في قضايا الرأي التي عرفتها تونس منذ 25 جويلية 2021 غالبا ما يتم اللجوء إلى المرسوم 54 سيء الذكر لتوجيه تهم أغلبها موجبة لعقوبات سجنية مشددة، مراد الزغيدي هو أحد ضحايا هذا المرسوم الذي حوكم بمقتضاه عشرات النشطاء والمحامين والصحفيين والسياسيين والمدونين وكل من عبر عن موقف ناقد أو معارض للسلطة القائمة من المواطنين الذين نقلت مواقفهم لصاحب مفاتيح القضاء والسجن، لسوء حظهم عبر وشايات من ”الزمن الجميل“. رغم الرفض العام لهذا المرسوم من قبل القوى المدنية والسياسية ورغم صدور قرارات قضائية تعقيبية تقضي بعدم قانونية محاكمة المواطنين وفقا لهذا المرسوم٫ إلا أن القضاء لا يزال يوظفه لقمع الأصوات المخالفة والناقدة للسلطة.

ضحية أخرى ضمن ضحايا المرسوم 54

يُحاكم مراد الزغيدي في قضيتين منفصلتين، الأولى بمقتضى المرسوم 54 أدين فيها بالسجن لمدة سنة، تنقسم إلى ستة أشهر من أجل تعمد استعمال شبكة وأنظمة معلومات واتصال لإنتاج وترويج ونشر وإرسال وإعداد أخبار وإشاعات كاذبة، وستة أشهر أخرى من أجل استعمال أنظمة معلومات وإشاعة أخبار تتضمن نسبة أمور غير حقيقية بهدف التشهير بالغير وتشويه سمعته والإضرار به ماديا ومعنويا. خفضت محكمة الاستئناف الحكم إلى ثمانية أشهر مع النفاذ، لكن رغم انقضاء مدة العقوبة السجنية يقبع مراد الزغيدي في السجن بسبب قضية ثانية ألحقت بملفه تتعلق بشبهة غسيل الأموال، شأنه في ذلك شأن زميله برهان بسيس.

15 ماي 2025 باب بنات تونس – وقفة مساندة للصحفي السجين مراد الزغيدي امام قصر العدالة بالعاصمة – صور نواة – ملاك بن دخيل

لم يكن مراد الزغيدي أول الموقوفين في قضايا رأي على معنى المرسوم 54 ولكن إيقافه كان صادما لأغلب المتابعين لعدة اعتبارات، أهمها أن مراد لم يكن من أولئك الصحفيين أو المحللين الصداميين في آراءهم أو تحاليلهم. لقد كان حريصا دائما على الموضوعية والاعتدال وعدم توجيه المستمع والمتفرج نحو رأي واحد، كان يقدم آراء تتسم بالتوازن وتقديم كل وجهات النظر سواء كانت مساندة للسلطة أو المعارضة، لكنه في الآن نفسه منحاز لحقوق الناس وللحريات العامة والفردية ويدافع عن العدالة، ولا يدخر جهدا في دفاعه عن سجناء الرأي وضحايا القمع والمحاكمات الجائرة، إلى أن وجد نفسه مسجونا لنفس السبب الذي سُجن لأجله عشرات التونسيين من ضحايا آلة القمع.


ثمانية أشهر سجنا لمراد الزغيدي بعد جلسة الاستئناف
– 30 جويلية 2024 –

قضت محكمة الاستئناف بالعاصمة، الثلاثاء 30 جويلية، بسجن الصحفي مراد الزغيدي 8 أشهر. حكم يؤكد تواصل نزيف محاكمة الصحفيين على خلفية آرائهم، على بعد أسابيع من موعد الانتخابات الرئاسية.


وفي إطار توظيف القضاء لقمع الأصوات الحرة، وجهت النيابة العمومية تهما أخرى إلى مراد الزغيدي تتمثل في غسيل الأموال على معنى قانون مكافحة الإرهاب، هذا التمشي الذي يقوم على إيقاف المعني بتهم معينة غالبا ما تكون وفق المرسوم 54 ثم تُضاف قضايا أخرى ذات صبغة إرهابية أصبحت سياسة دارجة في تونس منذ 25 جويلية 2021، رغم أن فريق الدفاع عن مراد الزغيدي يشدد على أن ملف القضية لا يحتوي على أركان تفيد بوقوع جريمة غسيل الأموال إلا أن مراد يقبع في السجن رغم انقضاء مدة العقوبة في القضية الأولى. رفض قاضي التحقيق الإفراج عنه في آخر جلسة استماع بتاريخ 15 ماي الماضي رغم تقديم طلب الإفراج المؤقت من قبل فريق الدفاع.

 قضية تكوين وفاق من أجل غسيل الأموال انتهى مسارها التحقيقي وخٌتمت الأبحاث فيها بتاريخ 28 جويلية 2025 لتحال على أنظار دائرة الاتهام التي من المقرر أن تعقد جلسة في الغرض يوم 20 أوت الجاري، وإلى حد الآن لم يتمكن فريق الدفاع من الاطلاع على التهم الموجهة لمراد الزغيدي وزميله برهان بسيس.

من الاساءة إلى رئيس الدولة إلى نشر أخبار زائفة

يقول الأستاذ فتحي الربيعي، المحامي وعضو فريق الدفاع عن مراد الزغيدي، إن مسار المحاكمة بدأ في 11 ماي 2024 بإعلام موجه من طرف رئيس الإدارة الفرعية للقضايا الإجرامية إلى النيابة العمومية جاء فيه ورود معلومات تفيد أن الإعلامي مراد الزغيدي يتعمد الاساءة لرئيس الدولة عبر تدويناته والتهكم على القرارات المتخذة من قبله. في نفس اليوم أذنت النيابة العمومية بفتح أبحاث وإحضار المضنون فيه وتفتيش منزله وحجز كل ما  من شأنه الافادة في بحثه، تم الاحتفاظ بالزغيدي فجرا رغم أن الوضع كان خارج حالات التلبس على خلفية تدوينات تعود لأكثر من ثلاث سنوات مضت، مما يعني سقوط الدعوى في شأنها.

لكن حالة الاستنكار والتنديد التي رافقت إيقاف الزغيدي وبسيس، والتي جاءت بعد أيام من اقتحام دار المحامي وإيقاف المحامية سنية الدهماني وتعنيف المحامي مهدي زقروبة وايقافه، دفعت بالنيابة إلى تغيير التعليمات بخصوص البحث وتحولت التهمة من تعمد الإساءة لرئيس الجمهورية إلى تهم تتعلق بتعمد استعمال شبكة وأنظمة معلومات واتصال لإنتاج وترويج ونشر وإرسال وإعداد أخبار وإشاعات كاذبة، إضافة إلى استعمال أنظمة معلومات وإشاعة أخبار تتضمن نسبة أمور غير حقيقية بهدف التشهير بالغير وتشويه سمعته والإضرار به ماديا ومعنويا.

25 جويلية 2025 تونس – لافتة احتجاجية من تحرك يوم الإعلان عن الجمهورية تنديدا بتحولها الى سجن كبير يرفض الاختلاف ويقمع أصحاب الرأي – صور نواة – مرك بن دخيل.

حسب الاستاذ الربيعي فإن ملف القضية وكل التدوينات والفيديوهات التي اعتمد عليها باحث البداية والمحكمة ليس فيها ما يفيد أن مراد الزغيدي تعمد نشر أخبار زائفة او اشاعات او اعتداء على حقوق الغير ولا وجود لاستعمال أنظمة معلومات والشيء الوحيد الذي يمكن تجريمه هو تضامنه مع زميله الموقوف محمد بوغلاب.  ويضيف:

القضية منذ انطلاقها تشوبها خروقات كبيرة، ليس هناك تلبس في القضية حتى تأذن النيابة العمومية بالإحضار وهناك تدوينات وفيديوهات لا يجوز البحث فيها باعتبار مرور أكثر من ثلاث سنوات على نشرها مما يعني سقوط الدعوى العمومية، بالإضافة إلى عدم وجود دليل على أن مراد تعمد نشر أخبار زائفة أو الاساءة أو الاعتداء على حقوق الغير، ورغم ذلك تم إيقافه والحكم عليه بسنة سجن وفقا للمرسوم 54 قبل أن يُخفف الحكم إلى ثمانية أشهر في الاستئناف.

نحن اليوم إزاء قضية نموذجية تمثل غالبية قضايا الرأي في تونس منذ صدور المرسوم 54 منذ ثلاث سنوات، تفتح الأبحاث في الشخص المعني الذي يُعتبر مصدر إزعاج للسلطة من خلال آرائه عن طريق وشاية أو تقرير بوليسي يجد استجابة فورية من النيابة العمومية التي تأذن بفتح الأبحاث وإحضار ”المتهم“ وبحثه ومحاكمته بكل سرعة وانجاز. ثم تضاف إليه قضايا أخرى من قبيل غسيل الأموال أو الارهاب أو التآمر على أمن الدولة ويظل موقوفا لفترة غير معلومة رغم انتهاء العقوبة السجنية في القضية الأصلية. في حين لا نجد هذه السرعة والاستجابة مع القضايا المرفوعة ضد أنصار السلطة الذين يتمتعون بحالة من الإفلات من العقاب رغم ممارستهم التشهير والتهديد بالعنف والتشويه وهتك الأعراض ضد كل من يعارض السلطة أو يعبر عن موقف ناقد لها.

مأساة عائلة مناضلة واجه أبناءها السجن مع كل الأنظمة الحاكمة

دائما ما تحمل قضايا الرأي في طياتها مأساة إنسانية للموقوف ولعائلته أيضا، رغم أنه ينتمي لعائلة الزغيدي المناضلة منذ عهدي بورقيبة وبن علي ومن قبلهما الاستعمار الفرنسي، نشأ منذ طفولته على وقع الاعتقالات والمحاكمات التي لاحقت والده صالح الزغيدي وأعمامه يوسف والبوراوي الزغيدي وغيرهما، وقصص نضالات جده المناضل الوطني جورج عدة في وجه الاستعمار الفرنسي ومنافيه ومعتقلاته. رغم ذلك كان إيقاف مراد بمثابة ”الصاعقة التي نزلت على العائلة“ حسب ما صرحت به شقيقته مريم الزغيدي:

لقد كان اعتقال مراد بمثابة الصاعقة، كارثة بأتم معنى الكلمة، منذ ذلك اليوم ونحن نعيش على إيقاع الزيارات ولقاءات المحامين وإعداد القفة. الطعام في حد ذاته ليس هو المهم بالنسبة لمراد بل الإحساس بأنه مازال مرتبطا بالحياة خارج أسوار السجن وبالدفء الإنساني. زيارة السجن لإيداع القفة أصبحت عذابا حقيقيا حيث نقف لساعات طويلة بعد مسيرة مرهقة على الاقدام يُجبر عليها الجميع من مسنين وأمهات وحوامل، الكل يمشي بمحاذاة الجدران تجنبا لأي إشكال قد يقع، الوقت المخصص للزيارة قصير جدا وبالكاد نستطيع الاطمئنان عليه ونتبادل السؤال عن أحوال بعضنا البعض.

30 جويلية 2024 تونس – مريم الزغيدي في تحرك أمام محكمة الاستئناف مطالبة بالعدالة لمراد ولباقي سجناء الرأي – صور نواة- سيف الكوساني

مريم الزغيدي ليست فقط شقيقة مراد بل هي ناشطة حقوقية ونسوية، تشارك في كل التظاهرات المناهضة للقمع والاستبداد قبل وبعد إيقاف شقيقها، وبرزت في التظاهرات الأخيرة للمعارضة حاملة قفة السجن لإبراز معاناة عائلات معتقلي الرأي والمساجين السياسيين. وبطبيعة الحال تتصدر الوقفات والتظاهرات والندوات الداعية إلى إطلاق سراح مراد الزغيدي سواء كان ذلك أمام المحكمة الابتدائية في باب بنات أو في نقابة الصحفيين. بتصريحاتها القوية والحازمة تقف مريم حاملة لافتات ضد القمع وترتدي قميصا فيه صورة لمراد وعليها الكلمة التي دافع بها عن حقه في التعبير وتحمل المسؤولية خلال محاكمته « J’assume ». تضيف مريم:

ما يثير فينا الغضب هو الظلم المتواصل الذي لا نجد له تبريرا، انا أستمد قوتي من قوة مراد وصموده ووفاءه لنفسه داخل سجنه. مراد يستلهم صبره من تاريخ عائلته وأجداده الذين عرفوا الاستعمار والترحيل القسري والتعذيب وظلمات سجن برج الرومي، يقارن ما يعانيه اليوم بذلك الماضي وهو ما يمنحه القدرة على التحمل، قضية مراد الزغيدي قضية عادلة تجمع حولها الناس من مختلف التوجهات.

صورة ورابط العريضة الالكترونية المطالبة باطلاق سراح الصحفي مراد الزغيدي

مراد الزغيدي وبرهان بسيس وشذى الحاج مبارك وسنية الدهماني وعبير موسي وشريفة الرياحي وعبد الله السعيد وسعدية مصباح ومعتقلي قضية التآمر وغيرهم من الصحفيين والنشطاء في المجتمع المدني والسياسي، جميعهم يشتركون في خضوعهم لمحاكمات سياسية شابتها خروقات إجرائية وقانونية تحدث عنها لسان الدفاع بإطناب، محاكمات تحدث عنها المحامون بكل يأس من عدم فاعلية دورهم في الدفاع عن منوبيهم باعتبار علو مبدأ التعليمات على مبدأ استقلالية القضاء عن السلطة السياسية وقرينة البراءة، والنتيجة هي أرقام أخرى تزداد في سجل ضحايا القمع والمحاكمات الجائرة التي شملت الجميع دون استثناء.