،بقلم عماد محنان

الخلع الوظيفي والعمل القولي : Dégageالخلع إنباء عن حالة تجدّد اجتماعي. إنّه تجسيم للقطيعة وللخلاص من مشروع مجتمعي أثبت عدم تماشيه مع تطلّع المجتمع في مرحلة تاريخيّة معيّنة. تشتغل آليّة الخلع إذن من منطلقات وظيفيّة مدنيّة وسياسيّة ونفسيّة. من النّاحية الوظيفيّة المدنيّة يعتبر المسؤول موضوع الخلع عائقا أمام التّجدّد المجتمعي بوصفه أداة من أدوات المشروع المجتمعي القديم. فمنظومة سلوكه منمّطة وفق برنامج أخلاقي إداري تواصلي لم يعد مقبولا اجتماعيّا. ومن النّاحية السّياسيّة يُعتبر عونا على تنفيذ أجندة سياسيّة محكوم عليها اجتماعيّا بالفشل ومدانة ومطلوب تجاوزها. ومن النّاحية النّفسيّة يعدّ المسؤول القديم وخصوصا الموصوف بشبهة الانخراط في لعبة المشروع المجتمعي الذي هو في طور الإبادة مدانا ضمنيّا بتهمة خرق العقد الاجتماعي الطّبيعي والتّآمر على المجتمع من طريق الظّلم الاجتماعي وخرق القوانين الأخلاقيّة أو الدّينيّة أو الوضعيّة أو خرقها جميعا وممارسة الفساد بأشكاله المتعدّدة وحماية ممارسيه. واستمراره في موقعة يشعر الأفراد والجماعات المنخرطة في مهمّة بناء المشروع المجتمعي الوليد بخطورة فشل هذه المهمّة في واقع استمرار أدوات النّظام القديم وأعوانه في مواقعهم. يعبّر الخلع إذن عن لحظة وعي تاريخي فريدة بأنّ المجتمع يمتلك المؤسّسات. وحلول الأفراد والجماعات في اتّخاذ قرار الخلع الذي يوازي في نتيجته قرار العزل الإداري في محلّ المؤسّسات هو تعبير عن عدم اعتراف المجتمع جزئيّا بمؤسّسات الدّولة وخصوصا الإداريّة والقضائيّة وحكمٌ على وظائفها التّأديبيّة والجزائيّة بالعطالة. يحلّ العامل البسيط والعاطل عن العمل والمهمّش والمثقّف والموظّف محلّ السّلطات الثّلاث. فهم يبنون تصوّرا تشريعيّا ضمنيّا بمقتضاه يحدّدون مواصفات المسؤول الذي يجب خلعه وطبيعة السّلوكيّات التي توجب الخلع. ويدينون ويحكمون في مقام القضاء وينفّذون الخلع في مقام سلطة التّنفيذ. والعجيب أنّ هذه السّلط الثّلاث تتكدّس في قبضة واحدة وفي لحظة واحدة تتّسّم بالقوّة والكثافة. فعمليّة الخلع هي تلفّظ بفعل لا غير : “Dégage”. 

يمكن أن نتناول هذه الفعل من جهة تصنيفه تداوليّا ومن جهة البنية التّركيبيّة التي يندرج ضمنها ومن جهة لغته الأصل. فمن النّاحية التّداوليّة يُعتبر التّلفّظ بهذا الفعل إنجازا للفعل ذاته فهو من الأعمال اللّغويّة actes de langage التي يحقّق مجرّد التّلفّظ بها عملا ما في الواقع. وهو ما عبّر عنه أوستين بـ: “إذا قلت فقد فعلت” Quand dire c’est faire  يُتلفّظ هذا الفعل في مقام جماعي ويبدو أنّ بنيته الصّوتيّة القائمة على حروف انفجاريّة مجهورة تقوّي شحنته الدّلاليّة الزّجريّة بما يجعل منه قولا نافذا ذا فاعليّة قصوى تحوّله من قول إلى فعل. يمكن أن يوجّه هذا الفعل في صيغة الأمر إلى فرد يُعتبر في رأي المتلفّظين/المنفّذين “رأسا” أو إلى مجموعة في مؤسّسة واحدة تُعتبر “شبكة” أو “بؤرة فساد”. ورغم أنّ هذا الفعل متعدّ transitif فإنّه يرد دون مفعوله، فهو إذن جملة محذوفة المفعول. وهذا الحذف يزيد من درجة الكثافة فيه ويحوّله إلى قالب نمطي ينطبق على جميع حالات الخلع الوظيفي بمختلف مقاماته. يُصبح الفعل بفضل تجريد البنية التّركيبيّة المنجزة من المفعول به عاكسا لتجربة اجتماعيّة تواضعيّة ارتقت إلى مصافّ الممارسة البنائيّة      أو الفعل المجتمعي. لأجل ذلك وعت الجماعات المنفّذة لفعل الخلع طبيعة هذه الممارسة ونظرت إليها باعتبارها فعلا جماعيّا وليست قولا..فقد تطوّر الوعي بهذه الظّاهرة في البداية من مستوى القول “قالوله ديغاج” إلى مستوى الفعل “عملوله ديغاج”. أمّا من جهة اللّغة الأصل فهو فعل من اللّغة الفرنسيّة Dégager .

ويوحي بأحد السّياقات الهامّة التي يُستعمل فيها مثل Dégager la voie publique.. وفعلا فإنّ المجتمع يمارس حقّه في تطهير المؤسٍّسات التي ترجع ملكيّتها إليه. ولكن لماذا وقع التّواضع على استعمال هذا الفعل الفرنسي؟ من بين التّفسيرات التي يمكن تقديمها في هذا الصّدد أنّ هذا الفعل يناسب السّياق الثّوري إذ يستعمل “في معنى “دحر الأعداء عن مكان يحتلّونه

Terme militaire. Dégager une province, en chasser les ennemis, les bandes qui l’occupaient.

ولعلّها عبارة راسبة في الذّاكرة الاجتماعيّة من زمن الاستعمار.

إذا عدنا إلى قراءة  عمليّة الخلع نفسها في السّياق المجتمعي الحالي فإنّنا نكرّر ملاحظتنا التي سبقت وهي أنّ المجتمع يستعيد السّلطات الثّلاث في يده حين يمارس هذه العمليّة. وهي ممارسة ذات درجة عليا من النّجاعة بحكم طبيعة النّظام البائد المتّسمة بالرّبط العضوي والمداخلة بين وظائف مؤسّسات المجتمع المدني والمؤسّسات السّياسيّة وصهرها جميعا في دائرة خدمته وحمايته. لأجل ذلك يكون الخلع الوظيفي ضربا لشبكة العلاقات المتداخلة. فكلّ مسؤول إداري في ظلّ النّظام القديم هو ضرورة مسؤول سياسي يشتغل في إطار تنسيقي سياسي وأمني شامل مع المؤسّسة الحزبيّة وهياكلها ومع المؤسّسة الأمنيّة المدنيّة. كذلك عمليّة الخلع تكرّس سلطة الشّعب وتعطّل أداء المؤسّسات القائمة وتعزلها عن دائرة القرار وتحدّ من إسهامها في بناء المشروع المجتمعي الجديد بوصفها مؤسّسات نشأت ونمت في ظلّ نظامٍ حُكِم عليه بالفشل وتمّ اطّراحه، وذلك دون اللّجوء إلى حلّ هذه المؤسّسات وتجاوزها نهائيّا إذ في ذلك إيذان بالدّخول في الفوضى. ليست عمليّة الخلع الوظيفيّ فعلا عفويّا أو فئويّا إذ هي ممارسة مسبوقة بتخطيط وتصميم وتنفيذ محكم التّدبير لا ينفّذه فرد واحد وإنّما مجموعة أفراد يوحّد بينها أربعة عناصر: الأوّل العلم بدرجات متقاربة بجملة مواصفات وممارسات المسؤول موضوع الخلع والتّوافق على كفاية هذه المواصفات لخلعه. والثّاني التّوافق على موعد محدّد للتّوجّه إلى المسؤول في مقرّ العمل وطرده منه بواسطة الهتافات. والثّالث الالتزام بمجانبة العنف المادّي وإنجاز المهمّة في كنف السّلميّة. والرّابع عدم التّعدّي إلى تنصيب البديل وذلك لعلّتيْن: أولاهما الإبقاء على الاعتراف بمؤسّسات الدّولة وبدورها في التّوظيف مع الحرص على توخّي احترام المعايير الأخلاقيّة الجديدة التي فرضها الواقع الثّوري الجديد. وثانيتهما قطع الطّريق على كلّ الطّامعين في المناصب حتّى لا يتحوّل الخلع إلى ممارسة منحرفة الهدف منها عزل فلان من أجل تنصيب علان. هي إذن ممارسة تخصّصيّة يضطلع فيها كلّ أبناء قطاع مخصوص بتصفية قطاعهم وتطهيره.

ورغم أنّ ممارسة الخلع الوظيفي في هذا الواقع الثّوريّ الجديد تتمتّع بالنّجاعة وتساهم هي نفسها في تأهيل المجتمع الوليد إلى ممارسة الرّقابة على أداء المؤسّسات والأفراد إلاّ أنّها لا تخلو من مزالق من شأنها إفراغ هذه الممارسة من غاياتها أو الحدّ من نتائجها. فالإبقاء على المؤسّسات ــــ ولا محيد عنه في الظّرف الرّاهن ــــ والالتزام بعزل الرّؤوس وخلعها أدّى إلى إعادة توزيع جغرافيّة للمسؤولين المخلوعين. وقد أمكن لهم في بعض الحالات إعادة التّموقع. وأدّى في حالات أخرى إلى تكرار عمليّات الخلع في المواقع الجديدة. وهو ما جعل العمليّة تدور في حلقة مفرغة خاصّة أنّ الإعلام تغاضى عن عمليّات الخلع تسهيلا لإعادة التّوزيع الجغرافي. والمنزلق الخطير هو أنّ الوعي الاجتماعي لم يتجاوز حدود حصر الفساد والتّهاون في الجانب السّلوكي والأخلاقي عند المسؤولين ولم يرقَ الوعي بدرجة ملموسة إلى أنّ الفساد تحوّل إلى سرطان اجتماعيّ وثقافة أو عقليّة اجتماعيّة تحدّد واقعيّة تفكير الفرد و”سلامة” نظرته إلى الحياة. فمقاييس النّفوذ والوجاهة والرّشوة واصطياد الفرص والكيديّة والمؤامرة سلوكيّات يصعب محوها من العقليّات وستظلّ قادرة على الإنتاج والتّفريخ ما لم تُرسم ملامح ثقافة مجتمعيّة بديلة تتوزّع فصولها بين مختلف المؤسّسات التّنويريّة كالإعلاميّة والثّقافيّة والدّينيّة والتّربويّة وفي صلب المؤسّسات الحكوميّة ومنظّمات المجتمع المدني من أحزاب وجمعيّات وغيرها. أمّا المنزلق الأخطر فهو أنّ ممارسة الخلع الوظيفي لا تعبّر إلاّ عن حكم أخلاقي على المسؤول موضوع الخلع ولا تتساءل عن الجانب الوظيفي فيه أي الكفاءة والتّخصّص الميداني. ولا تعبّر هذه الممارسة أيضا عن استعداد حقيقي للانتقال الدّيمقراطي الذي يجعل المسؤول يؤدّي وظائفه في كنف الاستقامة ولو لم يكن على خُلُق حسن، وذلك بفضل فاعليّة القضاء واستقلال الصّحافة وسهر المواطن نفسه على مراقبة سير المؤسّسات ومطالبته بحقوقه في إطار السّلوك الحضاري.

بقي أن تُدخل النّخبة المثقّفة والقيادات النّقابيّة لمستها على هذه الممارسة الثّوريّة البنّاءة من أجل وضع تصوّر تنظيمي أو حتّى تشريعي لها حتّى لا تحيد عن غاياتها وحتّى لا يقع استثمارها في مآرب تناقض أهدافها الثّوريّة النّبيلة.عماد محنان أستاذ جامعي من تونس