جزء كبير من أزمة التربية والتعليم يعود إلى التوظيف السياسي المفرط للمدرسة منذ ستينات القرن الماضي. فمشروع بورقيبة لتونسة التعليم وتوحيد المناهج كان في ظاهره تقدميّا لكن هدفه كان تشكيل هوية وطنية على مقاس الدولة المركزية. ثم جاء نظام بن علي ليواصل هذا النهج، مضيفا إليه بعدا بوليسيا يجعل المدرسة فضاء للضبط الاجتماعي. بعد ثورة 2011، انفجرت التناقضات الكامنة، وانتقل الصراع حول التعليم إلى البرلمان والمجتمع المدني، وصولا إلى كتابة الفصل 39 من الدستور الجديد الذي كرس حق التعليم واعتبره إلزاميّا. غير أن هذا الإطار الدستوري لم ينعكس فعليّا على أرض الواقع، حيث استمرت سياسات الدولة في التراجع عن الاستثمار في التعليم العمومي لصالح القطاع الخاص.
تكشف إحصاءات البرنامج الدولي لمتابعة مكتسبات التلاميذ (PISA)خلال العقد الأخير عن تموقع تونس في المراتب العشر الأخيرة عالميا في الرياضيات والعلوم والقراءة. فالمدرسة التونسيّة تبدو معزولة عن محيطها، إنّها مدرسة يضجر فيها المتعلّم والمعلّم، وينتظران بلهفة “جرس فكّ الإسر” كما أنّ الحياة المدرسيّة يغلب عليها المنحى الزجريّ ممثّلا في النظام التأديبيّ. وهو قانون يذهب بالعقوبة إلى حدّ الرفت النهائيّ للقُصّر من كلّ المعاهد، كما تغيب عنه المقاربة العلاجيّة لحالات الجنوح في صفوف المتعلّمين المراهقين. ويعود ذلك بالأساس إلى تواضع المعرفة العالمة Le savoir savant لدى مسيّري المؤسّسات التربويّة في تنظيم مجتمعي الأطفال والمراهقين وعدم إلمامهم بعلم النفس التربويّ.
من جانب آخر، يبدو التنافس بين التعليم العمومي والخاص بعيدا كلّ البعد عن أي شكل من أشكال المصداقية أو العدالة. فبينما ترزح المدرسة العمومية تحت وطأة سياسات متراكمة خاطئة وتواصل انتهاج سياسة التقشف (لم تتجاوز نفقات التنمية والاستثمار في المؤسسات التربوية العمومية لسنة 2025 نسبة 2.9% من ميزانية وزارة التربية، أي ما يقارب 319 مليون دينار فقط). في المقابل، يحظى التعليم الخاص بامتيازات واسعة تشمل حرية التسعير، وتسهيلات القروض، وخطوط التمويل البنكية في إطار تشجيع الاستثمار والمبادرة الخاصة. مقاربة تعليمية شديدة الخطورة، تجعل من صناعة العقل التونسي رهينة لمتغيرات السوق ومنطق الربح، فتتحوّل المدرسة التونسية إلى مرآة للفجوة الطبقية: تعليم خاص نخبوي ومكلف موجّه للطبقات الميسورة ومن بقي من الطبقة الوسطى القادرة على اعتصار جيوبها وتحمّل كلفته، في مقابل تعليم عمومي موجّه لعامة الشعب بشهادات كرتونية تنتج أجيالا جديدة من المعطلين المقهورين. قهر تجلّى في مدينة المزونة من ولاية سيدي بوزيد في 14 أفريل 2025، حين أودى انهيار سور المدرسة بحياة ثلاثة تلاميذ. أمّا الدولة فاكتفت بهدم ما تبقى من أسوار متداعية.
اليوم ومع انطلاق العودة المدرسية والجامعيّة، نقف على مشهد قاتم: 280 تلميذا يهجرون مقاعد الدراسة يوميًا، وأكثر من 15 ألف حالة عنف سنويا داخل المدارس، وبنية تحتية متداعية، ومخرجات تعليمية لا تلبي حاجات الاقتصاد الوطني ولا تطلعات الشباب.
بمناسبة هذه العودة تقدم لكم نواة ملفا لاهم اعمالها الصحفية التي عالجت أزمات التعليم والمنظومة التربوية في عمقها، علها تساعد على تفكيكها في محاولة اصلاح حقيقي يعيد للتعليم العمومي بريقه ودوره كمصعد اجتماعي ونبراس منير للعقول.
عناوين وتجارب إصلاحية متتالية عرفتها المنظومة التربوية التونسية، إلا أن مجملها لم ينجح في إعادة الاعتبار للتعليم. واقع يطرح اشكالية جدوى هذه التجارب ومدى نجاعة آليات التقييم المعتمدة. لمعرفة أسباب التراجع وسبل الإصلاح الجدي، التقت نواة الأستاذ الجامعي حسن العنابي، المختص في التاريخ المعاصر والمشرف على دراسة جودة المنظومة التربوية في تونس.
iThere are no comments
Add yours