تروي الميثولوجيا الإغريقية قصة شاب يدعى إيكاروس احتُجز صحبة والده وسط متاهة. صنع الأب جناحين من الشمع والريش وحلقا عاليا للهرب، لكن إيكاروس تجاهل نصيحة والده واقترب كثيرا من الشمس فذاب الشمع وسقط في البحر. قبل قرابة نصف قرن، أنجز الرسام الهولندي بيتر بروغل الأكبر لوحته المعروفة باسم ”مشهد سقوط إيكاروس“، ويظهر في اللوحة فلاح يحرث أرضه وسفن تواصل مبحرة دون أن تبالي بسقوط إيكاروس أو غرقه. جاء توصيف المكتبة البريطانية للوحة كالآتي ”إذا نظرت بعناية، يمكنك أن ترى ساقي إيكاروس وهو يغرق، في أقصى عمق اللوحة. الأرض باقية: الفلّاح يواصل حرثه. السفن التجارية تتابع أعمالها. الحياة تمضي. موت شخص سيئ الحظ لا يكتسب أهمية أكبر من سقوط عصفور صغير. البشرية تخدع نفسها إن ظنت غير ذلك“.
ليس من المبالغة وصف ”مشهد سقوط إيكاروس“ بالنبوءة، إذ كيف يمكن للوحة رسمت قبل قرابة نصف قرن أن تتماهى تماما مع مشاهد يعيشها مئات المهاجرين غير النظاميين التونسيين في كل مرة تلفظ قوارب الهجرة حمولتها قرب السواحل الإيطالية، فتطفو الأجساد دون مبالاة في حين تواصل سفن ”فرونتكس“ طريقها دون توقف؟
تتعامل حكومة إيطاليا مع ملف المفقودين والموتى من المهاجرين غير النظاميين التونسيين بلا مبالاة وهو الموقف ذاته الذي تنتهجه تونس في ملفات كثيرة منها قضايا التونسيين الذين توفوا داخل السجون ومراكز الاحتجاز الإيطالية في ظروف مسترابة ومئات المفقودين الذين ما تزال عائلاتهم تلاحق حلما بدفن ما تبقى منهم.
سجون تقطف أرواح عشرات التونسيين
منذ أكثر من أسبوعين ترقد جثة محمد أمين الرياحي، وهو مهاجر غير نظامي تونسي، في ثلاجة الأموات في أحد مستشفيات إيطاليا بعد أن توُفي في ظروف مسترابة في أحد السجون الإيطالية في منطقة تريفيزو.
كان محمد أمين في الحادي والعشرين عاما من عمره يلقّب ب: دانيلو، قدم نفسه للسلطات الإيطالية على أنه قاصر لم يتجاوز سن السابعة عشرة، لذلك تم إيواؤه في مركز لرعاية القصر في فينتشيزا، لكنه هرب من المركز وذهب للسكن صحبة صديقه.
تروي شقيقته نورهان ما حصل لأخيها وتقول في تصريح لنواة ”لم يشأ أخي العيش في مركز رعاية القصر فهرب وذهب إلى منزل صديقه. يوم الأحد 10 أوت، كان يتجول صحبته فاعترضه شرطي وسأله: هل أنت دانيلو قبل أن تلتحق ثلاثة فرق أخرى ويتم تعنيفه وضربه بالغاز الخانق قبل القبض عليه. اتصل بنا صديقه وأعلمنا بحيثيات إيقافه ثم اتصلت بنا زوجة صديقه وأعلمتنا أن أخي حاول الانتحار وأنه نُقل إلى المستشفى ثم أعيد للسجن. عشنا لحظات من القلق قبل أن تتصل بنا جهات رسمية إيطالية وتعلمنا أن شقيقي دخل في غيبوبة“.

يوم الأربعاء 13 أوت، نشرت صحيفة إيطالية خبر وفاة محمد أمين الرياحي وذكرت أن وفاته ناتجة عن انتحاره بواسطة سروال دجينز، لكن العائلة كذبت تلك الرواية لسببين الأول أن ابنها كان يرتدي تبانا قبل إيقافه من الشرطة الإيطالية والثاني هو أن إحدى قريبات الضحية ذهبت للمستشفى ووثقت عبر فيديو أثر جرح عميق يمتد من رأسه وصولا لأذنه كما غابت أية آثار خنق حول رقبته.
تنتظر عائلة محمد أمين وصول جثمان أبنها لدفنه بعد صدور تقرير الطب الشرعي. تضيف شقيقة الضحية لنواة:
ليست لدينا ثقة فيما سيقوله الطب الشرعي في إيطاليا، نعلم أن وفاة أخي مسترابة خاصة أننا نملك أدلة تكذب الرواية الرسمية، كما نعلم أنه في حال طالبنا بإعادة تشريح الجثة ستطول إجراءات عودته إلى تونس لذلك خيّرنا القيام بإجراءات جلب جثمانه مباشرة بعد صدور تقرير الطبيب الشرعي حتى نطفئ نارا تشتعل في قلب أمي.
لم يكن محمد أمين الرياحي المهاجر التونسي الوحيد الذي توفي في السجون الإيطالية، فمنذ بداية العام 2025، سُجلت تسعة وفيات لمهاجرين تونسيين أغلبها مسترابة، وهو رقم مرتفع يقارب عدد الوفيات كامل سنة 2024 الذي شهد عشرة حالات وفاة لتونسيين في السجون الإيطالية.
رغم حجم الكارثة، لم تصدر السلطات التونسية أو تمثيلياتها الديبلوماسية في إيطاليا أي موقف رسمي ولزمت الصمت.
بعد تأخير تجاوز الأسبوعين، تم إمضاء مذكرة التفاهم بين تونس وأوروبا في القصور المظلمة بعيدا عن أعين الصحافة. وعود أوروبية فضفاضة اجترت برامج تعاون قديمة، مقابل التزام تونسي بقبول “حراقتها” المنتشرين بالآلاف دون وثائق في دول “الشنغن”.
يوم 31 مارس 2024، توفي مهاجر تونسي يبلغ من العمر 29 سنة في سجن فورلي، ووجهت النيابة العمومية هناك تهمة القتل غير العمد ضدّ مجهول، وهي الوفاة الرابعة للتونسيين التي سُجلت في السجون الإيطالية في ظرف ثلاثة أشهر. كان ذلك قبل قرابة نصف شهر من اللقاء التاريخي الذي جمع رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني والرئيس قيس سعيد والذي أعقبه إمضاء مذكرة التفاهم التي رفضت السلط الكشف عن فحواها. خلال ذلك اللقاء، عبّر سعيّد عن ”اعتزاز تونس بعلاقاتها التاريخية المتينة مع إيطاليا، والتأكيد على الحرص على مواصلة تعزيز سنّة التشاور والتنسيق وتوثيق روابط التعاون والشراكة وتنويعها بين البلدين الصديقين، في الإطارين الثنائي ومتعدّد الأطراف، خدمة للمصلحة المشتركة للشعبين التونسي والإيطالي“ لكنه لم يثر ولو بالتلميح إلى مسألتين تؤرق عائلات المهاجرين التونسيين في إيطاليا وهي العدد الكبير للوفيات المسترابة داخل السجون الإيطالية وقضية المهاجرين غير النظاميين الذين فُقدوا قرب السواحل الإيطالية.

أجساد في مقابر مجهولة
منذ أربعة عشر عاما، تبحث عائلات تونسية عن مصير أبنائها وبناتها الذين فُقدوا خلال رحلات هجرة غير نظامية نحو إيطاليا بعد رحيل بن علي سنة 2011. لا يُعرف العدد الكامل للمفقودين في البحر منذ ذلك العام، لكن تحت ضغط من عائلات الضحايا، تشكّلت لجنة تحقيق صلب وزارة الشؤون الاجتماعية في جوان 2015، وحصرت قائمة ب 501 مفقود بين العامين 2011 و2014، لكن العدد قد يصل إلى الضعف حسب عماد السلطاني المتحدث باسم جمعية الأرض للجميع الذي قال في تصريح لنواة:
وضعت لجنة التحقيق صلب الوزارة تلك القائمة بناء على ملفات تقدمت بها بعض عائلات المفقودين وليس جميعها في المقابل تقدر بعض المنظمات العدد التقريبي ب1500 شخص فقدوا بين العامين 2011 و2014، لا نملك عددا دقيقا للمفقودين طيلة خمسة عشر عاما، لكن من المؤكد أنه تضاعف بشكل كبير.
وفي علاقة بمدى تفاعل رئاسة الجمهورية والرئيس قيس سعيد مع ملف المفقودين يضيف السلطاني في تصريحه لنواة:
أثناء حملته الانتخابية وقبل صعوده للرئاسة، التقى قيس سعيد عائلات المفقودين، وقال لهم حرفيا تمسكوا بملفات أبنائكم، لكنه منذ أن صعد إلى الحكم تجاهل هذا الملف ولم يشر في أي مرة في خطاباته أو خلال لقاءاته مع رئيسة الوزراء الإيطالية إلى تلك القضية. على مدى سنوات تعتبر تونس شريكة في الجريمة بتجاهل مصير آلاف التونسيين المفقودين الذين يعتبر الكشف عن مصيرهم واجب الدولة.
في 4 جوان 2015، صدر قرار من وزير الشؤون الاجتماعية بالرائد الرسمي بتشكيل ”لجنة مكلفة بمتابعة ملف المفقودين من جراء الهجرة غير الشرعية باتجاه السواحل الإيطالية خلال سنتي 2011 و2012“، وبموجب هذا القرار تتكفل اللجنة بجمع المعطيات المتعلقة بملف المفقودين والتنسيق مع المصالح الإدارية الإيطالية وبمكونات المجتمع المدني الإيطالي للبحث في مصير المفقودين، تركبت تلك اللجنة من ممثلين عن وزارات الشؤون الاجتماعية والعدل والدفاع الوطني والداخلية والشؤون الخارجية.
بحلول العام 2017، لم يعد لتلك اللجنة وجود ولم تصدر أي تقرير يتضمن نتائج عملها وتحول رئيسها إلى ديوان التونسيين بالخارج، وبذلك فقدت العائلات أملها في تدخل جدي للدولة من أجل التنسيق مع السلطات الإيطالية.
يقول رمضان بن عمر المسؤول عن قسم الهجرة في المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في تصريح لنواة:
كان المنتدى التونسي ضمن الأطراف التي تعاملت مع اللجنة لكن في مرحلة انسحبنا واعتبرنا أنه لا توجد جدية على المستوى السياسي من الجانبين الايطالي والتونسي بسبب تمسكهما في كل مرة بالعوائق الإجرائية. بعد توقف عمل اللجنة، لم يعد هناك أي إطار يمكّن العائلات من إيصال أصواتها التي تشتت بين وزارات الداخلية والصحة والخارجية. الآن هناك تعاون محدود أو شبه منعدم لأن السلطة السياسية تنظر بعين التجريم للهجرة غير النظامية. وبغياب طرف رسمي من الدولة للتحاور معه، التجأت بعض العائلات إلى وسائلها الخاصة للبحث عن أبنائها.
يوم 30 نوفمبر 2019، غادر مركب هجرة غير نظامية على متنه ستة أشخاص سواحل مدينة بنزرت متجها نحو السواحل الإيطالية، لكن فُقد المركب بمن كان عليه. بعد حوالي شهرين، وقعت عينا جليلة، التي كان ابناها على متن المركب المفقود، على صور جثث نشرتها صحيفة إيطالية وتمكنت من التعرف على ابنيها من خلال وشومهما. لم تلق جليلة أي دعم من وزارة الخارجية لكنها لم تيأس وتمكنت من التواصل مع السلطات الإيطالية وقدمت عينة من حمضها النووي التي تطابقت مع الجثتين.
دخلت جليلة في دوامة الإجراءات المكلفة في إيطاليا التي تكفلت بمصاريفها بمفردها دون مساعدة او تدخل من السلطات التونسية، من أجل استعادة جثتي ابنيها وتمكنت من جلبهما يوم 28 أفريل 2021 ليدفنا في إحدى مقابر مدينة بنزرت.

يقول النائب السابق بمجلس النواب مجدي الكرباعي في تصريح لنواة ”السلطات التونسية تقتصر على التكفل بإعادة الجثمان إلى تونس لكن في حالة المهاجرين غير النظاميين تتغيّر المعادلة، فالسلطات التونسية في إيطاليا لا تتكفل بعمليات التثبت من هويات المهاجرين التونسيين الذين دُفنوا لأنها مكلفة بالنسبة لها. ما يحصل أنه بعد كل عملية انتشال جثث على السواحل الإيطالية، تقوم السلطات الإيطالية بانتزاع عينة من الحمض النووي للضحية قبل دفنه تحت هوية مجهول“. يضيف الكرباعي أنه في المقابل يمكن للسلطات التونسية أن تقوم بطلب مطابقة عينات الحمض النووي مع عينات من عائلات المفقودين، لأنه غالبا ما تبلغ العائلات التونسية عن فقدان أبنائها، لكن السلطة لا تقوم بهذا الإجراء، فتصبح عملية التعرف على هوية الضحايا عملية صعبة بالنسبة للعائلات باستثناء بعضها التي تقوم بمجهود خاص بالتواصل مع السلطات الإيطالية ومنظمات إنسانية في إيطاليا مثلما حصل مع جليلة بعد أن وجدت تجاهلا من السلطة في تونس، وكانت عملية استرجاع جثمان ابنيها مكلفة جدا.
يذكر مجدي الكرباعي أنه هناك سببان لعدم قدرة عائلات المهاجرين غير النظاميين على التعرف أو استرجاع جثامين أبنائهم: الأول هو غياب جرأة سياسية والثاني هو كلفة الرحلة، ويضيف الكرباعي:
تملك إيطاليا بنك عينات الحمض النووي للمهاجرين غير النظاميين الذين تقوم بدفنهم فور انتشال جثثهم في غياب أي إشعار من القنصلية التونسية هناك. للأسف لا توجد إرادة سياسية لإسترجاع جثامين المهاجرين غير النظاميين التونسيين الذين غرقوا في السواحل الإيطالية، وإلا لكانت هذه المسألة من أهم النقاط التي تفاوض عليها تونس عند توقيع مذكرة التفاهم مع الاتحاد الأوروبي، فهناك حلول ممكنة مثل أن تفاوض تونس من أجل الاطلاع على الأرشيف البصري الذي تملكه فرونتكس وهو أرشيف يحدد بوضوح ملامح وجوه المهاجرين غير النظاميين في طريقهم نحو إيطاليا، غير أن تونس لم تطرح يوما خلال ماراطون التفاوض قبل التوقيع على مذكرة التفاهم هذه النقطة لأن هذا الملف ليس من أولويات السلطة الحالية.
بدأت إيطاليا في استخراج منتظم لعينات الحمض النووي من الجثث التي يلفظها البحر منذ العام 2014، لكن في ظلّ عدم وجود وسيط تونسي رسمي بين عائلات المفقودين والسلط المحلية في إيطاليا، تصبح عملية البحث عن هويات المهاجرين التونسيين المفقودين صعبة للغاية. يقول عماد السلطاني في تصريح لنواة ”أسست جمعية الأرض للجميع لجنة متكونة من محامين ونشطاء في المجتمع المدني في إيطاليا، وقدمت اللجنة لوزارة الداخلية الإيطالية ملفات تحتوي معلومات دقيقة تخص عددا من المفقودين، غير أن الوزارة أعلمت اللجنة أن تونس لا تتجاوب مع مراسلاتها“، مضيفا أنه منذ 2012، ترقد أربع جثث لمهاجرين غير نظاميين تونسيين في إحدى المقابر الإيطالية، غير أن تونس امتنعت عن طلب القيام بإجراءات إعادة فتح تلك القبور وما يتبعها من أخذ عينات من الحمض النووي قبل إعادتها إلى تونس، كما لم تتحرك السلطة الآن في ملف المهاجر التونسي أسامة الرقوبي الذي اعتقل في مركز للاحتجاز في لامبيدوزا سنة 2019 قبل أن تفقد العائلة الاتصال به ويدخل في عداد المفقودين إلى حد هذه الساعة.
في 27 أفريل 2023، جاء في بلاغ لمفوضية الاتحاد الأوروبي أن الزيارة التي قامت بها مسؤولة المفوضية للشؤون الداخلية إيلفا جوهانسون إلى تونس، والتي التقت وزير الداخلية آنذاك كمال الفقيه ووزير الشؤون الاجتماعية السابق مالك الزاهي ونبيل عمار وزير الخارجية السابق، تعلقت بتعزيز التعاون العملياتي مع وكالات الاتحاد الأوروبي ذات الصلة مثل ”يوروجوست“ و”يوروبول“، وحسب البلاغ ذاته ”ستعمل السلطات التونسية ذات الصلة ويوروبول على الانتهاء من المفاوضات بهدف توقيع ترتيبات عمل“.
لاحقا، نشر مجلس الاتحاد الأوروبي يوم 15 ديسمبر 2023، وثيقة جاء فيها أنه يعمل على تكثيف وإضفاء الطابع الرسمي على تعاون وكالات الاتحاد الأوروبي وهي”فرونتكس“ و”يوروبول“، ”سيبول“ و”إي يو إي إي“ و”يوروجوست“ مع تونس وأنه لم يحصل بعد على موافقة رسمية من تونس بخصوص تبادل البيانات الشخصية بين تونس لمكافحة ”الإرهاب والهجرة غير النظامية“.
خلال عشرات الاجتماعات بين المسؤولين التونسيين ونظرائهم الأوروبيين، لم تطرح تونس ملفات المفقودين ضمن نقاط التفاوض سواء قبل إمضاء مذكرة التفاهم أو الاجتماعات الخاصة بتوقيع اتفاقية تبادل البيانات الخاصة للمهاجرين غير النظاميين، وهو ما يقدم تفسيرا واحدا: لا تضع السلطة الحالية كغيرها ممن سبقوها، ملف المفقودين أو مآسي المهاجرين غير النظاميين التونسيين في الفضاء الأوروبي ضمن أولوياتها مقابل قبول بعض الفتات من المساعدات الأوروبية التي تصب جميعها في صالح تلك الدول، ما يفسر الحضور الدائم للشعار المندد بحراسة تونس لسواحل إيطاليا وأوروبا مقابل الفتات على حساب كرامة المهاجرين، خلال كل التظاهرات المنددة بالسياسات الشعبوية اللاشعبية لنظام 25 جويلية.
iThere are no comments
Add yours