مقصلة المراقبة الإدارية و ضحاياها: الطاهر الحراثي

بقلم عبدالله الزواري

بسم الله الرحمان الرحيم

كشأن جميع الذين يغادرون السجن من الرهائن السياسيين من حركة النهضة و المتعاطفين معها، سواء بفعل انتهاء مدة العقوبة الصادرة في حقهم أو إثر ما يعرف بالعفو قطرة قطرة، وجد الطاهر الحراثي نفسه مجبرا صبيحة هذا اليوم، يوم الجمعة، على امتطاء سيارة السجن ليقاد إلى “منطقة الأمن الوطني” فهي أولى به من أطفاله و زوجته و أشد شوقا إليه منهم، و يعرف هذا ب”التسليم” و هو ترتيب جرى به العمل رغم عدم تنصيص فصول المراقبة الإدارية – على علاتها و نزعتها القمعية و اللاإنسانية- عليه…

غادر إذا الطاهر الحراثي ” فضاء التشفي و الانتقام” بالقيروان بعد أن قضى شهرين كاملين به جزاء له على صلة رحمه و زيارة أخته المقيمة في العاصمة و التي تعرضت إلى حادث مرور أواسط شهر سبتمبر الماضي…بلغ خبر الحادث الطاهر فأسرع إلى مهاتفة أخته، لكن صوتها الخافت و المتهدج لم يرحه و لم يطمئن باله، لكن مع ذلك لم يدفعه إلى المسارعة إلى الانتقال إلى العاصمة تعويلا منه على تفهم الإدارة و ” تعاملها الحضاري” و “احترامها لجملة من القيم منها صلة الرحم محدثا نفسه بنسيان ما رآه و ما سلط عليه و على إخوانه من تشف و انتقام و تدمير نفسي و بدني ممنهج طيلة اثني عشر سنة قضاها في غياهب سجون “العهد الجديد”…

انطلق صاحبنا سريعا إلى ” مركز الأمن الوطني” ب”سيدي عمر بوحجلة”، و هناك استقبله العون المكلف بالتعامل معه، أخبره الطاهر بما جد لأخته طالبا منه القيام بالإجراءات قصد زيارته لأخته و هي في أمس الحاجة إليه و إلى خدماته يعد حادث المرور… تظاهر العون بتفهم الأمر و وعد بالقيام بالواجب و دعاه إلى الاتصال به مجددا… و عاد الطاهر من الغد على أمل استجابة الإدارة لطلبه…ثم عاد…و عاد…و عاد…و عاد…. و عاد………و عاد و في كل عودة يطلب منه أن يعود من جديد.. و يمر أسبوع كامل دون أن يجد جديد و دون أن يقوم العون بالإبراق إلى رؤسائه ليحيطهم علما بطلب الطاهر… و استحضر الطاهر مئات الصور من حالات التسويف و الإهمال و “التعامل الحضاري” التي رآها في السجون الصغيرة في عرض البلاد و طولها..

و إن كان الطاهر في سجنه السابق يلجأ إلى الإضراب عن الطعام تعبيرا منه عن رفضه للتعامل المتخلف التي تسلكه الإدارة معه، فإنه في هذه المرة و بعد أن استعاد هامشا من هامش الحرية التي تبسط جناحيها على التونسيين قرر أن يضرب عرض الحائط بإجابة الإدارة عن طلبه، يدفعه إلى ذلك حالة أخته الحرجة و استخفاف أعوان الأمن المباشرين له بملفه و بطلبه… و يستقل الطاهر وسيلة نقل في اتجاه العاصمة، و كان ذلك يوم أحد موافق للسابع عشر من سبتمبر الماضي…

قضى الطاهر بضع أيام في العاصمة، اطمأن على صحة أخته و تدرجها نحو استعادة عافيتها، و قام بما يستوجبه وضعها….ثم قفل راجعا إلى مقر إقامته قبل أن يتجاوز المدة التي أعلم أعوان الأمن بقضائها بتونس….

أما مسؤولي الأمن فقد استشاطوا غضبا، أيسمحون له بتحدي هيبتهم بل هيبة الدولة و سلطانها…إنه لم ينتظر إجابتهم… و عليه أن ينتظر و ينتظر و ينتظر حتى يمنوا عليه بموافقتهم لزيارة أخته بعد ما أصابها في حادث المرور.. و حزموا أمرهم…..

عاد الطاهر يوم فاتح رمضان إلى محل إقامته و إقامة عائلته وقضى اليوم الأول من رمضان مع عائلته و تناول معهم إفطار ذلك اليوم بعد ما حرم من ذلك طيلة اثنتي عشر سنة، و استكثرت عليه السلطة السياسية ذلك…و لم يكن من مصلحة البلاد العليا أن يقضي الطاهر شهر رمضان مع أطفاله و زوجه، و لم يكفهم أنه قضى اثني عشر شهر صيام وراء القضبان بعيدا عن فلذات كبده… و لم تجد بطاقة الإيداع بالسجن صعوبة تذكر كي تنطلق في اتجاه ” سيدي أحمد”…و التنسيق في هذا المجال بين مختلف الجهات و الحق يقال، نموذجي و يصلح مثالا لمن يريد أن يرى بأم العين التداخل بين مختلف السلط و تشابكها و صدورها عن جهة واحدة لها الأمر و النهي دون أن يكون عليها معقب و لا مراجع…

و أفطر الطاهر في الغرفة السابعة، غرفة مرور يقضي بها المساجين القادمون بضع أيام قبل أن يحالوا إلى غرف أخرى أو إلى سجون أخرى…غرفة تمسح أربعين مترا (5مx8م) و بها خمس عشر سريرا مزدوجا، لكن أتعرفون كم فيها من سجين ؟؟؟ ستون سجينا، نعم ستون سجينا، وهو العدد الذي قضى معه الطاهر شهرين، أما الرقم القياسي فيبلغ 94 نزيلا و هو ما نقله بعض السجناء إليه… نظريا هذه الغرفة (7) هي خاصة بغير المدخنين… لكنها لا تصبح كذلك إلا في الفترات التي تستعد الإدارة فيها إلى استقبال مبعوثي الصليب الأحمر… فتدهن و تنظف و تعطر…

لم يكن بإمكان مدير السجن أن يوفر للطاهر فراشا فرديا و لا أغطية نظيفة و لا موضعا يؤدي فيها عباداته و لا “سيلونا”يقيم به هروبا من اكتظاظ قاتل و دخان يملأ الرئات نيكوتينا و قطران و ضجيجا لا ينتهي و…..

قضى الطاهر عيد الفطر حيث أرادوا له…و انتهى الشهران المحكوم بهما… و خرج من سجن” سيدي أحمد” ليجد نفسه من جديد و سيوف عديدة مشرعة عليه: سيف البطالة و سيف الحرمان من العلاج و فقدان التغطية الاجتماعية و لعل أشدها فتكا سيف المراقبة الإدارية، فهل هو آخر السيوف في غمد السلطة من أجل إبادة هؤلاء الذين عارضوا و لا يزالون يعارضون رؤاها و سياساتها و ليس لهم من قوة إلا أجسادهم المنهكة التي نخرتها الأمراض و إيمانهم بعدالة قضيتهم التي لن تموت و لا يمكن أبدا أن تموت…

و لعل من المفيد هنا أن أذكر أن الطاهر تعرض لعملية ابتزاز أخرى يوم إيقافه… عرضوا عليه محضرا أعد سلفا ليمضي عليه، يعترف فيه بأنه سافر إلى العاصمة دون استشارتهم، و أضاف العون أنه يمكنه أن يطلب العفو و لن بصيبه أذى… ضحك الطاهر من عرضهم و عقب: لم أفعل ذلك و أنا أقضي عقوبة اثنتي عشر سنة فهل تروني فاعل ذلك اليوم؟؟؟ وجم القوم و مضى الطاهر مرفوع الهامة إلى حيث يقيم أحرار البلد و سادته…

عبدالله الزواري

جرجيس: 25 نوفمبر 2006