لكن هذا التأثير ليس واحدًا، ولا ينتج دائمًا في الاتجاه نفسه. ففي الأردن، مثلًا، ساهم تهميش الثقافة ضمن السياسات العامة في إضعاف المسرح، دون أن يكون تجريف الحياة السياسية وفضاءات العمل العام هو السبب الوحيد. وفي المقابل، تبدو بعض أشكال التعبير الثقافي في تونس – من الألتراس إلى الغرافيتي – كأنها تحاول أن تنتزع لنفسها فضاءً بديلًا حين تُغلق الفضاءات الرسمية. في مصر، نرى كيف ضرب القمع المؤسسي البنية الثقافية المستقلة، لكنه لم يمنع نشوء أدب السجون كتعبير عن الذاكرة والمقاومة الفردية. أمّا في اليمن، فيجد كتّاب في السرد ملاذًا داخليًا للتأقلم مع الحرب والانهيار. في الجزائر، تبحث الثقافة عن فضاءات بديلة لإعادة تشكيل النقاش الثقافي بعيدًا عن الرقابة والتوجيه من الأعلى، أما في لبنان، فتظهر محاولات لكسر المركزية الثقافية التي لطالما احتكرتها بيروت، وتتّخذ هذه المبادرات – خاصة بعد العدوان الإسرائيلي الأخير – بُعدًا جديدًا، حيث تسعى إلى إحياء هوية جماعية أوسع، تُعيد ربط الفعل الثقافي بالمكان والانتماء.
ولا يمكن التفكير في الثقافة اليوم دون التوقف عند فلسطين. إذ تضع الإبادة الجارية في غزة الفن في مواجهة أكثر الأسئلة جذرية: ماذا يعني أن نكتب أو نرسم أو نعرض بينما تُقصف المدن وتُمحى العائلات؟ في مثل هذه اللحظات، يصبح العمل الفني شاهدًا وناجيًا في آن، كما هي حال الأعمال التي قُدّمت في بينالي الشارقة الأخير، حاملةً بقايا الأجساد والبيوت والذاكرة إلى فضاء العرض. ليست هذه لحظة إنتاج ثقافي فحسب، بل لحظة سؤال عن جدوى الفن، وقدرة التعبير على الصمود أمام المحو.
في هذا الملف، نحاول تتبّع كيف تتفاعل الثقافة مع تقلّص المجال السياسي، دون السقوط في التعميم أو البحث عن نماذج «ملهمة» بالضرورة. فبعض النصوص تسلّط الضوء على كيف يمكن للثقافة أن تشكّل فضاءً بديلًا حين تُغلق النوافذ الأخرى، فيما تتوقف نصوص أخرى عند الآثار العميقة للتضييق. وبين هذه الحالات، تتكرر أسئلة مشتركة: كيف يمكن للثقافة أن تبقى حيّة في أنظمة تُقمع فيها السياسة وتُفرّغ فيها الحياة العامة؟ وهل تستطيع الكتابة أو الغناء أو الرسم أن تُعيد ما يُنتزع من الناس تدريجيًا؟ أم أنها فقط تحاول أن تُذكّر بما كان، أو تُبقي أثره حاضرًا؟
في هذا الملف، نتابع تنوّع هذه التجارب. في تونس، يبدو صوت الألتراس في مدرجات كرة القدم كأنه آخر ما تبقّى من فضاء عام يُسمح فيه بالاحتجاج الجماعي. يروي المقال من موقع نواة كيف تحوّلت جماعات الألتراس إلى قوة سياسية وثقافية تعبّر عن الغضب الاجتماعي، وتخوض معركة يومية ضد الرقابة والتضييق، مستخدمة الغناء والهتاف والتيفوهات كأدوات تعبير ومواجهة.
ومن مدرجات الملاعب إلى جدران المدينة، نقرأ كذلك من نواة عن فن الغرافيتي الذي ازدهر بعد الثورة التونسية، ثم بدأ بالتراجع مع عودة القبضة الأمنية وتضييق الفضاء العام. يرصد النص تحولات هذه اللغة البصرية المقاومة، ويسائل إمكانية استمرارها حين تُهدد بالطمس المادي والرمزي معًا.
في الأردن، تبرز حالة مغايرة حيث المسرح لا يُقمع مباشرة، بل يُقصى عبر سياسات ثقافية لا تضعه ضمن أولوياتها. يتابع تقرير حبر تآكل هذا القطاع، ويكشف عن بنية متآكلة من الدعم، وجمهور آخذ في التلاشي، ومهرجانات احتفالية تغطّي على واقع الفقر الثقافي. وهنا لا تُخنق الكلمة، بل تُترك لتموت في صمت.
في لبنان، نذهب مع «ماشالله نيوز» إلى طرابلس، حيث ظهرت مساحة «رمان» الثقافية كمحاولة لكسر المركزية البيروتية وإيجاد حيّز للتعبير والتجمّع في مدينة طالما عانت من التهميش. انطلقت التجربة بعد انتفاضة تشرين 2019، لكنها اكتسبت معنى جديدًا بعد انفجار مرفأ بيروت، وتحوّلت في العام 2024، خلال العدوان الإسرائيلي على غزة وجنوب لبنان، إلى مساحة للربط بين التعبير الثقافي والغضب السياسي، ولاستعادة الانتماء إلى قضية جماعية في لحظة فقدان عام. في هذا السياق، لا تعمل «رمان» كمنصة فنية فقط، بل كمكان يعيد صياغة العلاقة بين الثقافة والمجتمع من خارج المركز.
في الجزائر، حيث يستمر الحقل الثقافي في العمل تحت رقابة رسمية صارمة، تتجه بعض التجارب نحو كسر هذا الإطار عبر خلق مساحات مستقلة للنقاش والإبداع. ترصد المادة من Maghreb Emergent كيف تحوّلت بعض الفضاءات الرقمية وغير الرسمية إلى منصات لإعادة تعريف العلاقة بين الفنانين والجمهور، خارج وصاية الدولة، وضمن محاولات لخلق ثقافة ناقدة متحرّرة من الخطاب الرسمي.
في مصر، يأخذنا الملف إلى قلب القمع المؤسساتي الذي طال الحياة الثقافية المستقلة منذ 2013. ومع ذلك، تتابع المادة من السفير العربي كيف ما تزال الكتابة تتسرّب من بين الجدران، سواء في شكل أدب سجون، أو منصات رقمية بديلة، أو محاولات سينمائية مستقلة تحاول توثيق ما يحدث. لا تغيّره، لكن تمنع نسيانه.
ومن الكتابة بوصفها مقاومة، ننتقل إلى الكتابة بوصفها محاولة لفهم الفقد. في اليمن، حيث الحرب وتبعاتها المأساوية، تتجه أقلام الكتّاب نحو الرواية، كما لو أن السرد هو اللغة الوحيدة الممكنة. ترصد المادة من أوريان 21 ازدهار الرواية في السنوات الأخيرة، كوسيلة لإعادة ترتيب الفوضى حين لا يعود الواقع قابلًا للفهم.
وتصل الأسئلة ذروتها حين نصل إلى فلسطين. في لحظة تُباد فيها مدينة، وتُمحى عائلات كاملة، يصبح الفن شاهدًا ونداءً في آن. تتابع المادة من مدى مصر مشاركة فنانين فلسطينيين من غزة في بينالي الشارقة، حيث وصلت أعمالهم من تحت الركام إلى فضاء العرض، حاملةً الذاكرة والألم والصمود. لا يُقدَّم الفن هنا بوصفه ترفًا، بل كفعل نجاة أخير.
ومن الخارج، ومن منظور الشتات، نستمع في هذا التقرير من «باب الميد» إلى أصوات فناني الهيب هوب من أصول عربية في إيطاليا، الذين يستخدمون الموسيقى كلغة احتجاج وهوية. يرفضون اختزالهم كمهاجرين، ويغنّون بلهجاتهم وأوجاعهم لتثبيت حضورهم في مجتمع لا يعترف بانتمائهم الكامل. في هذه التجربة، تستعيد الثقافة دورها كأداة اعتراف واحتجاج حتى حين تتجاوز الجغرافيا.

انجز هذا المقال كجزء من نشاط ”شبكة المواقع الاعلامية المستقلة بخصوص العالم العربي“، وهي إطار تعاون إقليمي تشارك فيه ”السفير العربي“، و”مدى مصر“، و”مغرب اميرجان“، و ”بابل ماد“ و ”ماشا الله نيوز“، و”نواة“، و”حبر“ و”أوريانXXI“.
iThere are no comments
Add yours