شذى الحاج مبارك، ربما لم تكن معروفة لدى الرأي العام قبل إيقافها ومحاكمتها، لكنها اليوم مصنفة ضمن الصحفيين والنشطاء والمحاميين والمدونين ضحايا المحاكمات الجائرة. هي من بين الصحفيين الذين تلقوا أحكاما قاسية بالسجن شأنها في ذلك شأن مراد الزغيدي وبرهان بسيس وخليفة القاسمي ومحمد بوغلاب وغيرهم، أصوات قد لا نتفق مع آراء بعضها أو مع ماضيها ودائرة علاقاتها السياسية الإعلامية، لكنهم لن يتحولوا إلى مجرد أرقام، تقابل المظالم التي تعرضوا لها بالصمت ويبقى سجنهم يعبر عن أحلك الحقب التي واجهتها حرية الصحافة في تونس منذ الاستقلال.
حكم قضائي صادم دون قرائن ثابتة
تُلاحق السلط القضائية الصحفية شذى الحاج مبارك منذ سبتمبر 2021 بتهم خطيرة تتعلق بعملها ضمن شبكة انستالينغو، تواصلت الأبحاث في حقها إلى حدود 19 جوان 2023 حيث حفظ قاضي التحقيق بالمحكمة الابتدائية بسوسة جميع التهم الموجهة لها وبموجب ذلك أفرج عنها مقابل تواصل محاكمة بقية المتهمين في قضية انستالينغو. لكن حملة من التشهير والتحريض شنتها بعض الصفحات المقربة من السلطة ضد شذى انتهت بمراجعة القرار القضائي، فبعد حوالي شهر من الافراج عنها أصدرت دائرة الاتهام بالمحكمة بطاقة إيداع بالسجن في حقها وعادت شذى لتواصل مسيرة المعاناة والتعسف في سجن المسعدين منذ جويلية 2023.
بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة، قدمت نقابة الصحفيين السبت 3 ماي تقريرها السنوي للحريات الصحفية. التقرير الذي أخذت مقدمته عنوان نقابة الصحفيين في مواجهة انهيار النظام الإعلامي التونسي، لم يرتق إلى حجم انتظارات الصحفيين الذين حضروا الحدث باقتصاره على تكرار ما سبق رصده، دون التعرض بعمق لجرائم التضليل الإعلامي المتعمد وترويج خطاب الكراهية العنصري والرقابة المفروضة داخل غالبية مجالس التحرير الصحفية.
بعد مراجعة قرار قاضي التحقيق من قبل دائرة الاتهام وتوجيه تهمة التآمر على أمن الدولة الخارجي حسب الفصل 61 مكرر من المجلة الجزائية، وتهمة إتيان أمر موحش ضد رئيس الجمهورية حسب الفصل 67 من المجلة الجزائية، تمت إحالة الصحفية شذى الحاج مبارك على الدائرة الجنائية بسوسة ثم الدائرة الجنائية الثانية بالمحكمة الابتدائية تونس التي أصدرت حكماً ابتدائياً يقضي بسجنها لمدة خمس سنوات. هذا الحكم اعتبرته نقابة الصحفيين قاسيا وخطيرا على حرية الصحافة ويمس مباشرة من حرية العمل الصحفي، مضيفة أن ”عدم الفصل بين ما هو مرتبط بالمحتويات الصحفية وحرية النشر في الفضاء الرقمي في إطار القانون، وبين البعد السياسي والأمني للملف الكامل للقضية قد ألحق أضرارًا فادحة بحقوق الصحفية وحريتها وهو ما يجب تلافيه في أسرع وقت“.

ما يجمع بين قضية شذى الحاج مبارك والقضايا الأخرى التي يُحاكم فيها العشرات من الصحفيين والسياسيين والنقابيين، هو توظيف قوانين وتهم فضفاضة من قبيل التآمر والإساءة إلى رئيس الجمهورية وعدم احترام مبدأ قرينة البراءة. أمر أكده المحامون في مختلف المحاكمات وقضايا الرأي والسياسة وعددوا الخروقات والتعسف في تأويل نصوص قانونية لا تنطبق على الآراء والمواقف السياسية والعمل الصحفي والحق النقابي. واقع أكدته نقابة الصحفيين ومنظمات حقوقية في قضية شذى الحاج مبارك التي لم تشذ عن القاعدة العامة: محاكمات دون أدني ضمانات للمحاكمة العادلة تعبر عن سياسة السلطة الهادفة إلى فرض مناخ من التخويف والترهيب في محاولة لإسكات الأصوات الناقدة والمعارضة للسلطة.
في هذا السياق يصرح المحامي سهيل مديمغ بأن الحكم الصادر في حق شذى الحاج مبارك ”لا يستقيم ومجاف للحقيقة والوقائع الثابتة في ملف القضية بكل وضوح، فعلى سبيل المثال شذى تعمل في خطة مدققة لغوية وليس لها مسؤولية تحريرية ولم تكن رئيسة تحرير، وهو ما يعني أنها لا تتحمل أي مسؤولية عن محتوى المضامين المنشورة“، وأضاف:
في جميع مراحل القضية من باحث البداية مرورا بقاضي التحقيق وصولا إلى الدائرة الثانية بالمحكمة الابتدائية بتونس لم تواجه شذى الحاج مبارك أي أفعال محددة يجرمها القانون بل كانت جميع الأسئلة الموجهة إليها عامة وغير دقيقة وهو ما أثبت لنا أن الحكم جاهز قبل انعقاد الجلسة.
الأستاذ مديمغ، عضو فريق الدفاع عن شذى الحاج مبارك بتكليف من نقابة الصحفيين، هو أحد المتابعين المباشرين لملف شذى منذ إيقافها أول مرة إلى اليوم يؤكد بوضوح كيدية المحاكمة في حق منوبته، وقد توجه إلى استئناف الحكم الابتدائي حيث سيواصل خوض المعارك للآخر من أجل استرجاع حق شذى الذي تم انتهاكه بصفة مرعبة ولآنها حوكمت من أجل شيء لم تقم به حسب قوله.
التنكيل والمعاناة بشذى وعائلتها داخل السجن وخارجه
عرفت قضية شذى الحاج مبارك عدة تطورات وخروقات أكدتها نقابة الصحفيين في بياناتها حول الملف بالإضافة إلى فريق الدفاع، وبالإضافة إلى المسار القضائي والاجرائي واجهت شذى صعوبات كبيرة ومشاكل حقيقية في علاقة بالجانب الصحي باعتبار أنها تعاني من أمراض تفاقمت بسبب ظروف الإقامة السيئة في سجن المسعدين. مثلت الحالة الصحية لشذى هاجسا كبيرا لها ولعائلتها خاصة مع عدم التعامل معها بجدية من قبل إدارة السجن، خاضت شذى اضرابا عن الطعام في مناسبات عدة للمطالبة بحقها في العلاج والرعاية الصحية.

نشرت شذى آنذاك رسالة للرأي العام جاء فيها:
أعاني اليوم من ارتفاع ضغط الدم على مستوى العينين ومشاكل على مستوى عمودي الفقري ومفصل الكتف ومعصم يدي اليمنى. لم أعد اتناول مسكنات الألم فجسدي لم يعد يتقبلها بسبب معدتي التي لم تعد قادرة على تقبل المسكنات فعادت الآلام مجدداً في غياب المسكنات وإني لا أقوى على تحمل الألم بهذا الجسد الذي أنهكه المرض صرت أتقيء كثيراً وأفقد الوعي من شدة الألم. لقد سلبت حريتي ظلماً وألهمني الله صبراً على ما أصابني لكن الآن أصابني الضرر في صحتي ولا يمكنني الصبر فإني أخشى فقدانها أو أن يمثل وضعي الصحي خطراً على حياتي.
النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين التزمت بقضية شذى الحاج مبارك منذ إيقافها أول مرة، وأصدرت بيانات حول القضية خاصة من ناحية احترام حقوق الدفاع وظروف الايقاف التي تسببت لشذى في تدهور حالتها الصحية. تقول خولة شبح٫ منسقة وحدة رصد الانتهاكات بنقابة الصحفيين إن ”باحث البداية لم يهتم بمشكلة السمع التي تعاني منها شذى أثناء البحث معها ما خلق مشاكل وأثر بشكل كبير على سير الأبحاث، الإعاقة السمعية أثرت بشكل كبير أيضا على إقامتها في السجن حيث تعرضت للعنف والهرسلة من قبل سجينات أخريات ما دفعها لتقديم عدة شكاوى في ذلك ظلت جميعها دون متابعة“.
معاناة شذى من تدهور حالتها الصحية والأمراض والإهمال وسوء ظروف الإيقاف تجازوها ليطال عائلتها، ظلت العائلة تنظر إلى الظلم والتعسف ولا سلاح لها سوى صوتها وصبرها، تتابع حملات التشويه التي تطال ابنتها والتحريض والاتهامات بالعمالة والخيانة وبيع البلاد. أوقفت السلطات والد شذى وشقيقها لمدة 48 ساعة على خلفية تصوير ملف القضية، حجم المضايقات والهرسلة الذي تم تسليطه على عائلة الحاج مبارك دفعتها إلى تغيير مقر الإقامة.
يقول آمن الحاج مبارك شقيق شذى إن ”معاناة العائلة وطريقة الايقاف الاستعراضية وحملات الهرسلة والتشويه التي استهدفتنا، هي أشياء لا تُقارن بالمأساة التي عاشتها شقيقتي من سجنها ظلما على خلفية عملها الصحفي وهضم حقها في المحاكمة العادلة بالإضافة إلى ظروف الإقامة الكارثية في السجن ما زاد في تعكر حالتها الصحية“، ويضيف أن إيقاف والدها وشقيقها أثر عليها سلبا وهي تعيش مأساة لا يتحملها أحد من أمراض وحرمان من الرعاية الصحية ما يضطرها إلى خوض إضرابات عن الطعام للمطالبة بحقها في العلاج رغم تحسن وضعها نسبيا بعد نقلها إلى سجن بلي، فالسجن وسلب الحرية لا يعني حرمان الناس من الحق في العلاج والرعاية الصحية.
كثيرة هي الملابسات والخروقات التي رافقت قضية شذى الحاج مبارك، شأنها في ذلك شأن غالبية قضايا الرأي والقضايا التي شغلت الرأي العام منذ 2021 على وجه الخصوص. مظالم للموقوفين وأحكام قاسية بالسجن ومعاناة مستمرة لذويهم مع حملات تشويه وتشهير منظمة تنفذها جهات وصفحات محسوبة على السلطة، لم يبقى للسان الدفاع والمنظمات المدافعة عن حرية الصحافة وحقوق الانسان وأهالي الموقوفين من سلاح سوى فضح هذه الممارسات والتنديد بها في انتظار إقامة العدالة الحقيقية وإنصاف ضحايا سياسات القمع والتعسف.
قضية انستالينغو
انستالينغو هي شركة مقرها بمدينة القلعة الكبرى من ولاية سوسة، متخصصة في ”صناعة المحتوى والاتصال الرقمي“. تُتهم هذه الشركة بأنها تصنع محتويات سمعية بصرية، موجهة إلى شبكات التواصل الاجتماعي، معادية للسلطة.
بدأت أطوار القضية في 10 سبتمبر 2021 حين داهمت قوات الأمن مقر الشركة بناء على معلومات تفيد بالاشتباه في تورط الشركة في ”الاعتداء على أمن الدولة وتبييض الأموال والإساءة إلى الغير عبر مواقع التواصل الاجتماعي“.
يُحاكم في القضية 41 متهما غالبيتهم شخصيات سياسية وأمنية واقتصادية بارزة من بينهم راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة ورئيس الحكومة الأسبق هشام المشيشي ونادية عكاشة مديرة الديوان الرئاسي السابقة ووضاح خنفر المدير العام السابق لشبكة الجزيرة، بالإضافة إلى مدونين ومسؤولين أمنيين ورجال أعمال.
أصدرت المحكمة أحكاما مشددة بالسجن تتراوح بين 5 سنوات و54 عاما بالإضافة إلى خطايا مالية ومصادرة أملاك بعض المتهمين، من بين الأحكام البارزة السجن ل 35 سنة في حق هشام المشيشي و22 سنة في حق راشد الغنوشي.
حوكم المتهمون في القضية بتهم خطيرة أبرزها التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي ومحاولة تبديل هيئة الدولة وارتكاب أمر موحش ضد رئيس الجمهورية وغسيل الأموال والإثراء غير المشروع.
حركة النهضة نددت بالأحكام ووصفتها بالظالمة والانتقامية والهادفة إلى تصفية خصوم سياسيين للرئيس قيس سعيد.
تحدث لسان الدفاع في القضية عن وجود ”اخلالات وتجاوزات“ في إجراءات المحاكمة، وغياب الأدلة المادية التي تدين المتهمين.
iThere are no comments
Add yours