بدأت موجة استهداف المسؤولين النقابيين منذ مطلع هذا العام، خاصة مع إيقاف كاتب عام نقابة شركة الطريق السيارة أنيس الكعبي في فيفري الماضي وإحالته على المحاكمة بتهم تتعلق باستغلال موظّف عمومي لصفته، قصد الإضرار بالإدارة وتعطيل خدمة عمومية وذلك بالاستعفاء جملة من الخدمة طبق أحكام الفصلين 96 و107 من المجلة الجزائيّة. وحسب بيان الاتحاد العام التونسي للشغل فإن ”هذا الإيقاف جاء على خلفية الإضراب المقرر من نقابة الطرقات السيارة يومي 30 و31 جانفي الماضي“ ويندرج أيضا ضمن سياسة تعتمدها السلطة بهدف ضرب العمل النقابي وهرسلة النقابيين.

مسيرة الإتحاد العام التونسي للشغل. 4 مارس 2023, تونس العاصمة. صور : محمد كريت

المحاكمات في مواجهة المطالب النقابية

لم يكن أنيس الكعبي، كاتب عام نقابة الطرقات السيارة، النقابي الوحيد الموقوف على ذمة قضية عدلية. فقد أصدرت المحكمة الابتدائية بتونس في 17 مارس الماضي أحكاما بالسجن لأربعة أشهر في حق 16 نقابيا بالجامعة العامة للنقل وذلك بتهم تتعلق بتعطيل حرية العمل وتهم الثلب والشتم ونشر أخبار زائفة وفق المرسوم 54، في قضية شغلت الرأي العام وأثارت غضبا واسعا في صفوف النقابيين، ما دفع بالاتحاد العام التونسي للشغل إلى تنظيم وقفات احتجاجية ومسيرات في مختلف ولايات الجمهورية.

القضية أساسها تحرك نقابي للجامعة العامة للنقل بوزارة النقل أعلنت عنه يوم 29 ديسمبر 2022 للمطالبة بتسليم رواتب شهر ديسمبر ومنحة آخر السنة لفائدة أعوان الشركة. يُحاكم في هذه القضية الكاتب العام للجامعة العامة للنقل وجيه الزيدي وأعضاء بالجامعة وبالاتحاد الجهوي بتونس وبالنقابة الأساسية لشركة نقل تونس.

وفي السياق نفسه، رفعت وزيرة الثقافة شكوى في حق نقابيين اثنين لتسارع النيابة العمومية إلى الاحتفاظ بهما لمدّة 48 ساعة يوم 18 مارس الجاري، على خلفية قيام الكاتب العام لنقابة أعوان وزارة الثقافة ناصر بن عمارة وزميله نادر الصماري بواجبهما النقابي، إثر تدخلهما لفض إشكال يتعلق بنقل تعسفية حسب تصريح الصماري. الموضوع تحول فجأة من تدخل نقابي لفض إشكال مهني إلى تعزيزات أمنية اقتادت كاتب عام النقابة إلى فرقة الحرس بالعوينة، حيث اكتشف قضية في حقه رفعتها وزيرة الثقافة بتهمة الاعتداء عليها لفظيا وهضم جانب موظف عمومي.

عضو المكتب التنفيذي للاتحاد عثمان الجلولي، أفاد نواة بأن ”ما نشهده اليوم هو اعتداء مبرمج على الحق النقابي وحرية التنظم والتعبير فلم نشهد سابقا محاكمات بهذه الوتيرة ضد النقابيين باستثناء محاكمات 1978 و1984 وهذا في حد ذاته خطير جدا“. وأضاف الجلولي أن الهدف هو تخويف النقابيين وترهيبهم من جهة، ومحاصرة الاتحاد العام التونسي للشغل سياسيا من جهة أخرى وممارسة الوصاية عليه بهدف منعه من لعب دوره الوطني حسب قوله.

ويعتبر النقابيون أن ضرب العمل النقابي لا يقتصر فقط على محاكمات النقابيين بل تجاوز ذلك لأعلى هرم السلطة، الذي لا يخفي عداءه للاتحاد وغالبا ما يتحدث عنه بلهجة عنيفة أو على الأقل لا ودّ فيها.

قيس سعيد والتصعيد المستمر ضدّ اتحاد الشغل

تواترت قضايا النقابيين والمناضلين الاجتماعيين في الفترة الأخيرة ممّا زاد من حدة الاحتقان السياسي والاجتماعي في البلاد، فمثلما ساهمت القبضة الأمنية في تراجع الاحتجاجات الاجتماعية مقارنة بنفس الفترة من العامين الماضيين، ساهمت محاكمات النقابيين في بث مناخ من التخويف والصدام بين السلطة والاتحاد العام التونسي للشغل. ذلك أن ضرب الحق النقابي لا يتمثل في محاكمة مسؤول نقابي، بل إن تهميش المطالب النقابية وعدم تلبية الدعوات لحضور الجلسات التفاوضية الصلحية بالتفقدية العامة للشغل والمنشور عدد  20 والخطاب الرسمي المعادي للاتحاد… كلها ممارسات وسياسات تعبر عن معاداة حقيقة للعمل النقابي.

لا يقتصر ضرب الحق النقابي في تونس بعد 25 جويلية2021  على محاكمات المسؤولين النقابيين، ولم تبدأ هذه الممارسات مع إيقاف النقابي أنيس الكعبي ومحاكمته، بل هي سياسة عامة انتهجتها حكومة قيس سعيد منذ موفى سنة 2021 مع إصدار المنشور عدد 20 الذي منع جميع المسؤولين في الوزارات والإدارات والمنشآت من التفاوض مع النقابات وإبرام اتفاقات معها دون موافقة شخصية من رئيسة الحكومة. ربما يعتقد البعض أن هذا المنشور، الذي رفضه اتحاد الشغل بشدة وطالب بسحبه، يهدف إلى تنظيم المفاوضات وكلفتها المالية على ميزانية الدولة.

لكن الممارسة أثبتت أن الهدف منه هو تهميش التحركات النقابية وعدم التفاعل مع برقيات الاضراب والمطالب النقابية والتعامل معها بتهميش وبرود، وفي أقصى الحالات تمضي الحكومة اتفاقات مع الطرف النقابي وتتراجع عنها بسرعة. مما يزيد من التوتر والاحتقان الاجتماعي، مع موقف سلبي لوزارة الشؤون الاجتماعية التي التزمت الحياد بعد أن كانت لعقود طويلة حاضنة للحوار الاجتماعي ومكانا للاتفاقات والتفاهمات بين الحكومة والنقابات وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل.

من جهته، كان رئيس الدولة أحد عوامل التوتر بين السلطة والنقابات. فبالإضافة إلى خطابه العنيف ضد اتحاد الشغل ومبادراته، أعلن الرئيس من ثكنة الحرس الوطني بالعوينة مسار ضرب الحق النقابي بالقول إن ”الحق النقابي مضمون بالدستور لكن لا يمكن أن يتحول إلى غطاء لمآرب سياسيّة لم تعد تخفى على أحد وأن من يتولى قطع الطرق أو التهديد بذلك لا يمكن أن يبقى خارج دائرة المساءلة“ وذلك في تعليق له على إضراب نقابة الطرقات السيارة، ومباشرة إثر هذا الخطاب تم إيقاف كاتب عام نقابة الطريق السيارة وإحالته على المحاكمة.

كل ما جرى بعد ذلك لا يعدو كونه جزءًا من سياسة التصعيد ضد الاتحاد التي تجاوزت كل الحدود : طرد استر لينش نائبة الأمين العام للاتحاد الأوروبي للنقابات بعد خطابها أمام التجمع العمالي بصفاقس، منع ماركو بيريز مولينا مسؤول التعاون مع إفريقيا وآسيا بالنقابات الإسبانية من دخول تونس، كلها إجراءات اعتبرتها المركزية النقابية ”خطوة أخرى تصعيدية عدائية تستهدف الاتحاد العام التونسي للشغل والعمل النقابي المستقل“.

و رغم حرص قيس سعيد على توزير شخصيات قريبة من الاتحاد أو قيادات سابقة منه مثل وزير الشؤون الاجتماعية ووزيري الداخلية والتربية، فإن انتصارهم يبدو صريحا لتمشي الرئيس في تهميش دور الاتحاد و تقزيم مكانته الاجتماعية والسياسية، كغيره من المنظمات النقابية و الحقوقية التي تخشى العودة إلى مربع ما قبل 14 جانفي 2011، والانشغال بالدفاع عن نفسها من هجمات السلطة بدل لعب دورها النقابي الحقوقي الوطني في الدفاع عن منظوريها و عموم الشعب التونسي.