التحدي كان واضحا منذ البداية، كيف ننجح في جلب اهتمام الجمهور إلى قضايا البيئة وخطورة التلوث على كل الكائنات الحية والأرض والبحر والسماء والحياة اجمالا، خاصة حياة ومستقبل الأجيال الناشئة، ودفعهم إلى السعي لرفع درجة معلوماتهم وإلمامهم بقضايا خطرة دون الوقوع في ملل المحاضرات الرتيبة وصيغة الدرس الكلاسيكي بوجود مصدر معلومات واحد وعدد من المتعلمين المتلقين السلبيين. من هنا بدأ البحث عن عمل فني توعوي، يجمع بين دقة المعلومات البيئية وعمقها وواقعيتها وبين الترفيه والخروج من ضغط المشاغل اليومية. كان الاختيار في حاضنة المشارع الإبداعية ”إيناوايشن“ على تجربة ”بحرية“ لريم عمامي ورامي بركة التي تراوح بذكاء بين تحدي البحث وكشف الألغاز والغموض وبين تحصيل المعارف والمعلومات الهامة التي تسلط الضوء على إحدى الكوارث التي نشهد على تدميرها للحياة البحرية يوميا على طول الشريط الساحلي التونسي.
خلال أيام مهرجان نواة الذي انعقد أيام 26، 27 و28 سبتمبر، وبينما كانت أغلب الأعمال الفنية المشاركة موزعة بإحكام على قاعات مختلفة في أرجاء مقر المهرجان، كانت لعبة الذكاء والتحدي ”بحرية“ العمل الفني الوحيد الذي امتد على كامل المكان، فمباشرة بعد المدخل الرئيسي تواجهك شاشات عرض مركزة عند المدخل وفي مختلف زوايا النوافذ على طول الممر الرئيسي الذي ينقلك داخل فضاء المهرجان من عرض إلى آخر. تحولت النوافذ إذا إلى أركان رئيسية للمشاركة في لعبة التحدي بحرية، تم تجهيزها بذكاء واتقان يسمح للمشاركات والمشاركين بالجلوس براحة ومشاهدة مقاطع فيديو تساعدهم في البحث عن أدلة تساهم في فك لغز لعبة ”البحرية“، على طول الممر الرئيسي تم تركيز ملصقة عملاقة تشرح لمن يريد المشاركة قانون اللعبة وتفسر مختلف مراحلها وما سينجر عن كل خطوة يقدم عليها المشارك والاحتمالات الممكنة التي ستفتح بعد كل مرحلة من لعبة التحدي. يقول رامي بركة احد مصممي اللعبة لنواة:
المشاركون في هذا التحدي سيكونون أمام خيارات مفتوحة هم من يحددون اتجاهاتها، فالمشارك ”ب“ مثلا لن يسلك بالضرورة نفس طريق المشارك ”أ“ الذي سبقه في البحث، لكن الأهم من حرية اختيار المسار هو ان المشاركات والمشاركين يتمكنون من تحصيل نسبة هامة من المعلومات المحيّنة حول كارثة التلوث في بحار تونس وهذا هو هدفنا الرئسي.

تساؤلات اجتماعية سياسية عبر لعبة ذكاء
واقعية سيناريو اللعبة التي صممها رامي بركة وريم عمامي تقود المشاركات والمشاركين إلى عالم بحرنا الملوث، فريق أبطال اللعبة بوجوه من الشارع التونسي الحيوي بين الربان والميكانيكية ومساعد البحار والعامل بالإضافة إلى العالم الذي شكل اختفاءه المفاجئ لغز تحدي بحرية الذي يسعى المشاركون لفك غموضه وكشفه. كل شخصية من أبطال بحرية تحمل اسما وصورة ونبذة عن مسار حياتها، فالرايس هشام خمسيني بخبرة في مراكب نقل البترول ومساعده الشاب آدم بملف مثقل بسوابق عدلية وسنوات قضاها في الإصلاحية، يساعدهما ”غاييل“ الكاميروني الجنسية مهندس الفلاحة الذي تلاعبت به الاقدار ليجد نفسه عاملا على مركب صيد صغير، أما الميكانيك فكان من اختصاص نادية التي تسعى لفرض وجودها وسط عالم ذكوري مصغّر. عز الدين بحار هو الاخر لكن مسارات حياته قادته وهو في الخمسين من العمر إلى عالم النضال البيئي بعد اطلاعه عن قرب على كوارث تلوث البحر فترة عمله مع ناقلات البترول. كل هذه الشخصيات أبدع رامي وريم في تصميم ملامحها وكتابة المسارات الحياتية التي قادتها إلى هذه المغامرة على متن مركب صغير مهمته الإبحار لأخذ عينات من البحر الملوث واثبات أسباب تلوثه، ملامح تم رسمها بدقة مع ترك تعبيرة وجه معينة لكل شخصية، تحيل إحداها على الحيوية وحب الحياة في حين تجعلك أخرى تتوجس من مكر وخبث الشخصية، ملامح غاييل تختزل العذابات التي كابدها وسط مجتمع عنصري منكر لعنصريته، في حين بقي إيريك الباحث الأوروبي الذي اختفى ليلا فجأة بلا ملامح، وعلى المشاركين في التحدي كشف سبب اختفائه ومن كان وراء ذلك من طاقم المركب. دقة تفاصيل التفاصيل يدركها للوهلة الأولى المولعون بعالم فك الألغاز وتحديات الغموض والذكاء، فملامح طاقم المركب التي تحيل كل منها على عالم مختلف عن الآخر، تم اختيارها بدقة حتى تساهم في خلط الأوراق واثارة استفهامات المشاركين، بل تتخطى ذلك لتسائلهم تساؤلات اجتماعية محرجة، كيف لا وقد قادتهم الملامح الخشنة ولون البشرة لأحد شخصيات اللعبة إلى اتهامه ولو ضمنيا بالتسبب في اختفاء العالم الأجنبي، في حين جنح مشاركون آخرون الى تتبع خطوات الشاب مثقل الملف القضائي، فبما أن له سوابق عدلية سيكون اول المتهمين حتما بالوقوف وراء اختفاء العالم إيريك.

نفس هذه الملامح تتلاعب بالمشاركين وتدخلهم في دوامة تساؤل وشك متعمد من مصممي اللعبة، فبعد كل خطوة من مسار التقصي تراجع المشاركات والمشاركون في اللعبة ما اعتقدوا انه الصواب والطريق نحو الحقيقة، حتى ادراكهم الحقيقة التي أراد فريق العمل إيصالها وهي ان المظاهر والملامح وحتى السوابق العدلية ليست سوى أوهاما تضللنا عن الحقيقة وتجعلنا نخطئ في حق عمال أبرياء بالمسارعة في اتهامهم. هنا توضح ابتسام إحدى المشاركات في اللعبة لنواة أن ملامح الشخصيات ومسارات حياتها قادتها لاتهام الشاب آدم صاحب الملف القضائي المثقل، إلا انها لم تخف خجلها من انسياقها وراء المظاهر لاتهام شخصية بريئة وان كانت خيالية.
اعتقدت في البداية أن التحدي سهل وبمجرد تفحص بطاقات طاقم المركب تحصر الشبهة بديهيا فيمن يحمل ملامح تبدو إجرامية على وجهه ولديه ملف قضائي سابق، لكن اكتشفت أني مخطئة ثم قادني خطئي إلى الخجل لإني تيقنت أن الرواسب الاجتماعية هي التي سيطرت علي وقادتني الى اتهام مبني على المظاهر لا على الأدلة والحقائق، للحظة تخيلت ألم الشباب الذين يوقفهم البوليس في الشارع لأن مظهرهم لم يرق له او بسبب حلاقة شعر او ”دجينز“ ممزق أو لون البشرة.
النضال ضد التلوث حراك شعبي لا مشاغل اثرياء
مع تقدم المشاركات والمشاركين في اكتشاف أدلة لفك لغز اختفاء العالم الأجنبي إيريك، يحصّلون عند كل توقف معارف بيئية جديدة، منها الكارثة التي ضربت طحالب ”البوسيدونيا“ بسبب تعمد سكب سم ”الفوسفوجيبس“ القاتل في البحر أو انقراض أصناف من الأسماك والاحياء البحرية جراء التلوث الكيميائي الشديد الذي ضرب البحر، مؤشرات تحيل على خليج قابس، الساحل الذي دمره المجمع الكيميائي وحوله من الواحة البحرية الوحيدة في العالم إلى مقبرة أسماك وطيور وسلاحف. هذا الهاجس البيئي الذي طالما رفعته نواة عبر كتاباتها ومختلف أعمالها الصحفية، يضاف له اليوم جنس تحسيسي جديد تجلى في لعبة الذكاء والتحدي ”بحرية“. يقول توفيق أحد المشاركين في التحدي:
لو طلبوا مني قراءة مقال مطول أو بحث اكاديمي حول مخاطر التلوث أو المشاركة في ندوة علمية تطرح موضوع تلوث بحر قابس مثلا لرفضت تجنبا للرتابة والملل، لكن الذي شدني اليوم هو اني شاركت في لعبة ذكاء لنسيان ضغط العمل فخرجت منها بمعلومات بيئية ووقفت على حقائق جعلتني أقتنع بأن مقاومة التلوث ليست ترفا لمن يخلو عالمهم من المشاكل اليومية بل هي اعظم المشاكل التي تهدد البشرية بأسرها.
وفي اجابته على سؤالنا حول سبب اختياره المشاركة أولا في تحدي البحرية قبل أي من العروض الأخرى يقول محدثنا ”لدي عائلة في ڨابس وأعرف جيدا ما يخلفه التلوث من مآسي بسبب فقدان الشغل وتضرر الفلاحة وتلوث الماء والسرطان الذي لا يكاد يفارق أيا من العائلات في المنطقة، حتى وان لم يذكر اسم ڨابس فكل المؤشرات تدل أن القصة التي ترويها اللعبة تتحدث عن بحر قابس الملوث“.

مجمل التجارب التي عشناها ورصدنا تفاعل جمهور لعبة ”البحرية“ معها تجعلنا نطرح التساؤل تلو الآخر، لما يُنظر في تونس على أن الحركات الخضراء البيئية هي حركات مرفهين بمشاغل ثانوية بعيدة عن مشاغل الطبقات الكادحة والمفقرة؟ لما لا تنجح الندوات التحسيسية بخطورة التلوث في جلب اهتمام الشباب وحتى الكهول بأعداد محترمة؟ هل أن قضايا البيئة فعلا قضايا ثانوية لا تهم عموم المواطنين، أم أن طرحنا الكلاسيكي لهذه القضايا كان سببا في تنفير الشباب وابتعادهم عنها؟
كل هذه التساؤلات وغيرها تطارحناها مع الجمهور الشبابي الذي أقبل على لعبة ”البحرية“، لتقوده أبحاثه في النهاية إلى أن فريق المركب ليس مجرد طاقم بحري يتلقى أجرا غير مهتم بمشاكل البحر البيئية بل هم من هندسوا سيناريو الاختفاء لجلب الأنظار إلى كارثة تلوث البحر، فنداءاتهم اليومية وتحذيراتهم لم يهتم لها أحد ولم تهرع لها وسائل الاعلام ولا عموم الشباب، لكن بعد اختلاق قصة اختفاء أجنبي صار الجميع يبحث عنه ويتحدث عن البحر الملوث الذي قدم خصيصا لقياس درجة تلوثه، وهي فعلا محاكاة ذكية فريدة من نوعها لواقع تلوث البحر في تونس وخاصة واقع الجريمة البيئية التي نعيشها يوميا في قابس، وتجد للأسف إلى يومنا هذا أصنافا من البشر يريدون لبحرية قابس أن تدفن بتلوث المجمع الكيميائي ويبخسون حق المواطنات والمواطنين في الغضب والاحتجاج جراء التلوث الذي حكمت به السلطة عليهم.
قد نستنقص من حقها إذا قلنا ان ”البحرية“ هي مجرد لعبة، لكنها كذلك لعبة تحد وذكاء اجتهد رامي بركة وريم عمامي في تصميمها وإخراجها، هي لعبة توعوية تحسيسية تنجح في إيصال المعلومة والمعارف بطريقة بارعة وبالدارجة التونسية لا يشعر المتلقي خلالها بالملل والرتابة بل تراه يجد ويبحث ويدقق حتى يصل إلى الحقيقة، ولا حقيقة مرادة غيرها، التلوث ليس وحشا هلاميا مقدر علينا تحمله دون قدرة على هزمه، بل هو نتيجة للصلف واللهث البشري وراء المال والارباح مهما كانت التكاليف، يقف وراءه مجرمون بربطات عنق وبدلات أنيقة، يتقنون كلاما منمقا بلغات أجنبية قد تبهر ضعاف العقل والتجربة، لكن عقول وسواعد المواطنات والمواطنين قادرة على وقف التلوث وفضح من يتسبب فيه وكشف من انتفخت أرصدتهم البنكية وعقدوا الصفقات على حساب صغار الفلاحين والبحارة والسكان بشيوخهم وأطفالهم، وما الحراك المجتمعي في ڨابس المطالب بتفكيك المجمع الكيميائي منتهي الصلوحية إلا دليل حي على أن رأس المال المتغطرس المدجج ببوليسه ومخبريه لا يقدر لحظة على مواجهة الشعوب الواعية الموحدة من أجل اجتثاث سرطان التلوث واستخلاص الدروس لعدم تكرار الأخطاء البيئية المدمرة.
iThere are no comments
Add yours