي ككل. يؤكد راشد أن ”الطرد لم يكن مجرد قرار إداري، بل إجراء عقابي سياسي اتُّخذ على عجل لإجهاض أي محاولة لتنظيم صوت جماعي داخل الشركة“. ففي أقل من 24 ساعة بعد الإعلان عن تكوين المكتب النقابي مُنع هو وزملاؤه من الدخول إلى مقر العمل دون سابق إعلام ودون أي إجراء قانوني واضح.
لم نتلقَّ أي إشعار كتابي، لا قرار طرد، ولا استدعاء لجلسة مساءلة، فقط تعليمات شفاهية صادرة إلى أعوان الحراسة تمنعنا من الدخول. كل شيء جرى بصمت، لكن بصرامة مريبة وكأن المطلوب هو تنفيذ الطرد بأسرع وقت، وبأقل ضجيج ممكن.
كما يرى أن ما جرى كان خارجًا تمامًا عن المسار القانوني الذي يفرض، حسب مجلة الشغل وباقي القوانين والمواثيق الشغلية، ضرورة عقد مجلس تأديبي واستدعاء العامل للاستماع إليه قبل اتخاذ أي إجراء نهائي في شأنه. غير أن ممارسة الشركة الفرنسية المنتصبة في تونس لم تتوقف عند الطرد غير المعلن بل تواصلت حين بادر الطرف النقابي بطلب جلسات صلحية لدى تفقدية الشغل بأريانة، فتغيّبت إدارة الشركة عن الحضور في مناسبتين متتاليتين، مكرسة بذلك سياسة اللامبالاة تجاه آليات الحوار. إلا أنها حضرت في جلسة ثالثة عُقدت بمقر ولاية أريانة أنكرت فيها أن يكون الطرد على خلفية نقابية، وقدّمت روايات اعتبرها راشد ”واهية ومتضاربة، لا تستقيم أمام التسلسل الزمني للأحداث ولا حتى أمام التصريحات السابقة للمسؤولين“، مضيفا القول ”نحن طُردنا لا لأننا أخطأنا، بل لأننا قررنا التكتل وتنظيم أنفسنا داخل إطار نقابي قانوني. وهذه هي الجريمة الوحيدة التي لم تتحملها الإدارة“.
ما يقوله راشد البرهومي لا يتعلّق فقط بمظلومية فردية، بل بتأكيد على منطق بات مكرّسًا داخل بعض المؤسسات الخاصة والأجنبية، حيث يُعامل الحق النقابي كتهديد لا كحق، ويُواجه بالإقصاء فيتحول الموضوع، في رأيه، إلى رسالة للجميع، داخل أرماتيس وخارجها بأن التنظيم ممنوع وأن من يجرؤ على رفع صوته يُسحب منه عمله قبل أن يسجل اسمه في سجلات النقابة.
وفي سياق متصل تعليقا على قرار شركة ”أرماتيس تونس“ وصف علي ورق، الكاتب العام للجامعة العامة لتكنولوجيا المعلومات والخدمات باتحاد الشغل، في تصريح لنواة أن الخطوة استهداف مباشر للعمل النقابي وخرق فاضح للتشريعات الوطنية ولمعايير العمل الدولية. ورأى في ذلك تعدّيًا صارخًا على الدستور التونسي الذي يكفل الحق النقابي، مشيرًا إلى أن هذا الاعتداء لا يطال فقط الاتحاد العام التونسي للشغل، بل هو مسّ من كرامة العاملات والعمال وتجاوز لمقوّمات السيادة الوطنية تحت لافتة الاستثمار. ورأى ورق أن ما جرى يعكس مناخًا عامًا من التراجع عن مكتسبات العمل النقابي في تونس، خاصة بعد 25 جويلية 2021، مؤكدًا أن الحقوق لا تُمنح، بل تُنتزع بالنضال والوحدة معتبرا أن استمرار مثل هذه السياسات لا يؤدي سوى إلى إنتاج منوال اقتصادي واجتماعي أعرج لا يوفّر تنمية مستدامة ولا يؤسس لمناخ اجتماعي قادر على مواجهة التحديات ، كما نبّه ورق إلى أن قطاع مراكز النداء يعاني من غياب إطار قانوني منظم، في ظلّ غياب اتفاقية مشتركة تضبط العلاقة بين المؤسسات والعاملين وهو ما يفتح المجال، حسب قوله، أمام مؤسسات تستغل هذا الفراغ لتكريس هشاشة العمل، وترفض أي شكل من أشكال التنظيم النقابي. وفي ما يتعلّق باستراتيجية الجامعة العامة، أكّد علي ورق أن هذه الأخيرة تتحرّك من موقع تمثيلي وطني عبر الاتحاد العام التونسي للشغل وأيضًا من خلال انخراطها في الشبكة الدولية للنقابات التي تضم أكثر من 20 مليون منخرط وهو ما يمكّنها، بحسب قوله، من توسيع دائرة الضغط وطنياً ودولياً لفرض احترام الحق النقابي والقانون، وحماية كرامة العمال وديمومة المؤسسات التي تلتزم بضوابط السيادة الوطنية، والتي ترسخت في ملف عمال وعاملات شركات أرماتيس وما لاقته عملية طردهم من دعم دولي عبر بيانات تضامنية من عدد كبير من النقابات الأجنبية.
ما بعد الطرد .. حتى التضامن محظور
في خضم الصراع النقابي الذي خرج من أسوار ”أرماتيس تونس“، لم تقتصر سياسة الإدارة على طرد مؤسسي النقابة بل تجاوزتها إلى استهداف كل من أبدى تضامنًا معهم. فبعد الطرد المفاجئ للمؤسسين واجه العملة الذين رفضوا الخضوع لضغوط الإدارة أساليب هرسلة متواصلة، تضمنت مراقبة تحركاتهم داخل الشركة وفرض إقرارات بعدم دعم النقابة فضلًا عن استهداف كل تعبير عن الحياد أو التضامن.

مهى قصيلة ، شهادة أخرى من داخل بلاتو ”أرماتيس تونس“، لم تكن تخطّط للانخراط في أي صراع مهني أو نقابي وفق شهادتها لنواة، هي كانت تبحث ككثير من زميلاتها عن فرصة عمل مستقرة في مجال يوصف لمن لم يعش التجربة بأنه ”واعد“ خاصة لمن يتقنون اللغات الأجنبية. سنتان قضتهما داخل الشركة، لم تكن خلالهما على خلاف مع الإدارة، ولا من بين حزام الدعم لأي تحرك نقابي لكنها اليوم تُصنَّف ”عنصرًا مشاغبًا“ و”مُعكِّرة لأجواء العمل“، وقد طُردت بموجب بند تقول إنه لا وجود له في أي مدونة سلوك مهنية.
تعود القصة، بحسب مهى، إلى ما بعد طرد مؤسسي الفرع النقابي بالشركة فقد تسببت تلك الخطوة في صدمة داخلية ولقيت تعاطفًا واسعًا بين العاملين من منطلق تضامن اجتماعي طبيعي مع زملاء مطرودين يواجهون شبح البطالة. في محاولة للسيطرة على الوضع، قررت الإدارة توزيع أوراق على الموظفين تطلب منهم التوقيع على إقرار بعدم دعم فكرة إنشاء نقابة داخل المؤسسة. ”كان ذلك صادمًا، ورقة تُفرض عليك، عليك أن تمضيها، أو تُصبح مشبوهًا لأنك عبرت عن رأيك و لم تدعم الشركة ضد المطرودين“ مهى لم توقّع على مطلب الشركة ولم تكن الوحيدة، اكتفت بقولها إنها لا تنوي التورط في أي إجراء قد يُستخدم لاحقًا ضد زملائها، ومنذ تلك اللحظة بدأ ما تصفه ”بالمطاردة الباردة“.

استدعاءات غير مبرّرة، أسئلة متكررة حول مواقفها، مراقبة تفاعلاتها على مواقع التواصل الاجتماعي. ”كانوا يتابعون التعليقات أو إشارات الاعجاب على منشورات تتحدث عن النقابة أو الزملاء المطرودين. حتى حديثي الجانبي مع زميلة في استراحة قصيرة كان يُستدعى لاحقًا كدليل على أنني أحرّض الآخرين“. تضيف مهى أن التعامل كان أقرب إلى أساليب الضبط البوليسي بالمراقبة، التهديد، والإيحاء المستمر بأنها تحت المجهر.
الذريعة التي استُخدمت لطردها جاءت، في نظرها، لتُجسّد عبثية هذا المسار. ”قيل لي إنني أعكّر مزاج العمل. لا دليل، لا وثيقة، فقط محادثة خاصة مع زميلة، أُخذت ضدي بعد أن تم الضغط عليها من قبل الإدارة وتم طردي من العمل.“ ورغم أن البند الذي طُردت بموجبه لا يستند إلى أي قاعدة تأديبية واضحة، إلا أن القرار كان نهائيًا.
في ختام شهادتها، تشير إلى أن ما حصل معها ليس استثناءً، بل دليل على مناخ أوسع يسود داخل المؤسسة، حيث الولاء والكفاءة يُقاس بالصمت أما الاختلاف يكلفك فقدان عملك وأن مجرد الحياد يترجم إلى تحريض. محدثتنا تصف أرماتيس بأنها ”مكان تُدفن فيه الأصوات ولا تسمع“، وتؤكد أن ما وقع كشف لها كم هو هشّ حق العامل في هذا القطاع، وكم هي ضعيفة الحماية القانونية حين يُقرَّر إسكاتك، وهي لا تطلب العودة بل تقول بوضوح إنها لا تريد أن تُعيد التجربة ”لا أرغب في العودة إلى ذلك السجن المسمى أرماتيس ما أطلبه فقط هو مستحقاتي والباقي شأن ضميرهم، لكنّي لا أنسى ولن أنسى.“
ما حدث في ”أرماتيس“ لا يمكن فصله عن سياق سياسي أوسع يشهد تراجعًا في الحريات العامة والنقابية وتناميًا في منطق الزجر بدل التفاوض وإعادة إنتاج الصمت بأدوات قديمة بالتلويح بورقة الطرد وقطع الارزاق، ما يكشف أن قضية ”أرماتيس تونس“ و قبلها مصنع ريتون بالسبيخة ليست حالات شاذة، ولا تختزل في طرد مجموعة من النقابيين أو هرسلة عدد من العاملين إنما هي مرآة تعكس انزلاقات أكبر تمسّ جوهر العلاقة بين العامل وصاحب العمل والدولة في مناخ سياسي يتجه شيئًا فشيئًا نحو تضييق الفضاءات العامة ، حيث تقدم النقابة في هذه الحالة لا كشريك في بناء توازنات اجتماعية، بل كعدو وجب اجهاضه قبل ولادته، في تناقض لم يسبق أن سجلنا له مثيلا بين خطابات السيادة الحنجورية وواقع انبطاح كامل لسلطة رأس المال الاجنبي.
iThere are no comments
Add yours