البداية كانت بحازم عمارة ابن 25 ربيعا، نبهت والدته وناشدت بل وتوسلت وقدمت عشرات الوثائق التي تؤكد خصوصية وضع ابنها الصحي الذي يتطلب متابعة دقيقة لا تتوفر إلا بقسم القلب بمستشفى الرابطة. بكل ألم الدنيا، استجمعت الأم الثكلى قواها وروت لنا كيف سخروا منها وأهملوا طلبها والملف الطبي لابنها، ليفارق حازم الحياة في مستشفى غير مجهز لنجدته إثر نقله على عجل من السجن بعد فوات الأوان. الإهمال المخزي تواصل حتى بعد الوفاة فلا جهة رسمية أبلغت الأم برحيل فلذة كبدها، بل مريض بالمستشفى روى لها كيف صارع ابنها نوبات لساعات مكبل القدمين بالأصفاد في سرير بلا رعاية إلى أن سلّم الروح.

بعد حازم توفي شاب آخر 22 سنة، محمد أمين أصيل ولاية جندوبة، هو الآخر كان يعاني مشاكل صحية من بينها السكري، كان موقوفا بسجن برج العامري، طُلب من عائلته عند الزيارة أن ينقلوا له القفّة“ إلى مستشفى شارل نيكول بالعاصمة بعد تعرضه لإشكال صحي بسيط، صُعقت العائلة عند وصولها الى المستشفى لما تم توجيهها إلى ثلاجة الموتى حيث يرقد محمد أمين منذ أيام بلا خبر ولا اعلام. بعد محمد أمين جاء الدور على وسيم أصيل صفاقس الذي أفاد والده بأن آخر زيارة التقى فيها بابنه كان منهارا لبقائه 4 أيام دون أكل، بعد أسابيع من المعاناة ليتمكن من الحصول على أدوية ضرورية لسلامته الجسدية والنفسية، وحتى بعد تمكينه منها لم يكن يتلقاها بانتظام في مواقيتها المضبوطة المحددة.

رحلة تقصي الأخبار الموجعة هذه أعادتنا إلى قلب العاصمة في أحد أعرق الأحياء الشعبية، حومة ترنجة“، إثر وفاة منتصر 6 أيام فقط بعد إيقافه وايداعه بسجن المرناقية. ترددت العائلة كثيرا قبل الاتصال بنا لتقديم شهادة موجعة أخرى تفيد بتعرض الضحية للعنف الشديد خلال الإيقاف، عنف تجاوز منتصر ليطال ابنته القاصر. قبل أن تتمكن العائلة من زيارة ابنها في السجن أُبلغت بنفس طريقة التهرب من المسؤولية عبر أحد أبناء الحي أن منتصر توفي وسط غموض مريب.

كل هذا ولم تكلف السلط نفسها عناء اصدار بلاغ رسمي يفسر ما حصل، هل هي وفيات نتيجة التقصير في توفير العناية الطبية أم هي ناتجة عن سوء المعاملة والإهمال؟ ولماذا تتالت بهذا الشكل الغريب المفزع، تتالي الصمت الذي تعاملت به السلطة مع هذه الأخبار التي غُيبت عن الإعلام الحكومي الناهل من جيوبنا وضرائبنا، ليلتزم الصمت الجبان المرتبك..

وهل يعقل ان تنزل السلطة من علوّها الشاهق لتجيب العائلات أو ما بقي من الاعلام الذي تدفعه نفسه الأمارة بالسوء إلى طرح مثل هذه المواضيع التي تفتح أبواب التتبعات والسجون على مصراعيها وتمنح فرصة السباب لذباب الكتروني قذر لايجيد غير قراءة العناوين والسخرية المنحطة من عذابات عائلات المتوفين؟ وقائع موت مستراب متتالية دفعت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان إلى إصدار بلاغ بتاريخ 5 أوت عنوانه انتهاكات خطيرة في السجون التونسية، الرابطة تدق ناقوس الخطر“.

رغم كل هذا الوجع، وجع على الحال الذي صارت عليه تونس بعد ان اعتقدت أنها تخلصت من عبث الظلم والاستبداد دون رجعة، ما يمنحنا القوة لرفع لواء المقاومة الإعلامية لرداءة وظلم لم نرى لهما مثيلا هو ما قالته والدة منتصر أحد ضحايا الموت المستراب، فبعد تردد من تبعات فضح ما حصل لابنها قالت: أنتم الي صورتو أم حازم الي توفى في حبس بلّي؟ تفرجت فيها وقررت بش نتكلم كيف ماهي تكلمت“ كان لهذه الكلمات وقع سحري على فريق نواة ينسي التعب ويشحذ العزائم ويمنح الرسالة الإعلامية معنى وجدوى، لذلك نكتب هذه السطور لنرفع الصوت ضد الموت المستراب، لنمسح دموع الثكالى ونذكّر السلطات أننا مواطنون لا رعايا، لا نخشى في قول الحق لومة مطبّل يصرف نظره عنوة عن مواضيع كان يقيم الدنيا ولا يقعدها لأقل منها قبل 25 جويلية 2021.

فما الذي يحدث في السجون التونسية؟ وهل من جدوى ونتيجة ناجعة لزيارات المنظمات الحقوقية للسجن ومراكز الايقاف، خاصة أن الشهادات صارت تتهاطل علينا من كل حدب وصوب تفيد بتعرض مساجين اشتكوا ظروف إقامتهم لممثلين عن جمعيات حقوقية، لانتقام مباشر بعد مغادرة الوفد الحقوقي، حتى صار المساجين يفضّلون الصمت على سوء المعاملة ويتجنبون لقاء الحقوقيين تجنبا للانتقام والسيلون“ وامشي تحت الدروج“ في زوايا بعيدة عن كاميرات المراقبة. آخر التشكيات التي بلغتنا والتي تثبّتنا منها بأنفسنا في عدد من مكاتب البريد تتعلق بالانقطاعات الطويلة، بالأيام لا بالدقائق أو الساعات، للشبكة الريزو“ داخل السجون التي يرسل المواطنون عليها أموالا لذويهم المودعين خلف القضبان والتي يقتنون بفضلها ما توفر من مواد وأكل وسجائر من متاجر السجن، ما تسبب في مشاكل عدة وعنف بين المساجين لعجزهم عن خلاص ديون متخلدة فيما بينهم حان وقت سدادها.

نكتب سطورنا هذه ونتساءل إن بقي في البلاد متسع من العقل والمنطق يرفض الصمت على ما سبق ذكره، إن مازالت في البلاد شجاعة تحمّل المسؤولية والاعتراف بالأخطاء والاستعداد للإصلاح ما أمكن، بدل المكابرة والهروب إلى الأمام والتخفي المضحك الدائم وراء خطاب مؤامراتي صدّع رؤوسنا وصار محل سخرية وتندر الجميع في تونس، بمدنها وقراها بأحيائها الشعبية وأريافها.