تشهد السجون التونسية اليوم أزمة حادة تتمثل في الاكتظاظ وما يرتبط به من تدهور للظروف الإنسانية وانتهاك للمعايير الدولية.[1] فقد ارتفع عدد المساجين في تونس إلى نحو 33 ألف سجين حاليًا، بعد أن كان حوالي 23 ألفًا فقط في عام 2022، أي زيادة تفوق 10 آلاف خلال سنتين[2]، يأتي ذلك في ظل طاقة استيعاب رسمية لا تتجاوز 17 ألف سجين ما يجعل معدّل الاشغال يقارب ضعف قدرة الاستيعاب مع نسبة اكتظاظ عامة تقارب 194% مع تجاوز 200% في بعض السجون.[3] تعزى هذه الطفرة في عدد الموقوفين إلى عوامل هيكلية متعددة، منها الطبيعة المتقادمة للتشريع الجزائي وعدم توفير بدائل للعقوبة السالبة للحرية، فضلاً عن التوسّع في الإيقاف التحفظي وتجريم الأفعال البسيطة[4]. أمام هذا الواقع، تبرز أصوات ناقدة في المجتمع المدني وداخل الأوساط الأكاديمية والقانونية تطالب بمعالجة جذرية لأزمة السجون عبر إصلاح شامل لمنظومة القانون الجزائي التونسي. لقد باتت تونس أشبه “بسجن مفتوح”[5] كما عبّر أحد المحتجين في لافتة رفعها خلال مظاهرة بالعاصمة في ماي 2025، في إشارة إلى أن غياب الإصلاحات جعل من البلاد بأسرها فضاء عقابياً مفتوحاً.
في هذا المقال، نتناول بالتحليل ظاهرة الاكتظاظ السجني في تونس من منظور نقدي يأخذ بعين الاعتبار الجذور التاريخية والتشريعية للمشكلة. سنستعرض أولاً الإطار القانوني الجزائي التونسي الراهن ومرجعيته التاريخية، مسلطين الضوء على المجلة الجزائية لعام 1913[6] التي تعود إلى عهد الحماية الفرنسية، وكيف استُخدمت كأداة للسيطرة السياسية والاجتماعية إبان الاستعمار[7]. ثم نتناول فترة ما بعد الاستقلال لاستجلاء مدى استمرار نفس المنطق العقابي القديم دون إصلاحات هيكلية تذكر، واستخدام الدولة الوطنية للقانون كوسيلة للضبط الاجتماعي والسياسي. بعد ذلك ننتقل إلى تشخيص واقع السجون حاليًابالأرقام والمعطيات، مبرزين العوامل البنيوية التي قادت إلىتفاقم ظاهرة التضخم العددي للمساجين. سنعرّج على تقادُم المنظومة التشريعية الجزائية وافتقارها لبدائل جدّية للسجن[8] كغياب سياسة إعادة إدماج المحكومين، والإفراط في الاحتجاز على ذمة المحاكمة.. كما نضع الحالة التونسية في سياق المعايير الدولية والمقارنة الإقليمية من خلال مرجعية قواعد “مانديلا” الأممية ومعايير القانون الجزائي الحديث[9]، بالإضافة إلى مقارنة وضع تونس بدول مجاورة في المغرب العربي أو دول نامية أخرى كدول أمريكا اللاتينية[10]. أخيرًا، نختم المقال بطرح نقد فلسفي لمنظومة العقاب الحاليةفي تونس على ضوء أدبيات فلسفة القانون وعلم الاجتماع العقابي، ونقدم مقترحات وحلول إصلاحية ممكنة تهدف إلى التخفيف من الاكتظاظ وإلى تحديث السياسة العقابية بما يضمن فعاليتها وإنسانيتها.
الإرث القانوني الجزائي في تونس: جذور استعمارية
المجلة الجزائية: قانون استعماري متواصل
لما كانت تونس تحت الحماية الفرنسية (1881-1956)، عمدت السلطات الاستعمارية إلى فرض منظومة قانونية حديثة تهدف إلى إحكام السيطرة على السكان المحليين[11]. في هذا السياق صدرالقانون الجزائي التونسي (المجلة الجزائية) لأول مرة بمقتضى المرسوم المؤرخ في 9 جويلية 1913 الذي أصدره الباي بإيعاز من المقيم العام الفرنسي[12]. وقد جاء هذا القانون مكتوبًا باللغتين العربية والفرنسية ومستلهمًا في جوهره من القانون الجنائي الفرنسي السائد آنذاك، مع بعض التعديلات لتكييفه مع وضعية المستعمرة. تكشف المصادر التاريخية أن قانون 1913 كان نسخة من القانون الفرنسي، لكنه اكتسى طابعًا أشد صرامة عند تطبيقه في سياق مستعمرة. فقد لاحظ المؤرخ خميس العرفاوي أن “التشريع ما إن عبر الضفة الجنوبية للمتوسط حتى طاله التحويل والتشويه، واكتسى طابعًا صارمًا وزجريًا في آن واحد”[13]. بعبارة أخرى، تم تعديل القانون الفرنسي عند نقله إلى تونس باتجاه تغليب منطق الشدة والعقاب الصارم بهدف ردع أي محاولة للخروج عن إرادة السلطة الاستعمارية.
من الناحية الموضوعية، كرّس قانون 1913 تجريم كل ما يمسّ أمن الدولة واعتبره من أخطر الجرائم. فهو يعاقب بشدة جرائم مثل الاعتداء على أمن الدولة والتآمر ضد سلطات الحكم، مستندًا في ذلك إلى الفصول 75-85 وما بعدها من القانون الجنائي الفرنسي. كما تبنّى القانون التونسي الجديد آنذاك أحكامًا مقتبسة من قانون الصحافة الفرنسي، بالرغم من طابع هذا الأخير الليبرالي نسبيًا في فرنسا، ليجرّم الأقوال أو الصيحات أو الكتابات العلنية التي يمكن أن تُعتبر تهديدًا للأمن أو تحريضًا ضد النظام.[14] وبالمثل، فرض القانون على الجمعيات نظام الترخيص المسبق القابل للإلغاء في أي وقت (وفق الفصول291-294 من القانون الفرنسي)، ما يعني عمليًا خنق أي تنظيم أو تجمع غير مرضي عنه من قِبل السلطة. يتضح أن الغرض من هذه المنظومة العقابية الاستعمارية كان تثبيت أركان الهيمنة الفرنسية وضبط المجتمع التونسي تحت سقف من الخوف والترهيب القانوني. اعتمدت الإدارة الفرنسية سياسة الإبقاء على الواجهة الشكلية للحكم الباياتي، لكنها سخّرته كأداة طيّعة لإصدار التشريعات والمراسيم الردعية تحت إشرافها. هكذا أُجبر الباي مثلاً على استصدار مراسيم صارمة، مثل المرسوم المؤرخ في 29 جانفي 1926، الذي عرّف “الجرائم السياسية“ وأخضعها لاختصاص المحاكم الفرنسية. شملت هذه الجرائم كل ما يمكن أن يهدد نظام الحماية، من قبيل الدعوة إلى الكراهية أو الازدراء نحو السلطان، أو الحكومة، أو إدارة الحماية، أو موظفيها، أو تحريض السكان على عدم الرضا بما من شأنه الإخلال بالنظام العام، أو المساس بسمعة سلطات الاستعمار، إضافة إلى جرائم الصحافة والتجمهر والجمعيات غير المرخّصة، وحتى التحريض على الكراهية بين الأجناس[15].
نتيجةً لهذه المنظومة، شهدت فترة الحماية العديد من المحاكمات السياسية التي استهدفت الوطنيين التونسيين. في هذا الصدد، تُظهر السجلات أنه بين 1881 و1926 فقط، نظرت محاكم تونس وسوسة ومحكمة الدرابِة (محكمة مختلطة في ذلك العهد)[16] في 24 قضية سياسية حوكم فيها 55 متهمًا. تنوعت التهم الموجهة إليهم بين شتم قضاة الاستعمار أو سلطات الحماية، والاعتداء على الذات البايية، والتآمر على أمن الدولة، والتحريض ضد سلطات الجمهورية الفرنسية في تونس، ونشر أخبار زائفة من شأنها تعكير النظام. جميع هؤلاء المتهمين كانوا مناضلين مناهضين للاستعمار سعت الإدارة الفرنسية عبر تتبّعهم قضائيًا إلى إضعاف صفوف الحركة الوطنية. هكذا يتضح أن القانون الجزائي لعام 1913 لم يكن مجرد نص لتجريم الأفعال التقليدية، بل أداة سياسية بامتياز بيد المستعمر لضبط المجالين السياسي والاجتماعي في البلاد. لقد جسّد هذا القانون ما يسميه علماء الاجتماع بعنف الدولة القانوني“: حيث يوظَّف التشريع الجنائي لقمع المعارضة وترسيخ البنى السلطوية”. وإن كانت هذه السمة بارزة في الحقبة الاستعمارية، فإن السؤال المطروح هو: إلى أي مدى استمر هذا الإرث في تونس بعد نيل الاستقلال؟
القانون العقابي كأداة للسيطرة الاستعمارية
إن تحليل فلسفة العقاب في الفترة الاستعمارية يظهر أن المستعمر تبنّى منظورًا نفعياً ردعياً قائمًا على التشديد في العقوبة لتحقيق أقصى قدر من الترهيب[17]. فالقانون العقابي لدى الاستعمار الفرنسي، كما طُبّق في المستعمرات، مال إلى أن يكون أكثر صرامة وتقييدًا للحريات من نظيره في فرنسا ذاتها. ويمكن فهم ذلك في ضوء الرؤية الاستعمارية للسكان المحليين الذين اعتُبروا بحاجة للانضباط القسري لضمان خضوعهم[18]. لقد اقترنت هذه السياسة العقابية بنزعة عنصرية ضمنية؛ إذ غالبًا ما تم تجريم الممارسات الاجتماعية للسكان الأصليين وتصويرها كمصدر “تهديد” حضاري أو سياسي. على سبيل المثال، جرم الاستعمار التجمعات والأنشطة الثقافية إذا ما اعتبر أنها قد تتحول لبؤر تململ سياسي، وفرض رقابة صارمة على حرية التعبير والتجمع عبر القانون الجزائي نفسه. من الجدير بالذكر أن القانون الجزائي التونسي 1913 بقي ساريًا في خطوطه العريضة طيلة فترة الحماية وحتى بعدها، مع تعديلات طفيفة في بعض الأحكام لكنها لم تمس جوهر فلسفته الردعية[19]. هذا الاستمرار في العمل بنفس القانون يُظهر أن الإدارة الاستعمارية نجحت في ترك بصمة دائمة على المنظومة القانونية التونسية. فحتى بعد الاستقلال، ورثت الدولة الفتية نصًا جزائيًا تم تصميمه أصلاً لخدمة أغراض السيطرة الاستعمارية. وهذا ما يدفع إلى التساؤل حول مدى تأثر ممارسات الدولة الوطنية المستقلة لاحقًا بهذا الإرث.
يمكن القول إذًا إن القانون الاستعماري وضع الأساس لمنظومة عقابية تُغلّب الردع على الإصلاح، وتعتبر السجن أداة مركزية للسيطرة الاجتماعية. وقد تبلورت في تلك الفترة فكرة “الدولة السجنية” إذا جاز التعبير، حيث يصبح الاعتقال والمحاكمة الجنائية أسلوبًا للتعامل مع التحديات السياسية والمدنية[20]. هذه العقلية ستنعكس بصورة أو بأخرى على طبيعة دولة الاستقلال، كما سنرى، من خلال استمرار منطق استعمال القضاء الجنائي لقمع المعارضة وضبط المجتمع عموماً. لكن قبل الانتقال إلى فترة ما بعد الاستقلال، يجدر التوقف عند نقطة مهمة: هل كان القانون الجزائي التونسي مجرد صنيعة فرنسية خالصة، أم أنه استند أيضًا إلى بعض الأسس المحلية السابقة؟
من المعروف أنه قبل استعمارها، كانت لدى تونس تقاليد قانونية قائمة (الشريعة الإسلامية في الأحوال الشخصية والقانون العقاري إلى جانب قوانين عرفية وغيرها). بيد أن الجانب الجزائي كان متأثرًا أيضًا بالقانون الفرنسي حتى قبل 1913؛ إذ شهدت العقود الأولى من الحماية[21] إدخال جرعات من القانون الجنائي الفرنسي عبر المحاكم المختلطة. وفي عام 1894 مثلاً أُدخل ” القانون الفرنسي للأهالي” الذي طبق في الجزائر المجاورة لضبط الأهالي بوسائل إدارية قمعية (النفي الداخلي، الاعتقال دون محاكمة، إلخ). ورغم أن تونس لم تعرف تمامًا نظام “قانون الأهالي” كالجزائر، إلا أن فلسفة المعاملة التفاضلية بين المستعمر والمستعمَر تسربت في روح القوانين. وعليه، جاء إصدار مجلة الجزاء التونسية 1913 كتتويج لهذه العملية من فرض نموذج عقابي حديث صارم بمعايير أوروبية على مجتمع مغلوب على أمره.
من دلائل استمرارية أثر هذا القانون أن العديد من مواده ظلت نافذة لعقود طويلة دون تعديل، وبعضها لا يزال قائمًا حتى اليوم. فعلى سبيل المثال، الفصل 230 من المجلة الجزائية الذي يُجرّم المثلية بسجن يصل إلى 3 سنوات، هو نص وُضع أصلاً عام 1913 من طرف المستعمر الفرنسي. وقد تم الحفاظ عليه من قِبل الدولة الوطنية رغم كونه تشريعًا استعماريًا تمييزيًا. وقد أصبح هذا الفصل اليوم رمزًا لنضال مجتمع الميم ضد القوانين القديمة البالية، حيث يرفع النشطاء شعار “تسقط القوانين المخزية، تسقط القوانين الاستعمارية” احتجاجًا على استمرار العمل بهذا الفصل بعد أكثر من قرن. هذا مجرد مثال على عدة نصوص عقابية وضعها المستعمر لغرض الضبط الأخلاقي والاجتماعي للمجتمع المُستعمَر، واستمر تطبيقها من قِبل الدولة المستقلة وكأن روحها لم تتغير[22].
باختصار، تمثل المجلة الجزائية التونسية لعام 1913 تجسيدًا للإرث القانوني الاستعماري الذي أولى العقاب والسجن دورًا محوريًا في إخضاع المجتمع. وقد خُلقت هذه المنظومة في سياق سياسي هدفه حماية نظام غير شرعي عبر أدوات “قانونية” ظاهرًا لكنها قمعية جوهرًا. والسؤال الجوهري: ماذا حدث لهذه المنظومة العقابية بعد زوال الحماية؟ هل وقع تفكيكها وإعادة بنائها على أسس جديدة تتماشى مع قيم الاستقلال والحرية، أم أن الدولة الوطنية ورثت الثوب القديم وارتدته لخدمة أغراضها الخاصة؟ الإجابة سنجدها في استقراء السياسات العقابية بعد 1956.
استمرار النهج العقابي بعد الاستقلال
دولة الاستقلال وإعادة توظيف القانون الجزائي
نال التونسيون استقلالهم عام 1956، وتولّى الحزب الحر الدستوري الجديد دفة الحكم. ورثت الدولة الجديدة جهازًا قضائيًا ومنظومة قوانين وضعها المستعمر، وكان يؤمّل أن تبادر إلى إصلاحات جوهرية تعكس القيم الوطنية والعدالة المنشودة. لكن ما حصل فعليًا هو أن الدولة التونسية الفتية أبقت على معظم البنى القانونية الاستعمارية، بما في ذلك المجلة الجزائية لعام 1913 مع إدخال تعديلات طفيفة فقط. تؤكد الدراسات التاريخية أن بورقيبة اختار منهج “الإصلاح الانتقائي المحدود” بدل القطيعة الشاملة مع المنظومة القانونية الموروثة. [23]فقد احتفظبالمجلة الجزائية لعام 1913 كما هي تقريبًا، مع إجراء تحديثات محدودة جدًا. من أبرز التغييرات التي أدخلها في الستينات مثلاً تجريم الاغتصاب وفرض عقوبات مشددة عليه تصل إلى السجن مدى الحياة أو حتى الإعدام في بعض الحالات، إذ لم يكن القانون الاستعماري ينص صراحة على عقوبة خاصة بالاغتصاب[24]. كما رفع بورقيبة سن الرضا في العلاقات الجنسية إلى 20 سنة عوض سن البلوغ، ومعاقبة من يمارس علاقة رضائية مع فتاة دون 20 بالسجن 5-6 سنوات إلا إذا تزوجها المعتدي. كان هدف هذا الفصل المضاف حماية تعليم الفتيات وضمان دخولهن سوق العمل قبل الزواج. ورغم أهمية هذا التعديل، إلا أنه تضمن ثغرة أخلاقية وهي إعفاء الجاني من العقاب إذا تزوج الضحية، مما يعكس رؤية وظيفية للأخلاق الاجتماعية أكثر منها حقوقية للفرد.
بالمقابل، أبقى بورقيبة على غالبية النصوص الجزائية الأخرى دون مساس بما فيها المواد الخاصة بجرائم الأمن العام وجرائم الصحافة والتجمهر الواردة من التراث الاستعماري[25]. وظلت مقاربة النظام الجديد للمخالفين والمنشقين سياسيًا تحمل بصمة المدرسة القديمة نفسها: التوجّه نحو العقاب الجنائي بدل الحوار السياسي. فخلال عهدي بورقيبة ثم بن علي، تواصلت المحاكمات السياسية واستُخدم القضاء الجنائي كأداة لضرب الخصوم السياسيين وإن اختلفت المسميات والأساليب.
في السنوات الأولى بعد الاستقلال مباشرة، أُنشئت محاكم استثنائية لمحاكمة من يُعتبرون خصومًا للدولة الجديدة. مثال على ذلك إحداث محكمة عليا خاصة سنة 1957 لمحاكمة المسؤولين السابقين في العهد الملكي ومن اتُهموا بخيانة الدولة أو نهب المال العام. كما تم إحداث محاكم عسكرية استثنائية عام 1957 للنظر في الجرائم الماسّة بأمن الدولة الداخلي والخارجي. وهذه الإجراءات تؤكد أن السلطة الوطنية اعتمدت منذ البداية النهج العقابي لإقصاء المعارضين وترسيخ هيمنة الحزب الواحد. ولعل أبرز قضية سياسية في أواخر الخمسينات كانت محاكمة صالح بن يوسف، الزعيم السياسي المناوئ لبورقيبة أمام المحكمة العليا الخاصة، والتي انتهت بالحكم عليه غيابيًا بالإعدام عام 1958[26]. على الرغم من الطابع السياسي البحت للقضية، تم تغليفها بإطار قانوني جنائي يضفي شرعية شكلية على تصفية الخصم.
استمر هذا التوظيف للقانون الجنائي في حقبة السبعينات والثمانينات، حيث شهدت تونس محاكمات عديدة للنقابيين والنشطاء اليساريين والإسلاميين بتهم مختلفة مثل “التآمر على أمن الدولة” أو “الانتماء لجمعيات غير قانونية” أو “نشر أنباء كاذبة” وهي تهم وجدت أساسها القانوني في نصوص المجلة الجزائية ذاتها أو القوانين المكملة كقانون الصحافة التي بقي جوهرها متسقًا مع الفلسفة العقابية التقليدية[27]. وعلى سبيل المثال، كثّف نظام بورقيبة ثم بن علي ملاحقة الإسلاميين في الثمانينات والتسعينات وفق تهم مرتبطة بأمن الدولة والاعتداء على النظام العام، مستخدمًا نصوصًا جزائية تعود جذورها إلى الحقبة الاستعمارية. هذا يشير إلى استدامة المنطق العقابي السلطوي: فبعد أن كان يخدم المستعمر في قمع الحركة الوطنية، أصبح يخدم السلطة الوطنية في قمع المعارضة الداخلية.
من جهة أخرى، لم تقتصر استمرارية النهج العقابي على المجال السياسي فقط، بل تجلّت أيضًا في الإبقاء على نظرة تقليدية للفعل الجرمي والعقوبة دون تبنّي نظريات الإصلاح والتأهيل الحديثة. فلم تُعر الدولة كثير اهتمام لمسألة إعادة الإدماج أو العقوبات البديلة طوال العقود التي تلت الاستقلال. بل ظلت السجون التونسية تعمل بوظيفة ردعية انتقامية أكثر من كونها مؤسسات إصلاحية. وقد أشار مختصون إلى أن الدولة التونسية ورثت “دولة البوليس” الاستعمارية واستمرت في نفس المنوال من حيث تغليب كفة الأمن على كفة الحقوق، وجعل السجن أداة سهلة للحفاظ على النظام العام. هذا التوجه يجد تفسيره في الطبيعة السلطوية لنظامي بورقيبة وبن علي، اللذين وإن اختلفا في الخطاب، إلا أنهما التقيا في استعمال منظومة العقوبات كوسيلة للهيمنة السياسية والاجتماعية.
وللتأكيد بالأرقام على استفحال النزعة العقابية، يمكن التطرق إلى مثال قانون المخدرات رقم 52 لسنة 1992. هذا القانون الذي سنّه نظام بن علي تعكس فلسفة عقابية متشددة جدًا تجاه ما اعتبرها “آفة اجتماعية”، حيث فرض عقوبة وجوبية لا تقل عن سنة سجن لكل من يُدان بتعاطي أو حيازة كمية ضئيلة من المخدرات ولو للاستهلاك الشخصي بما في ذلك القنب الهندي/الزطلة. ونتيجة لهذا التشريع، تضخمت أعداد المساجين خلال التسعينات والعقد الأول من الألفية الجديدة، إذ وصلت نسبة الموقوفين بموجب القانون 52 إلى نحو %28 من إجمالي نزلاء السجون في منتصف العقد 2010. بحلول أواخر سنة 2015 كان هناك 7451 سجينًا بسبب جرائم المخدرات، منهم حوالي 5200[28] لمجرد الاستهلاك أو الحيازة الشخصية.[29] كانت الغالبية العظمى من هؤلاء الشباب، بمن فيهم طلبة وفنانون ومدوّنون، بل وتفيد تقارير بأن السلطة أحيانًا استغلّت قانون المخدرات كذريعة لاعتقال الناشطين الذين يصعب ملاحقتهم بتهم سياسية مباشرة.[30] وهكذا أصبحت سياسة تجريم المخدرات عاملًا رئيسيًا في تضخم السجون التونسية، الأمر الذي اعتبرته منظمة هيومن رايتس ووتش “عاملًا رئيسيًا في أزمة الاكتظاظ.” ولم يتم تخفيف هذه السياسة إلا جزئيًا سنة 2017 بتعديل قانون 52 لمنح بعض المرونة للقضاة في حالات التعاطي لأول مرة، دون أن تلغى العقوبة السجنية تمامًا[31].
يتضح مما سبق أن دولة ما بعد الاستقلال في تونس حافظت عموماً على النهج العقابي الصارم الذي ورثته: سواء عبر استخدام القانون لقمع المعارضة، أو عبر استمرار التشريعات التي تجرّم طيفًا واسعًا من السلوكيات دون توفير بدائل للعقوبة السجنية. لم تكن هناك محاولات جادة لإعادة هيكلة المنظومة الجزائية على أسس مغايرة. وحتى الإصلاحات التي أدخلت مثل بعض التحسينات في حقوق المرأة في القانون الجزائي، أو العفو عن بعض السجناء السياسيين بين الفينة والأخرى بقيت محدودة الأثر على جوهر العقلية العقابية السائدة.
غياب الإصلاحات الهيكلية في السياسة العقابية
لفهم استمرارية المنظومة العقابية التقليدية في تونس، يمكن أن نستحضر منظورًا فلسفيًا واجتماعيًا. يرى الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في كتابه “المراقبة والمعاقبة” أن ظهور السجن كمؤسسة عقابية مركزية في المجتمعات الحديثة لم يكن بهدف إصلاح المذنبين بقدر ما كان وسيلة لفرض انضباط شامل على الأفراد. فالسجن عند فوكو هوامتداد لآليات السلطة التي تراقب الأجساد وتطوّعهالخدمة النظام القائم[32]. إذا أسقطنا هذا التحليل على السياق التونسي، نجد أن الدولة (سواء الاستعمارية أو الوطنية) استخدمت السجن والقانون العقابي كأدوات ضبط اجتماعي وسياسي. لم تتبلور رؤية إصلاحية حقيقية تعتبر العقاب وسيلة لإعادة تأهيل المخطئ ودمجه مجددًا في المجتمع كفرد صالح. بدل ذلك، بقيت النظرة وظائفية-أداتية تعتبر السجن عقوبةً صارمة وردعًا للغير وسيطرةً على المنحرفين والمعارضين، دون أن تهتم كثيرًا بمآلات السجين بعد قضاء المدة. وهذا ما يفسّرضعف الاهتمام الرسمي تاريخيًا ببرامج إعادة الإدماج أو بدائل السجن في تونس[33]. فخلال عهد بورقيبة مثلاً، ورغم توجهه الحداثي في عدة مجالات، لم تحظَ المنظومة السجنية بإصلاح عميق؛ استمر الاكتظاظ وسوء المعاملة والتهميش المجتمعي للمساجين بعد الإفراج. وفي عهد بن علي، تفاقمت الطبيعة القمعية للسجون نظراً للاستخدام المكثف لها تجاه الخصوم السياسيين، فضلاً عن تضخم أعداد سجناء الحق العام بسبب سياسات التجريم الواسعة النطاق.
بالطبع شهدت تونس أيضًا جهودًا إصلاحية محتشمة. على سبيل المثال، صدر قانون تنظيم السجون سنة 2001 (القانون عدد 52 لسنة 2001) الذي هدف ظاهريًا إلى تحسين ظروف الاحتجاز وضمان كرامة السجين لكنه بقي إطارًا نظريًا أكثر منه تغييرًا فعليًا، حيث استمر اكتظاظ السجون وتواصلت الانتهاكات[34] مثل التعذيب وسوء المعاملة الذي وثقته منظمات حقوقية حتى آخر أيام نظام بن علي. وبعد ثورة2011 [35]، انفتح المجال أكثر لنقاش إصلاح العدالة الجزائية؛ فتم إقرار دستور جديد يكفل بعض الحقوق الأساسية للمتهمين والمحكومين. كما أعلنت الحكومات المتعاقبة نيتها مراجعة المجلة الجزائية ومجلة الإجراءات الجزائية لإدخال إصلاحات تضمن محاكمات عادلة وتقلّص اللجوء إلى الإيقاف التحفظي وتستحدث عقوبات بديلة. لكن معظم هذه المشاريع لم تكتمل ولم تترجم إلى واقع تشريعي ملموس حتى اليوم. وبقي الهيكل العام للمنظومة كما كان: قانون جزائي شبه ذاته منذ 1913 مع تغييرات طفيفة عبر السنين، وقضاء يميل إلى الحل العقابي السهل أي السجن، وسجون عاجزة عن أداء أي دور إصلاحي يذكر.
في المحصلة، تكشف قراءة مسار القانون الجزائي التونسي أن منطق العقاب الأصلي الذي أرسته سلطات الحماية الفرنسية لم يُستأصل جذريًا بعد الاستقلال. بل على العكس، أعاد النظام الوطني إنتاجه بطريقته الخاصة لخدمة سلطته ومنظومته القيمية، مع تعديلات شكلية هنا وهناك. وظل “هاجس النظام” يتقدم على “هاجس العدالة والإصلاح” في معادلة الدولة والسجون. هذا الوضع الموروث والمستدام شكل التربة الخصبة لما نشهده اليوم من انفجار أزمة الاكتظاظ،[36] إذ لا يمكن فصل المؤشرات الحالية عن جذورها التاريخية والمؤسساتية. ولعلنا الآن ندخل في صلب هذه الأزمة لنفهم ملامحها الدقيقة وأسبابها المباشرة في الفترة الراهنة.
الواقع الراهن: الاكتظاظ السجني وأسبابه الهيكلية
أرقام ودلالات: انفجار عدد المساجين
تعد تونس اليوم من أعلى الدول في المنطقة من حيثمعدل السَجن قياسًا بعدد السكان. وفق أحدث إحصاء متاح في ماي 2025 يبلغ معدل السجناء حوالي 267 سجينًا لكل مئة ألف نسمة[37]. وهذا رقم مرتفع يتجاوز المعدلات المسجلة في كثير من الدول العربية والإفريقية. فمثلاً، في المغرب الذي لديه أيضًا مشكلات اكتظاظ يبلغ المعدل نحو 238 لكل مئة ألف، وفي فرنسا حوالي 100 فقط. هذا يعني أنتونس تسجّل معدلًا يقارب ثلاثة أضعاف بعض الدول الديمقراطية، وأعلى من معظم دول المغرب الكبير. أما من حيث العدد الجملي، فقد ارتفع من حوالي21 ألف سجين في 2011 إلى 25 ألفًا في 2013 ثم انخفض قليلًا إلى حوالي 20,700 في 2017 بعد موجة عفو إثر الثورة، لكنه عاد للارتفاع بشكل متسارع خلال السنوات القليلة الماضية ليتجاوز 33 ألفًا في 2024-2025. هذه الزيادة بأكثر من 10 آلاف خلال بضع سنوات فقط تُنذر بخلل بنيوي، خاصة وأن البلاد لم تشهد ارتفاعًا مماثلًا في عدد السكان أو الجرائم الخطيرة يبرر ذلك. بل إن هذا التضخم العددي يعزى في جانب كبير منه إلى عوامل مرتبطة بمنظومة العدالة الجنائية نفسها ورؤية السلطة الحالية للمنظومة العقابية.
تشير الإحصاءات أيضًا إلى أن حوالي 55% من المساجين في تونس هم من الموقوفين احتياطيًا. وبحسب تقرير حديث لمنظمة العفو الدولية عام 2023، نصف المساجين تقريبًا هم رهن الإيقاف التحفظي دون أحكام باتة. هذه النسبة المرتفعة تعني أن آلاف الأشخاص يقبعون في السجن بانتظار المحاكمة أو خلال الاستئناف، وربما يظلون لأشهر أو سنوات قبل صدور حكم نهائي بشأنهم. وهذا مؤشر على سوء استخدام الحبس الاحتياطي في تونس[38]. إذ يفترض وفق المعايير الدولية أن يكون التوقيف التحفظي إجراءً استثنائيًا ولأقصر مدة ممكنة، لكن الواقع يعكس اعتمادًا مفرطًا عليه. وقد سجّلت منظمات حقوقية “استسهالًا” لدى بعض القضاة في إصدار بطاقات الإيداع بالسجن حتى في جنح بسيطة، وأيضًا بطئا شديدًا في إجراءات التقاضي مما يطيل أمد الإيقاف. ومن الشائع أيضًا تكرار تأجيل الجلسات عدة مرات لنفس القضية دون البت فيها، مما يطيل بقاء الموقوفين في الحبس الاحتياطي. وهكذا يصبح الاكتظاظ مرتبطًا جزئيًا بتراكم الموقوفين الذين ربما تثبت براءة عدد كبير منهم أو يحكم عليهم بعقوبات غير سالبة للحرية في النهاية، لكن بعد فوات الأوان إذ يكونون قد قضوا شهورًا أو أعوامًا وراء القضبان[39].
جانب آخر مهم هو قصر مدد العقوبات لعدد كبير من المساجين، ما يعني أنهم دخلوا السجن في قضايا صغيرة كان يمكن ربما تجنب سجنهم من الأصل. تُظهر بيانات الإدارة العامة للسجون أن أكثر من نصف المحكومين يقضون عقوبات لا تتجاوز سنة واحدة. فقد بلغ عدد المحكومين بسنة فأقل حوالي 12,639 سجينًا (54.5% من مجموع السجناء) سنة 2018.[40] هذه الأرقام تدل على أن المنظومة كثيرًا ما تلجأ إلى السجن كعقوبة حتى في الجرائم البسيطة أو لأول مرة. فبدل اعتماد بدائل كالعمل للمصلحة العامة أو الغرامة المالية أو التأهيل، يتم زج مرتكبي المخالفات والجنح الصغيرة في السجون، مما يفاقم الازدحام بدون ضرورة حقيقية. وقد اعترفت السلطات نفسها بهذه المشكلة؛ حيث صرّح رئيس الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب مؤخرًا أن هناك الآلاف ممن يقضون عقوبات قصيرة لجنح بسيطة وكان بالإمكان تجنيبهم السجن عبر عقوبات بديلة.
إلى جانب ذلك، تبرز سياسات تجريم محددة ساهمت في تضخم السجون. وقد أسلفنا الحديث عن قانون المخدرات الذي كان لعقود السبب الأول لدخول آلاف الشباب السجن لمجرد استهلاك القنب الهندي[41]. قبل إصلاحه الجزئي، وصلت نسبة “مساجين الزطلة” إلى 28% من نزلاء السجون كما ذكرنا، ما يجعل هذا القانون عاملًا بنيويًا من عوامل الاكتظاظ. وبرغم تعديل القانون عام 2017 لإعطاء القضاة مرونة بإعفاء أول مرة من العقوبة السجنية، إلا أن التطبيق القضائي ربما لا يزال متشدّدًا في أحيان كثيرة، أو أن أعداد الموقوفين سابقًا لم تُعالج. أيضًا يمكن الإشارة إلى قوانين أخرى تُجرّم أفعالًا خلافية أو بسيطة تساهم في دخول الناس السجن، مثل قانون التجمهر غير المرخص (الذي يُستخدم أحيانًا ضد محتجين)[42]، وقانون المجلة الجزائية نفسها التي ما زالت تحتوي فصولًا تجرّم “التجاهر بالفحش” و”الإخلال بالأخلاق الحميدة” وغيرها بعبارات فضفاضة قد تؤدي لسجن شباب بسبب سلوك شخصي أو تعبير حر. هذه النصوص القديمة لم تُنقَّح بما يتلاءم مع معايير حقوق الإنسان الحديثة، فتظل مصدرًا لجرّ المزيد إلى دائرة التجريم والسجون[43].
فضلًا عن ذلك، لا يمكن إغفالتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في تونس خلال السنوات الأخيرة كمحرّك خفي لازدياد معدلات الجنح والجرائم البسيطة وتلخيص السلطة السياسية للأزمات الراهنة بأنها مؤامرات وتصوير الحلول وربطها بسجن المحتكرين والمتآمرين وبالتالي تنامي عدد السجناء. فعندما ترتفع معدلات البطالة والفقر ومع الشعبوية الطاغية في الخطاب السياسي، يتزايد ارتكاب بعض الجرائم مثل السرقة البسيطة أو مخالفات السوق الموازية وما شابه، وهي جرائم غالبًا ما تؤدي إلى عقوبات سجن قصيرة. ومع غياب برامج اجتماعية ناجعة لمعالجة جذور الجريمة الاقتصادية، تصبح السياسة الجزائية الملاذ الأسهل للتعامل مع إفرازات الأزمة الاجتماعية، مما يفاقم بدوره أعداد المساجين. بهذا المعنى، يمكن اعتبار أزمة السجون التونسية مرآة لأزمة أعمق في المجتمع: أزمة التهميش الاجتماعي والاقتصادي والسياسي التي يُواجَه أفرادها بالعقاب والجام الأفواه بدل الاحتواء.
أسباب هيكلية لاستفحال الاكتظاظ
إن تفكيك العوامل البنيوية وراء التضخم المهول في عدد المساجين يقودنا إلى جملة من الإشكاليات المترابطة في المنظومة القانونية والقضائية. فكما أسلفنا، ما زالت تونس تعمل بقانون عقوبات يعود لعصر آخر لم يخضع لمراجعة شاملة. هذا القانون يحدد عقوبات سالبة للحرية في عديد من الحالات التي قد لا تستوجب السجن وفق النظريات الحديثة. على سبيل المثال، العديد من جرائم الجنح البسيطة تتراوح عقوباتها بالسجن من عدة أشهر إلى سنة. بينما الاتجاهات المعاصرة تذهب إلىتقليص اللجوء للسجن في مثل هذه الجنح واستبدالها بعقوبات مجتمعية كخدمة المجتمع أو المراقبة القضائية. غياب هذه البدائل في نصوص القانون التونسي جعل القضاة لا يجدون أمامهم إلا عقوبة السجن كخيار جاهز. حتى مع توافر بعض البدائل المحدودة منذ سنة 1999، بقي النص الأصلي والفكر العقابي التقليدي مهيمِنًا، فتحوّلت السجون إلى مخزن لكل أنواع المخالفات كبيرها وصغيرها[44].
في نفس هذا السياق وفي ضل ضعف البدائل عن السجن وندرة تطبيقها، أُدخل في تونس منذ 1999 عقوبة “العمل لفائدة المصلحة العامة” كبديل يمكن للقاضي اعتماده بدلاً عن السجن لمدة لا تتجاوز سنة. لكن عمليًا، لم يقع تفعيل هذا البديل بشكل حقيقي طوال سنوات، حيث تشير التقاريرأنهبين 1999 و2013[45] لم يصدر أي حكم بخدمة المصلحة العامةرغم وجود النص. هذا الفراغ استمر حتى بعد 2013 مع إنشاء وزارة العدل لبعض مكاتب مراقبة تجريبية لمتابعة المحكومين بعقوبات بديلة. ولكن حتى 2019، لم تكن سوى 4 مكاتب من أصل 7 مخطط لها تعمل فعليًا (في سوسة وبنزرت والمنستير وقابس)، كما أن هذه المكاتب تفتقر لإطار قانوني محدد وإلى الموارد البشرية والمادية اللازمة. وبلغ إجمالي ما أشرفت عليه منتدابير بديلة منذ إنشائها حوالي 1848 حالة فقط، أغلبهاإفراجات شرطية لبعض المحكومين، وقليل جدًا من أحكام العمل للمصلحة العامة. أي أن ما نراه هو جنين بدائل لم يتطور ولم يسهم فعليًا في تقليل عدد المساجين. لا شك أنثقافة الجهاز القضائي نفسها تلعب دورًا هنا؛ فالقضاة والمدعون العامون ظلوا تقليديًا ينظرون للعقوبة على أنها مرادفة للسجن، ولم تحظَ فكرة البدائل مثل تأجيل النطق بالحكم مع الوضع تحت الاختبار، أو العقوبات المالية، أو الإقامة الجبرية، أو السوار الإلكتروني بالقبول والشيوع. وقد وصفت منظمة محامون بلا حدود هذا الأمر بأنه “تصوّر شديد القمع لوظيفة العقوبة لدى الفاعلين في قطاع العدالة.”
تشهد تونس في نفس هذا الإطار، الافراط في التوقيف التحفظي، حيث يمثّل الإيقاف على ذمة التحقيق أو المحاكمة أحد أبرز مصادر الاكتظاظ كما رأينا[46]، بنحو نصف عدد المساجين. يعود ذلك لأسباب عدة منهابطء الإجراءات كما ذكرنا، وميل بعض القضاة تلقائيًا لإيداع المشتبه فيهم السجن بدل اعتماد تدابير أقل تقييدًا كالإفراج بكفالة أو المراقبة القضائية. الكثير من المحامين يشتكون منسهولة إصدار مذكرات الإيداع بالسجن حتى في جرائم غير خطرة، مما يجعل موكليهم يقضون فترات طويلة قبل البتّ في مصيرهم. ولعل من الأمثلة الصارخة حديثًا هو إيقاف عشرات الأشخاص في قضايا ذات صبغة سياسية بعد 2021 وبقاؤهم شهورًا في السجن دون محاكمات سريعة، ضمن مناخ“التشدد الأمني” الذي أعقب إجراءات 25 جويلية 2021[47]. ولهذا ثمن اجتماعي وإنساني باهظ: فهؤلاء الموقوفون قد تثبت براءتهم لاحقًا أو يُحكم ببراءة البعض منهم، لكنهم يكونون قد عاشوا تجربة السجن واكتظاظه سدىً. فضلًا عن أن طول المدة يدفع البعض للإقرار بجرائم لم يرتكبونها تخلصًا من الوضع أو طلبًا لتخفيف العقوبة، مما يقوّض العدالة. وقد دعت منظمات دولية كاللجنة الدولية للصليب الأحمر منذ سنوات إلى تقليص استخدام التوقيف التحفظي في تونس واعتماد بدائل مثل الإفراج المشروط أو السراح بكفالةللحد من الاكتظاظ. ولكن التقدم في هذا الملف ظل بطيئًا.
وتعاني السجون التونسية من ضعف برامج الإصلاح وإعادة الإدماج، مما يؤدي إلى ارتفاع معدّل العود. تُقدّر نسبة العود بحوالي 40% وفق معطيات الإدارة العامة للسجون (ما بين 2017 و2019). هذا يعني أن قرابة نصف من يغادرون السجن يعودون إليه لاحقًا بسبب ارتكابهم جرائم جديدة، ما يدل على أن تجربة السجن لم تصلح سلوكهم، بل ربما زادتهم تهميشًا وإجرامًا. أسباب ذلك عديدة، منها أن الوصم الاجتماعي ضد السجين السابق قوي في تونس، مما يصعّب حصوله على عمل أو قبول مجتمعه له. كما أن الدولة لا توفر متابعة فعلية للمفرَج عنهم، ولا برامج كافية للتدريب المهني والتعليم داخل السجون. صحيح أنه يوجد “أعوان تأهيل” نظريًا تابعون للسجون، لكن التقارير تفيد بأنهم يفتقرون للعدد والتجهيزات للقيام بدور فاعل. معظم السجون التونسية تُقدِّم خدمات محدودة جدًا في الأنشطة الرياضية والتعليمية والثقافية للسجناء، وإن وجدت ورشات عمل فتستوعب نسبة ضئيلة منهم. وبالتالي يقضي أغلب المساجين وقتهم دون أي برنامج هادف، ما يجعل السجن “مدرسة للجريمة” حيث يختلط المبتدئون بأصحاب السوابق الخطيرة في ظروف غير إنسانية. وبانعدام التأهيل وإعادة الإدماج، يصبح السجين السابق عرضة للعودة إلى الطريق الإجرامي، مما يعيد إنتاج الجريمة والاكتظاظ في حلقة مفرغة. بهذا تبدو المنظومة العقابية وكأنها تفشل في تحقيق أي هدف إصلاحي أو حتى ردعي بعيد المدى، بل تزيد من تأزيم المشكلة[48].
وتعد تردي البنية التحتية وظروف الاحتجاز عامل ونتيجة في آن واحد. فالاكتظاظ أدى إلىتدهور خطير في ظروف العيش داخل السجون، من حيث اكتظاظ الزنزانات، ورداءة الغذاء، ونقص الرعاية الطبية، وانعدام الخصوصية والنظافة. وقد تجاوزت بعض السجون نسبة 200% من طاقتها مثل سجن المرناقية وسجن برج العامري، ما يعني أن الزنزانات تحوي ضِعف أو ثلاثة أضعاف العدد الموصى به. ينام العديد من السجناء على الأرض بالتناوب، ويفتقرون إلى التهوية والرعاية الصحية اللائقة. هذه الظروف القاسية تمثل انتهاكًا واضحًا لـقواعد الأمم المتحدة النموذجية لمعاملة السجناء (قواعد مانديلا) التي تؤكد على الكرامة الإنسانية حتى وراء القضبان. [49]وقد وثقت منظمات حقوقية استمرار ممارسات مهينة أو سوء معاملة في بعض السجون التونسية رغم التحسن النسبي بعد 2011. على سبيل المثال، صدر تقرير في سبتمبر 2023 عن منظمة العفو الدولية يحذر من تفاقم أوضاع السجون التونسية ويدعو السلطات إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لتخفيف الاكتظاظ وتحسين المعاملة. إن ظروف الاحتجاز السيئة قد لا تكون سببًا مباشرًا للاكتظاظ لكنها بالتأكيد تزيد الوضع سوءًا وتولّد مشاكل أخرى كالأمراض المعدية وأعمال العنف داخل السجون وحالات الانتحار وغيرها. كما أنها علامة على عدم اهتمام الدولة بهذا الملف وغياب الإرادة السياسية الحقيقية للإصلاح، مما يعني استمرار النهج نفسه الذي يغذي المشكلة الأصلية.
مجمل هذه العوامل تتظافر في إنتاج الأزمة الراهنة. فلدينا منظومة قانونية تقليدية تفرز عددًا كبيرًا من المحكومين، ومنظومة قضائية بطيئة ومعتدة بالعقاب السالب للحرية، ومنظومة سجنية عاجزة عن الاستيعاب وعن الإصلاح. يضاف إلى ذلك ظرفيات سياسية واجتماعية ضاغطة في السنوات الأخيرة. فمع تشديد القبضة الأمنية بعد 2021 شهدت البلاد موجة اعتقالات شملت معارضين ونشطاء في قضايا “التآمر على أمن الدولة” وغيرها مما زاد العبء على السجون؛ وأيضًا معتفاقم الأزمة الاقتصادية يمكن أن يكون معدل الجرائم الصغرى في ارتفاع. النتيجة هيعشرة آلاف سجين إضافي في وقت وجيز دون أن يرافق ذلك بناء سجون جديدة أو إطلاق بدائل لتخفيف العبء، فبلغت الأمور مستويات خطرة جدًا. حتى السلطات نفسها أقرت بأن الوضع حرج، إذ دعا رئيس هيئة مكافحة التعذيب مثلًا إلى إجراءات فورية لتقليل عدد الموقوفين. لكن المعالجة الجذرية لا تبدو ممكنة دون تغيير السياسات والقوانين.
المعايير الدولية والمقارنة الإقليمية
تونس وقواعد مانديلا: فجوة شاسعة
على صعيد المعايير الدولية لحقوق السجناء، تُعتبر قواعد نيلسون مانديلا الإطار المرجعي الأبرز[50]. هذه القواعد تشدد على احترام كرامة السجين كإنسان، وتوفره على مساحة معيشية وصحية لائقة، وحقه في التواصل مع العالم الخارجي، وحمايته من التعذيب وسوء المعاملة. كما تؤكد القواعد أن هدف السجن الأساسي هو تأهيل السجين وإعادة دمجه في المجتمع، وأن العقوبة السالبة للحرية يجب أن تُستثمر لهذا الغرض. بالنظر إلى الواقع التونسي الحالي، نجد فجوة واضحة بين هذه المعايير الدولية وبين الممارسة. فالاكتظاظ الشديد يجعل من المستحيل ضمان الحد الأدنى من المعاملة الإنسانية المنصوص عليها[51]. إذ تنص قواعد مانديلا مثلاً على توفير مساحة كافية لكل سجين للنوم والحركة والتهوية، وهو ما لا يتحقق في زنازين يحشر فيها ضعف العدد المفترض. كما تطالب القواعد بتوفير رعاية صحية معادلة لما هو متاح للمجتمع الحر، في حين تعاني السجون التونسية من نقص فادح في الأطباء والأدوية، وتشهد حالات وفيات يشتبه بأنها نتيجة الإهمال الطبي.
فضلاً عن ذلك، المدة الطويلة للتوقيف الاحتياطي في تونس تتعارض مع مبدأ أن “المتهم بريء حتى تثبت إدانته” وضرورة معاملة الموقوفين احتياطيًا بشكل خاص. فقواعد مانديلا تفصل بين فئة المحتجزين احتياطيًا وفئة المحكومين، وتنادي بأن يكون الحبس الاحتياطي محددًا بأضيق نطاق زمني. تونس ملزمة أيضًا بالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي صادقت عليه، والذي ينص في المادة 9 على أن الحبس قبل المحاكمة يجب أن يكون الاستثناء لا القاعدة. لكن نسبة المحتجزين احتياطيًا في تونس تظهر عدم الالتزام الفعلي بهذه المعايير. وقد انتقدت منظمات دولية ومحلية هذه الظاهرة واعتبرتها مساهمة رئيسية في اكتظاظ السجون وانتهاكًا لحقوق الأفراد[52].
إلى جانب ذلك، غياب البدائل عن السجن في التطبيق التونسي لا ينسجم مع التوجه الدولي الحديث. فقد تبنى مؤتمر الأمم المتحدة لمنع الجريمة الذي عُقد في السنوات الأخيرة توصيات تدعو الدول إلى اعتماد تدابير غير احتجازية للجرائم البسيطة، وذلك لتخفيف العبء عن السجون وإعطاء المخالفين فرصة للإصلاح خارج أسوار السجن. هذه التدابير تشمل مثلاً الوساطة والصلح في المخالفات، أو الأمر بالخدمة الاجتماعية، أو المراقبة الإلكترونية، أو تأجيل النطق بالحكم مع الوضع تحت الاختبار. العديد من الدول أخذت بهذه التوجهات؛ فعلى سبيل المثال في بعض دول أوروبا الغربية تصل نسبة العقوبات البديلة إلى أكثر من نصف الأحكام في الجنح. أما في تونس فالنسبة ضئيلة للغاية يكاد يكون كل حكم جنائي إما سجن أو خطية، ونادرًا ما تصدر أحكام بـ TIG أو تأجيل تنفيذ مع اختبار. هذا يعني أن المنظومة التونسية لم تواكب المعايير والممارسات الفضلى عالميًا في هذا الصدد.
كما أن مبدأ تناسب العقوبة مع الجرم، وهو مبدأ قانوني عالمي، قد لا يُحترم دائمًا في تونس نتيجة القوالب الجامدة في التشريع القديم. أيضًا استمرار وجود عقوبة الإعدام في القانون التونسي (وإن كان هناك تعليق فعلي لتنفيذها منذ 1991) يجعل تونس مخالفة للاتجاه العالمي نحو إلغاء أو تجميد هذه العقوبة اللاإنسانية. ومع أن تنفيذ الإعدام متوقف، فإن المحكومين بالإعدام يعانون أوضاعًا صعبة في انتظار مصير مجهول. وقد دعت “القواعد النموذجية” الدول إلى السعي لإلغاء الإعدام أو على الأقل معاملتهم بما يحفظ كرامتهم[53].
إجمالاً، تونس وإن كانت صادقت على العديد من المعاهدات الدولية ذات الصلة، إلا أن التطبيق على الأرض يحتاج لمواءمة تشريعية وإدارية كبيرة مع المعايير الحقوقية. وفي هذا السياق، يبرز دور هيئات الرقابة الوطنية مثل الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب (INPT) والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان التي تصدر تقارير وتوصيات. فمثلاً أصدرت الرابطة في ماي 2025 تقريرًا صادمًا يبين أن بعض السجون تجاوزت 200% من طاقة استيعابها كما ذكرنا انفا، ودعت السلطات إلى تفعيل بدائل السجن فورًا للتخفيف. كما دعت منظمة العفو الدولية أثناء جائحة كورونا إلى إطلاق سراح فئات معينة كالمساجين الذين وشك إنهاء محكوميتهم أو الموقوفين لجنح بسيطة، لتفادي كارثة صحية داخل السجون. في دول أخرى عديدة اتُخذت خطوات مماثلة خلال الجائحة وأدت إلى انخفاض لافت في عدد السجناء مؤقتًا. تونس أيضًا أفرجت عن حوالي 8500 سجين بعفو خاص في مارس-أفريل 2020، لكن سرعان ما عادت الأعداد للارتفاع بعد انتهاء الأزمة الصحية. هذا يبين أن الحلول الوقتية غير كافية ما لم تُعتمد استراتيجية مستدامة.
المقارنة مع دول مغاربية ونامية
من المفيد هنا وضع الحالة التونسية في سياق مقارن مع دول شبيهة، لفهم أين تقف تونس وأي الدروس يمكن استخلاصها. في المغرب مثلًا، تواجه السجون أيضًا مشكلة اكتظاظ حادة لكن الحكومة المغربية اتخذت بعض الخطوات للتخفيف. بلغ عدد السجناء في المغرب حوالي 85 ألفًا سنة 2022 (لمجموع سكان يقارب 37 مليونًا) وبلغت نسبة الاكتظاظ نحو 159%. شرعت السلطات المغربية منذ سنوات في برنامج بناء سجون جديدة وزيادة الطاقة الاستيعابية، وتم سن قانون للعقوبات البديلة في 2021 يشمل العمل الاجتماعي والغرامات التصالحية. هذا القانون المغربي جاء بعد ضغوط من المجتمع المدني للتعامل مع تضخم السجناء وخصوصًا المحبوسين احتياطيًا الذين يمثلون حوالي 40% هناك أيضًا. رغم ذلك، لا تزال فعالية هذه الإصلاحات محدودة والمشكلة قائمة، لكن تُحسب كمحاولة جادة للتغيير[54].
في الجزائر، لديها كذلك معدل سجن مرتفع نسبيًا، وقد قامت الدولة ببناء مؤسسات عقابية حديثة لنقل السجناء من السجون القديمة المتهالكة. كما طبقت أحيانًا إجراءات عفو واسعة خاصة عقب حراك 2019 تم الإفراج عن عدد من معتقلي الرأي. ومع ذلك، هناك انتقادات أن التشريعات الجزائرية أيضًا متشددة خاصة بعد قوانين مكافحة الإرهاب والمخدرات مما يبقي الأعداد مرتفعة[55].
على صعيد آخر أكثر بعدًا، نستحضر تجربة بعض دول أمريكا اللاتينية التي عانت تاريخيًا من اكتظاظ كارثي في سجونها نتيجة سياسات “الحرب على المخدرات” وسياسات “المناهج العقابية الشعبوية”. تقارير أممية تشير إلى أن المنطقة اللاتينية بها بعض أعلى نسب السجن عالميًا، تجاوزت 200 لكل 100 ألف في دول مثل كولومبيا ووصلت 300 في البرازيل. إلا أن بعض الدول بدأت تنتهج إصلاحات لتخفيف العقوبات الجنائية على الجرائم غير العنيفة. كوستاريكا مثال لافت ذكره باحثون كحالة إيجابية:[56] فهذه الدولة رغم معاناتها من مشاكل مخدرات وأمن، تبنّت سياسات أكثر رحمة مثل عدم سجن متعاطي المخدرات والاهتمام بإعادة التأهيل. وقد نجحت كوستاريكا في الحفاظ على معدل سجن أقل بكثير من جيرانها، كما استثمرت في برامج بديلة وأقفلت بعض السجون بسبب انخفاض النزلاء. أيضًا الأوروغواي اتبعت منهجًا تقدميًا بإلغاء تجريم بعض المخدرات كتقنين القنب وتوسيع العقوبات البديلة، مما ساعد في تخفيف الضغط على السجون.
هذه المقارنات تظهر أن إصلاح السياسة العقابية ممكن إذا توافرت إرادة سياسية ورؤية متبصرة. بل إن دولًا كانت معروفة بتشددها مثل بعض الولايات في الولايات المتحدة بدأت تغيّر نهجها بعد أن وصلت إلىطريق مسدود مع امتلاء السجون دون انخفاض يذكر في معدل الجريمة. التجربة الأمريكية مثلاً أظهرت أن الإفراط في السجن يكلف المجتمع كثيرًا ولا يقلل الجريمة بشكل مستدام، لذلك بدأت عدة ولايات في برامج لإعادة دمج السجناء وتخفيف الأحكام عن الجرائم البسيطة. هذه التحولات مدفوعة أيضًا باعتبارات اقتصادية؛ إذ تبين أنالسجن هو أغلى الخيارات وأقلها جدوى في كثير من الحالات مقارنة بالعلاج أو المراقبة المجتمعية. في تونس أيضًا، ميزانية السجون ترتفع بارتفاع النزلاء، وهو عبء على دافع الضرائب وعلى الدولة التي تواجه أزمة مالية[57].
خلاصة القول، تونس ليست وحدها في معضلة السجون، لكنها ربما تأخرت في خوض غمار الإصلاح مقارنة ببعض الدول. لا تزال ذهنيات “التشدد العقابي” متغلغلة سواء لدى جزء من الرأي العام أو لدى صناع القرار، حيث يُنظر إلى البدائل أحيانًا بارتياب وكأنها تساهل مع المجرمين. لكن التجارب العالمية تثبت أن العدالة الناجعة لا تعني بالضرورة العقاب الأقصى، بل تعني العقاب المناسب الذي يحمي المجتمع ويصحح الجاني بأقل الأضرار الجانبية الممكنة. هذه النظرة الحديثة لم تتجسد بعد كما ينبغي في تونس. وهنا يأتي دور النقد الفكري والفلسفي لمنظومة العقوبة السائدة، والذي سنعالجه تاليًا، تمهيدًا لطرح رؤى إصلاحية.
نقد فلسفي لمنظومة العقاب الراهنة
في ضوء المعطيات السابقة، يثور تساؤل جوهري: ما جدوى العقوبة السجنية في صيغتها الحالية؟ وهل تحقق غايات العدل والأمن والإصلاح المرجوة منها، أم أنها تحولت إلى ممارسة جوفاء تُلحق من الضرر أكثر مما تصلح؟ هذا السؤال يقودنا إلى نقاش فلسفي حول مفهوم العقاب وأخلاقياته. فقد عرفت فلسفة القانون عبر التاريخ اتجاهات متعددة في تبرير العقوبة الجنائية: أبرزها الاتجاه الردعي النفعاني، الذي يرى العقوبة وسيلة لردع الجريمة مستقبلاً وحماية المجتمع والاتجاه الانتقامي الذي يعتبر العقوبة إحقاقًا للعدالة بإيقاع الألم المستحق على المجرم، ثم الاتجاه الإصلاحي الذي يركز على إصلاح المذنب نفسه ليعود فردًا صالحًا، وكذلك مفهوم العدالة التصالحية الحديث القائم على تعويض الضرر للضحية وإعادة دمج المذنب عبر تحمّل مسؤوليته[58].
إذا تأملنا وضع تونس، نجد أن المنظومة العقابية تميل إلى الدمج بين النزعتين الانتقامية والردعية التقليدية، مع حضور باهت للغاية للمنحى الإصلاحي. فالعقوبة السجنية تُنفذ في ظروف قاسية بحيث تصبح عقوبة بدنية ونفسية مضاعفة لا مجرد تقييد حرية، وهو ما يشي بروح انتقامية ضمنية كأن المجتمع ينتقم من المخطئ بإذلاله في السجن. وفي الوقت نفسه، يجري تبرير التشدد بأنها رسالة ردع للآخرين[59]. لكن الواقع يثبت أن هذا الردع المزعوم محدود الأثر، بدليل عدم انخفاض نسبة العود إلى الجريمة، بل بقائها مرتفعة. ذلك أن الردع لا يتحقق بالترهيب وحده إذا كانت دوافع الجريمة اجتماعية أو شخصية عميقة، أو إذا كانت تجربة السجن ذاتها لا تكسب الفرد مهارات جديدة لحياة كريمة. من جانب آخر، العدالة الجزائية في تونس شبه منفصلة عن فكرة التعويض والتصالح. فالضحية، إن وُجدت، دورها ثانوي، والمجتمع المحلي لا يشارك في الحل. كل ما هنالك هو دولة تعاقب مجرمًا باسم المجتمع. لكن ماذا بعد العقاب؟ هنا نجد فراغًا قيمياً وعملياً: إذ يخرج السجين غالبًا أكثر غضبًا أو تهميشًا من ذي قبل. لقد فشلت المنظومة العقابية الحالية في تونس في تحقيق أحد أهم مبررات وجودها وهو تقويم سلوك المجرمين وضمان عدم عودتهم للإجرام. وعلى حد تعبير الفيلسوف البريطاني جون ستيوارت مِل، “قيمة أي عقوبة تُقاس بقدرتها على منع تكرار الجريمة.” فإذا طبقنا ذلك، نجد العقوبات التونسية ضعيفة القيمة بمعيار ميل لأنها لا تمنع تكرار الجريمة (40% عود).
من منظور فلسفي نقدي آخر، يشير بعض المفكرين إلى أن ظاهرة “عقاب الفقراء” متفشية في كثير من المجتمعات الحديثة. أي أن السجون تمتلي غالبًا بالشرائح الاجتماعية الأقل حظًا: الفقراء، المهمشون، الأقليات. في تونس، هذا واضح إلى حد بعيد؛ فغالبيّة المساجين من فئات فقيرة ومناطق داخلية محرومة، وقع عليهم القانون بصرامة بينما قد يفلت أصحاب النفوذ في كثير من الأحيان من العقاب أو يحظون بأوضاع مريحة نسبيًا، حتى لو سجنوا. وبالتالي، يمكن القول إن النظام العقابي الحالي يعيد إنتاج اللامساواة الاجتماعية بدل أن يعالج مسببات الجريمة. حين يُسجن شاب لأنه سرق طعامًا لعائلته الجائعة، أو يُحبس آخر لأنه دخّن سيجارة قنب، بينما أصحاب الجرائم المالية الكبرى ربما لا تطالهم يد العدالة إلا نادرًا، فإن الشرعية الأخلاقية للعقاب تهتز. في الأدبيات الفلسفية، يتحدث البعض عن “ظلم الدولة في استعمالها لسلطة العقاب” عندما يصبح القانون أداة بيد الأقوياء ضد الضعفاء. وقد رأينا جذور ذلك في الفترة الاستعمارية، لكنه يستمر بأشكال جديدة اليوم[60].
جانب آخر في النقد الفلسفي يتعلق بمفهوم “الكرامة الإنسانية”. إن أي نظام عقابي يفقد مبرره الأخلاقي إن هو انتهك الكرامة بشكل سافر. الدستور التونسي نفسه نص في الفصل 36 أن لكلّ سجين الحقّ في معاملة إنسانيّة تحفظ كرامته. وتراعي الدّولة في تنفيذ العقوبات السّالبة للحرّية مصلحة الأسرة، وتعمل على إعادة تأهيل السّجين وإدماجه في المجتمع.. لكن أوضاع السجون المهينة حاليًا تمثل انتهاكًا للكرامة. لذا يطرح السؤال: هل العقوبة السجنية بصيغتها الحالية إنسانية أم أنها “تنزع إنسانية” الفرد؟ عندما يوضع العشرات في غرفة ضيقة بلا تهوية، وعندما يحرم السجين من الرعاية الطبية أو من التواصل مع ذويه لفترات طويلة، وعندما يهان من بعض الحراس أو يُضرب، فإن المجتمع من خلال نظامه العقابي يصبح شريكًا في العنف وليس فقط منفذًا للعدالة. هنا يتحول العقاب إلى “عقاب جماعي” للمجتمع بأسره لأنه يقوّض قيمه الأخلاقية.
باختصار، من منظور فلسفي-أخلاقي: المنظومة العقابية التونسية الحالية مهترئة وغير فعّالة وغير عادلة بما يكفي. هي بحاجة إلى نفس جديد يرتكز على فلسفة إصلاحية وإنسانية ترى في القانون أداة لخلق مجتمع أفضل لا مجرد سوط مسلّط على الضعفاء[61]. هذا يقودنا أخيرًا إلى التساؤل عن كيفية الإصلاح، ما هي السبل الكفيلة بتحقيق نقلة نوعية نحو عدالة جزائية رحيمة وفعالة في آن معًا؟
ما بعد التشخيص: توصيات ومقاربات جديدة
في ضوء ما تقدم، بات من الواضح أن حل أزمة السجون في تونس لا يكون بمجرد حلول ترقيعية مؤقتة (كالعفو المناسباتي أو بناء سجن هنا أو هناك)، بل يتطلب إصلاحًا هيكليًا شموليًا يشمل القانون والإجراءات والثقافة المؤسسية. فيما يلي حزمة من التوصيات والمقاربات التي يمكن أن تشكل خريطة طريق لمعالجة المشكلة من جذورها ويبدأ ذلك بمراجعة شاملة للقانون الجزائي، أي لا بد من إعادة كتابة مجلة الجزاء نفسها أو تحديثها جذريًا بعد أكثر من قرن على صدورها. ينبغي تشكيل لجنة وطنية من قضاة ومحامين وجامعيين وخبراء دوليين لمراجعة جميع الفصول. الهدف هو تحيين التجريم والعقاب ليتناسب مع قيم العصر واحتياجات المجتمع. يشمل ذلك إلغاء أو تعديل الفصول ذات الطابع الاستعماري أو التمييزي مثل الفصل 230 الذي يجرّم المثلية، والفصول ذات العبارات الفضفاضة كالإخلال بالآداب، وكذلك خفض العقوبات السجنية للجنح الصغيرة وإبدالها بعقوبات ماليّة أو خدمات مجتمعية. كما ينبغي تكريس مبدأ التناسب بحيث لا تكون هناك عقوبات مبالغ فيها مقارنة بخطورة الفعل. هذه المراجعة يجب أن تستفيد من تجارب مقارنة لتجنب الثغرات ولضمان مراعاة المعايير الدولية[62].
وجب كذلك إصلاح إجراءات التقاضي والحد من الإيقاف التحفظي، حيث ينبغي الإسراع في المصادقة على مشروع مجلة الإجراءات الجزائية الجديدة (إن كانت لا تزال مطروحة) والتي قيل إنها تتضمن ضمانات أقوى للموقوفين وقيودًا على الحبس الاحتياطي. في الأثناء، يمكن لوزارة العدل أن تصدر منشورًا للقضاة أو يتخذ مجلس القضاء الأعلى قرارًا بتذكير بوجوب عدم اللجوء للإيقاف إلا للضرورة القصوى. إجرائيًا، يجب تحديد سقف زمني أقصى للحبس الاحتياطي مثلاً 3 أشهر للجنح و6 أشهر للجنايات مع إمكانية تمديد وحيد لنفس المدة كحد أقصى. أيضًا تفعيل بدائل خلال المحاكمة مثل إطلاق سراح بكفالة مالية، أو وضع المتهم تحت المراقبة القضائية، أو الإقامة الجبرية في منزله مع سوار إلكتروني عند الإمكان. هذه الإجراءات تُبقي المتهم متاحًا للمحكمة بدون أن يملأ السجون. ويجب أيضًا رقمنة وتسريع إجراءات التقاضي لتقليل التأجيلات المتكررة؛ مثلاً اعتماد جلسات عن بُعد لبعض الموقوفين لتفادي نقلهم وتأجيل القضايا إجرائيًا. في هذا الإطار من المهم إطلاق برامج متكاملة لإعادة الإدماج، حيث يجب أن تتحول السجون التونسية من مجرد أماكن احتجاز إلى مراكز إصلاح وتأهيل حقيقية. وخاصة تحسين فوري لظروف الاحتجاز. هذه الخطوات تعكس احترام الدولة لالتزاماتها الحقوقية العاجلة وتجعل السجون أكثر إنسانية[63].
في نفس هذا السياق، إصلاح هيكلي لإدارة السجون أصبح أمرا لا يحتمل التأخير، ربما حان الوقت للنظر في جعل إدارة السجون والإصلاح هيئة مدنية مستقلة نسبيًا عن وزارة الداخلية أو العدل، بحيث تدار بعقلية إصلاحية لا أمنية بحتة. بعض الدول تتبع وزارة الشؤون الاجتماعية في جانب إعادة التأهيل بالتنسيق مع وزارة العدل. أيضاً تعزيز دور قاضي تطبيق العقوبات ليتابع ظروف السجون وينظر في طلبات الإفراج الشرطي ويضمن حسن تنفيذ البرامج التأهيلية. وتحتاج هيئة الوقاية من التعذيب إلى دعم صلاحياتها بحيث تصبح تقاريرها ملزمة للجهات الرسمية وتأخذ بتوصياتها كخفض الاكتظاظ أو محاسبة المخالفين.
من أهم عوامل انخفاض معدلات الجريمة هي معالجة جذور الجريمة بالتوازي مع إصلاح العقاب، فالغاية الأخيرة لأي سياسة جنائية ناجحة هي تقليل حدوث الجريمة في المجتمع. لذا لابد أن تقترن الإصلاحات العقابية بجهود في مجالات التربية والتعليم والتشغيل والتنمية، خصوصًا في المناطق التي يأتي منها معظم المساجين. عندما يشعر الشباب أن أمامهم أفقًا في الحياة الكريم، تقل نزعتهم نحو الجنوح أو الوقوع فريسة للجريمة المنظمة. هذا بُعد استراتيجي طويل الأمد لكن لا غنى عنه، وإلا سنظل ندور في حلقة “عقاب الجريمة بعد وقوعها” بدل منعها قبل وقوعها.
في الأخير، لا بد أن ندرك أن كرامة المجتمع تُقاس بمدى كرامة أبنائه خلف القضبان. فالسجين وإن كان مرتكب جرم، يبقى إنسانًا ومواطنًا له حقوق أساسية. وعندما يصل عدد كبير من الناس إلى السجون، فهذا مؤشر على عطب ما في الآليات الاجتماعية قبل أن يكونوا كلهم أشرارًا بطبعهم. إصلاح السجون ليس فقط تحسينًا لظروف فئة معزولة، بل هو استثمار في أمن المجتمع وتنميته.
خاتمة
تواجه تونس اليوم اختبارًا حقيقيًا في مدى قدرتها على طي صفحة الماضي العقابي الثقيل والإقلاع نحو مستقبل أكثر عدلاً وإنسانية في منظومة العدالة الجنائية. لقد حاول هذا المقال أن يبين أن أزمة الاكتظاظ السجني ليست معطى مفاجئًا أو معزولًا، بل هي نتاج تراكم تاريخي وتشريعي بدأ منذ قانون 1913 الذي سخّر العقوبة لأغراض سياسية[64]، واستمر عبر دولة الاستقلال التي أبقت المنوال العقابي دون إصلاح جوهري. ومع تغيّر الظروف وتصاعد التحديات، انفجرت الأزمة على شكل سجون تغص بضعفي طاقتها، وآلاف الموقوفين في جرائم بسيطة أو قيد الانتظار، ووفيات في غياهب السجون، ونظام عقابي يجهد بلا طائل في دوامة تعيد إنتاج الجريمة والتهميش.
لكن في المقابل، الإصلاح ممكن، فالنقاش حول إصلاح المجلة الجزائية ومجلة الإجراءات بدأ يتبلور بعد الثورة، وإن تعثر؛ والمجتمع المدني أصبح أكثر جرأة في كشف الانتهاكات والمطالبة بالتغيير؛ والتجارب الدولية ناجحة هنا وهناك تعطينا أمثلة لما يمكن فعله لتجنب الأسوأ. إن التغيير الممكن يمر عبر الاعتراف أولًا بوجود المشكلة وبجذورها، ثم حشد الجهود المشتركة، تشريعيًا وتنفيذيًا وقضائيًا ومجتمعيًا، للشروع في الحل. قد لا تظهر النتائج بين ليلة وضحاها، لكن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة: خطوة تعديل قانون جائر، خطوة استحداث بديل للعقاب، خطوة بناء مركز تأهيل، خطوة عفو مدروس عن مستحقيه، إلخ. ومع كل خطوة ستتحسن المؤشرات تدريجيًا: سيقل عدد الداخلين للسجون، سيخرج البعض أكثر إصلاحًا، ستوفر الدولة أموالًا تصرفها اليوم على حشود المساجين، وسيشعر المواطن بالأمان الحقيقي النابع من معالجة أسباب الجريمة لا من انتفاخ جيوب السجون[65].
لقد آن الأوان لتونس أن تتصالح مع أفضل ما في تراثها الحقوقي، من تسامح وإنسانية، وأن تطبّق مبادئ دستورها والتزاماتها الدولية في واقع الحياة السجنية والقضائية. فحقوق الإنسان لا تتجزأ؛ وكرامة السجين من كرامة المجتمع ككل. وما السجن إلا مرآة تعكس صورة الدولة في مرآة العدالة: فإن كانت دولة قانون وعدل حقًا، ظهرت سجونها نظيفة محترمة، وإن تسرب إليها الاستبداد والفساد، بدت سجونها قاتمة مهينة. وتونس التي افتخرت دائمًا بأنها رائدة الإصلاح القانوني في المنطقة منذ عهد أحمد باي وخير الدين وصولًا إلى مجلة الأحوال الشخصية، مدعوة اليوم إلى أن تثبت ذلك مجددًا عبر ثورة إصلاحية هادئة في منظومة العقاب، تنقلها من عتبات القرن العشرين إلى رحاب القرن الحادي والعشرين[66].
[1] United Nations — “Nelson Mandela Rules”. United Nations Standard Minimum Rules for the Treatment of Prisoners (A/RES/70/175).
[2] World Prison Brief (Tunisia – country profile). Prison population total: 33,000 (May 2025, source: INPT); Official capacity: 17,000; Occupancy level: 194.1%. Institute for Criminal Policy Research, Birkbeck, University of London.
[3] inkyfada. Face à la surpopulation carcérale, la justice mise (tard) sur les peines alternatives.
[4] La Presse (تونس). Surpopulation carcérale en Tunisie : un rapport alerte sur des taux dépassant les 200%
[5] Reuters. Tunisians protest … call country an “open-air prison”.
[6] Décret du 9 juillet 1913 portant promulgation du Code pénal tunisien. Base « Législation & Sécurité – Tunisie » (texte consolidé, rappels des réorganisations ultérieures). Consulté le 8 sept. 2025.
[7] OpenEdition – L’Année du Maghreb. Dossier « La justice politique en Tunisie » : références et analyses sur l’usage du pénal comme instrument de contrôle politique sous le Protectorat (1881-1956). Consulté le 8 sept. 2025.
[8] Avocats Sans Frontières (Policy brief, 2019). Lutter contre la surpopulation carcérale en Tunisie (retards procéduraux, usage extensif de la détention préventive, faiblesse des peines alternatives). Consulté le 8 sept. 2025.
[9] Nations Unies – “Nelson Mandela Rules”. United Nations Standard Minimum Rules for the Treatment of Prisoners (A/RES/70/175, 2015).
[10] Comparaison régionale et internationale. – World Prison Brief – Maroc (31 déc. 2023) : population carcérale et taux par 100 000 (repères de comparaison maghrébins). prisonstudies.org – UNODC – Handbook on Strategies to Reduce Overcrowding in Prisons (2013) : cadre de référence pour les mesures non privatives de liberté (Règles de Tokyo, etc.).
[11] OpenEdition Books, Les libertés publiques à l’épreuve du Protectorat (chapitres sur la police des écrits, les décrets coercitifs et la logique de « sécurité/ordre » sous le Protectorat) — contexte historique montrant l’usage du pénal comme instrument de contrôle politique et social.
[12] Décret beylical du 9 juillet 1913 portant promulgation du Code pénal tunisien. Texte et historique (entrée en vigueur au 1er janv. 1914 ; rappels des réorganisations ultérieures). Base « Législation & Sécurité – Tunisie ». Consulté le 9 sept. 2025.
[13] Khémais Arfaoui, « La législation sur le délit politique en Tunisie pendant la période coloniale (1881-1926) », Revue d’histoire maghrébine, n° 106, 2002 (source doctrinale sur la construction d’un pénal colonial plus répressif et de contrôle politique).
[14] Hafidha Chekir, « La justice politique en Tunisie », L’Année du Maghreb, OpenEdition, §10–12 : réception en Tunisie d’un droit pénal transposé et durci pour les crimes contre la sûreté de l’État.
[15] Ibid,: liste détaillée des infractions visées en 1926 (provocation à la haine, au mépris ou à la déconsidération du souverain, du gouvernement et de l’administration du Protectorat, incitation au mécontentement, délits de presse, réunions, associations, incitation à la haine des races). Confirmation du contenu répressif du décret-presse de 1926 (introduction du « délit de murmure » et « déconsidération du souverain ».
[16] Leaders (Tunisie), « La justice tunisienne avant 1956 », 22 déc. 2021 : notice historique sur le tribunal dit de la Driba (siège, composition, rôle), permettant de préciser qu’il s’agissait d’une juridiction mixte dans le dispositif judiciaire de l’époque. Consulté le 9 sept. 2025.
[17] H. Chekir, « La justice politique en Tunisie », L’Année du Maghreb, III | 2007 (mise en ligne 1er nov. 2010) : analyse de la fonction répressive du pénal sous le Protectorat (logique de sûreté, exemplarité du châtiment).
[18] Cameroun », Genèses 2023/4 : montre comment l’appareil pénal colonial se durcit par rapport à la métropole (extension des incriminations et des peines pour protéger la domination coloniale) — tendance structurelle valable dans l’empire français.
[19] Décret beylical du 9 juillet 1913 portant promulgation du Code pénal tunisien (entrée en vigueur 1er janv. 1914).
[20] Michel Foucault, Surveiller et punir. Naissance de la prison (1975).
[21] N. Auzary-Schmaltz (dir.), La justice française et le droit pendant le protectorat en Tunisie (IRMC/OpenEdition, 2007).
[22] Human Dignity Trust, Tunisia – Country Profile (تحديث أخير؛ عرض النزاعات القضائية حول الفصل 230) ، مع دراستين توثيقيتين تُبرز خلفية إدراجه سنة 1913 (اختلاف الصياغة العربية/الفرنسية).
[23] Maaike Voorhoeve, « The Tunisian Law on Violence against Women », Études africaines, 2021.
[24] Code pénal tunisien, art. 227 (versions antérieures) : la répression du viol pouvait aller jusqu’à la réclusion à perpétuité voire la peine de mort dans certains cas (ex. victime très jeune) ; v. compilation officielle (ICNL) et rappel analytique (L’Année du Maghreb).
[25] Hafidha Chekir, « La justice politique en Tunisie », L’Année du Maghreb (OpenEdition) : continuité d’un arsenal pénal hérité (ordre public, presse, associations) et usage de la justice pénale contre les opposants sous Bourguiba puis Ben Ali (affaires d’“atteinte à la sûreté de l’État”, “association non reconnue”, “fausses nouvelles”, etc.).
[26] Procès Ben Youssef (1958): la Haute Cour prononce des condamnations à mort,dont Salah Ben Youssef par contumace (déc. 1958) ; grâce partielle accordée quelques jours plus tard.
[27] Loi n° 59-154 du 7 nov. 1959 relative aux associations : régime restrictif ayant servi de fondement à de nombreuses poursuites (appartenance à une association non reconnue, etc.), jusqu’à son abrogation en 2011.
[28] Human Rights Watch, « Tunisia: Widespread Abuses Under Drug Law » (2 fév. 2016) : laLoi n° 92-52imposeau minimum 1 an de prisonpour l’usage/possession, y compris pour un seul joint ; absence d’alternatives à l’incarcération dans le régime initial.
[29] Human Rights Watch, rapport PDF « All This for a Joint: Tunisia’s Repressive Drug Law and a Roadmap for Its Reform » (févr. 2016) : 7 451 détenus pour infractions à la drogue fin 2015, dont env. 5 200 pour le cannabis ; les détenus “drogues” = 28 % de la population carcérale. Confirmation grand public : Le Monde, « Les fumeurs de “zatla” surpeuplent les prisons tunisiennes » (19 févr. 2016).
[30] HRW 2016, op. cit. : méthodologie basée sur 47 entretiens incluant artistes, blogueurs, étudiants, et de jeunes hommes de quartiers populaires ; profils majoritairement jeunes.
[31] d’appréciation permettant d’atténuer la peine (not. pour premiers usages) ; analyses : HRW, « Tunisia: Amend Draft Drug Law » (19 janv. 2017) ; ASF, Les échecs de la réforme de la loi 52 (policy brief, 2021) ; Nawaat, « Amendement de la Loi 52 : un bilan controversé » (10 févr. 2021).
[32] Michel Foucault, Surveiller et punir. Naissance de la prison (Paris, Gallimard, 1975) ; pour un rappel de la thèse foucaldienne sur la prison comme dispositif disciplinaire, voir Hypothèses – “Penser la prison depuis l’Amérique latine” (réf. bibliogr. à Foucault et au « tournant punitif »).
[33] Avocats Sans Frontières (ASF), Lutter contre la surpopulation carcérale en Tunisie (Policy brief, 2019) : faible mise en œuvre des peines alternatives et déficits structurels de réinsertion ; voir aussi UNICEF Tunisie, Étude sur les mesures alternatives à la privation de liberté (2025), qui confirme la faiblesse des dispositifs alternatifs et de probation.
[34] Amnesty International — Annual Report: Tunisia 2010/2011 : signalements répétés de torture et mauvais traitements en détention sous Ben Ali ; et Amnesty 2016, Tunisia: Abuses continue… (période post-2011, persistance d’allégations de torture et décès en détention)
[35] Loi n° 2001-52 du 14 mai 2001 relative à l’organisation des prisons (texte consolidé/notice) : finalités affichées (intégrité, préparation à la vie libre, réinsertion).
[36] World Prison Brief – Tunisie (mai 2025) : capacité officielle ~17 000 ; taux d’occupation ~194 % ; part très élevée de prévenus. Indication de la persistance de l’overcrowding malgré les annonces de réforme.
[37] World Prison Brief (Tunisia – Country profile), Institute for Crime & Justice Policy Research, King’s College London, données consultées le 11 septembre 2025 : taux d’incarcération 267/100 000, population carcérale totale 33 000 (mai 2025), capacité officielle et autres indicateurs.
[38] Amnesty International, Tunisia: The abuse of pre-trial detention to silence political opponents (22 septembre 2023) : rapport sur l’usage abusif de la détention préventive contraire aux standards internationaux.
[39] Avocats Sans Frontières (Policy Brief), Lutter contre la surpopulation carcérale en Tunisie (2019) : constats d’ajournements répétés des audiences et lenteur procédurale contribuant à l’allongement des détentions.
[40] Avocats Sans Frontières (ASF), La surpopulation carcérale en Tunisie : l’exigence d’une politique pénale durable, Policy Brief, 2019 (données AGBDR 2018 : « 54,53 % des condamnés purgent des peines ≤ 1 an »). PDF.
[41] Arabesque (18 mai 2025), article sur la hausse rapide du nombre de détenus et les alertes des instances nationales, en appui du besoin de recourir aux alternatives.
[42] Amnesty International, Tunisie : recours à des accusations d’« entrave » pour punir des rassemblements pacifiques (rapport, 5 juin 2025) — usages répressifs contre des manifestant·e·s pacifiques (2020-2025).
[43] Code pénal tunisien, art. 226 (outrage public à la pudeur) — peine d’emprisonnement prévue. Version consolidée / PDF.
[44] Loi n° 99-89 du 2 août 1999 modifiant le Code pénal (introduction des art. 15 bis et s. sur le travail d’intérêt général). Voir aussi une consolidation du Code pénal (art. 15 bis) précisant que la peine d’emprisonnement jusqu’à un an peut être remplacée par un TIG (jusqu’à 600 h). Portails « Législation & Sécurité » et Droit-Afrique (version consolidée).
[45] Avocats Sans Frontières (ASF), Policy brief – Lutter contre la surpopulation carcérale en Tunisie, 22 nov. 2019, p. 2 : « …absence de prononcé de TIG entre 1999 et 2013… ».
[46] World Prison Brief (Tunisia), Institute for Crime & Justice Policy Research, mise à jour mai 2025 : population carcérale 33 000 ; prévenus 54,9 % (2021) ; capacité officielle 17 000 ; taux d’occupation 194,1 %.
[47] Amnesty International, Tunisia 2023 – Annual Report/updates (sept. 2023 et suiv.) : recours étendu à la détention provisoire et conditions matérielles dégradées.
[48] Reuters, « Tunisia detains opposition figure Jawhar Ben Mbarek », 16 avr. 2025 ; et Human Rights Watch, « Tunisie : nombreuses personnes emprisonnées pour des dettes », 10 juin 2024 (contexte de durcissement et d’arrestations visant opposants et journalistes).
[49] Nations Unies, United Nations Standard Minimum Rules for the Tre atment of Prisoners (Nelson Mandela Rules) (2015) : normes sur espace, hygiène, ventilation, soins.
[50] Texte intégral des Règles Nelson Mandela (A/RES/70/175) précisant notamment l’hébergement (règles 12–14) et la santé (règles 24–27).
[51] World Prison Brief – Tunisie : effectifs, taux d’occupation et structure de la population pénale.
[52] Amnesty International (09/2023) – abus des dispositions de la détention provisoire à des fins de répression.
[53] Conseil de l’Europe, rapport SPACE II 2023/2024 : les sanctions et mesures appliquées dans la communauté (probation, etc.) sont largement utilisées et la population sous probation dépasse nettement la population carcérale dans de nombreux États.
[54] Maroc – effectifs & sur-occupation. World Prison Brief (WPB), « Morocco » : population carcérale 102 653 (31.12.2023) ; taux d’occupation 158,8 % (31.12.2023). Les chiffres 2022 étaient d’environ 97 204 détenus. (International Centre for Prison Studies / WPB).
[55] Algérie – données structurelles & grâces. World Prison Brief, « Algeria » : indications générales sur capacité et sur-occupation (occ. 119,1 % en 2021, dernière donnée consolidée). Voir aussi Reuters sur les grâces présidentielles visant des détenus, 2021–2024.
[56] Amérique latine – niveaux d’incarcération. World Prison Brief, « Brazil » : 416 détenus/100 000 hab. (12.2024). World Prison Brief, « Colombia » : 200/100 000 (31.8.2025). Ces sources confirment l’énoncé « > 300 au Brésil » et « > 200 en Colombie ».
[57] Comparaisons globales – méthodologie. World Prison Population List, 14e éd. (2024) : panorama et méthode de calcul des taux d’incarcération par pays (source de référence utilisée par WPB/Prison Policy Initiative).
[58] Zachary Hoskins, « Legal Punishment », Stanford Encyclopedia of Philosophy, 2001 (dernière mise à jour d’archive 2016).
[59] Michel Foucault, Surveiller et punir. Naissance de la prison, Gallimard, 1975 (page éditeur). Analyse fondatrice du passage des supplices à la discipline et du rôle de la prison comme dispositif de normalisation.
[60] Loïc Wacquant, Punishing the Poor: The Neoliberal Government of Social Insecurity, Duke University Press, 2009 (thèse « punir les pauvres » : criminalisation de la pauvreté et sur-incarcération des classes populaires)
[61] R. Debes, « Dignity », Stanford Encyclopedia of Philosophy, 2023 (sur Kant : traiter la personne toujours comme une fin, Groundwork 4:429) ; voir aussi A. Walen, « Retributive Justice », SEP, 2014 (mise en perspective du rétributivisme).
[62] MALDUSA, « Article 230 – Tunisie », dossier thématique (consulté 2025), montrant l’origine coloniale (1913) du texte et ses effets actuels. Voir aussi : IRIN / The New Humanitarian, « Tunisia’s colonial-era Article 230… », 2016.
[63] Conseil de l’Europe, Recommandation CM/Rec(2014)4 sur la surveillance électronique (19 févr. 2014) – cadre normatif pour l’assignation à domicile et le bracelet électronique comme alternatives à l’incarcération.
[64] Hafidha Chékir, « La justice politique en Tunisie », L’Année du Maghreb, 2007.
[65] World Prison Brief – Tunisie (fiche pays, mise à jour mai 2025) : population carcérale 33 000, taux 267/100 000, capacité officielle 17 000, taux d’occupation 194,1 %, part des prévenus 54,9 % (2021).
[66] Nations Unies / UNODC, United Nations Standard Minimum Rules for the Treatment of Prisoners (the Nelson Mandela Rules), A/RES/70/175 (2015).
iThere are no comments
Add yours